الثقافية

حسين نعمة … يا حريمة وغريبة الروح.. وحكاية الحزن الذي لا ينقطع

((وان – متابعة))
من جنوب العراق، من الناصرية تحديدًا، مدينةً تغرق بغبارها كل يوم، لكن الفرات الذي يشطرها الى نصفين متناظرين، يعيد هذا الغبار الى الأرض حينما تُرش شوارعها مساءً بمياه النهر الوادع، هناك وفي تلك الأجواء ولد حسين سيد نعمة سيد لفتة سيد عزيز المَيّالي في عام 1944، وهناك بدأ حسين يحبو في شوارع مدينة متعامدة كأنها صليب، وهناك بدأ يكبر في مدينة تفتخر بأبنائها الذين شقوا عنان السماء شهرةً، أعني بهم ناصر حكيم وداخل حسن وحضيري أبو عزيز، وغيرهم من مطربي العراق الاوائل الذين اختطوا طريقاً أخر للأغنية في العراق، بعد أن كانت الاغنية البغدادية تعاني من السذاجة المفرطة، والبساطة في المعاني، لكنها تطورت زاحفةً نحو الريف الصاعد انذاك، في بلد يتلمس خطواته نحو تغيير بوصلة الحياة العراقية.

في العام 1964 يكمل حسين نعمة معهد اعداد المعلمين، ويعين في أقصى جنوب الناصرية (الجبايش) معلمًا، وهناك يبدأ بتقليد داخل حسن واغانيه في حفلات خاصة، لكن روحه المليئة ابداعًا لا تستقر ولا تلوي على أرض، فيشد الرحال نحو بغداد حيث يلتقي ابن مدينته الشاعر الراحل كاظم الركابي الذي يعمل في اذاعة بغداد وهناك يعطيه كلمات أغنيته الأولى ” يا نجمة”، فيتلقفها كوكب حمزة البصري المغرق هو الأخر في عشق الأغنية العراقية، ومن هناك تبث في العام 1969 اذاعة بغداد أغنية يا نجمة التي ولدت من رحم لقاء الثلاثي البارع، فتضرب شهرتها الافاق، ويكتشف الجمهور العراقي صوتًا وصفه الناقد العراقي الراحل عادل الهاشمي” لم يكن حسين نعمة صوتا جديداً حسب ، بل كان تطريباً جديداً أيضاً، موجهاً إلى أذن جديدة لأنه انطلق من بيئة ثرية، واغترف من ينابيع الطبيعة، حيث جلا صوته عن الحان عميقة الأثر، بليغة المعنى لحنها له فنانون مبدعون منهم محمد جواد اموري وطالب القرغولي. كما كتبها له شعراء مرهفون، وكانت الألحان والقصائد تركيزاً للروح وتعميقاً للنبض الفولكلوري والشعبي الأصيل.

أنها اغان مارست كل فنون التعبير عن شتى العواطف البشرية. وسيبقى حسين نعمة الصوت الذي تقطر منه حلاوة حقيقية قل ان نجدها في صوت من الأصوات. إذ تفصح نبراته المطربة عن عاطفة انسانية شاعرة، ذات ابعاد واقعية، تجعل منه بلاشك عندليب الشاطئين“.

بالفعل حسين نعمة دخل العقد السبعيني كواحد من جيل خطير وسيترك اثره على الحياة العراقية بتفاصيلها، جيل ولد من رحم اليسار العراقي الذي انتج ثورتهِ الكبرى في الفن والآداب والموسيقى، وسيكون فضاء الاغنية الحقل الاكثر تجريباً لكسر رتابة الحياة العراقية، ومن هناك سينطلق في فضاءات اوسع ملحقاً في اجواء بغداد التي كانت تشبه المرجل، وتستقبل كل جديد يأتيها من جهاتها الاربع المفتوحة.

لقِبَ الفنان والمطرب العراقي حسين نعمة بالصوت الحريري الدافئ من قبل غالبية الملحنين العراقيين مثل كوكب حمزة وطالب القره غولي و عباس جميل و الملحن المرحوم كمال السيد ورضا علي و محمد جواد أموري وهؤلاء هم عمالقة الموسيقى العراقية، وقد غنى المطرب حسين نعمة من ألحان معظمهم.

يا حريمة حكاية ايقونة في الغناء العراقي!

وعن حكاية اشهر اغاني حسين نعمة يقول كاتبها الشاعر ناظم السماوي ” رغم ايام السجن الثقيلة في سجن نكرة السلمان في اوائل الستينات من القرن الماضي الا ان المصادفات الجميلة القت في طريقي فتاة رائعة الحسن كانت تاتي لزيارة شقيقها في السجن تبادلنا النظرات لياتي بعدها الحب الذي ارقني كثيراً ليشتعل اكثر بسبب الزيارات المتكررة للسجن، قلت لها مرة هل تنتظريني بعد خروجي اجابت بالايجاب، لأبني احلاماً ليس لها حدود، لكن الذي حدث كان صدمة كبيرة لي فقد انقطعت عن الزيارة وعند سؤالي لشقيقها عنها اجابني بانها تزوجت.

حينها امسكت قلمي لأكتـب لها (يـاحـريمة) وكانت فاجعة لقصة حبي الاول الـذي انتهى بالخـذلان. وظلت معي ثم اعطيتها للملحن الكبير محمد جواد اموري فظلت عنده لاكثر من عام ونصف العام ثم لحنها بعد وفاة زوجته.

ولم تكن ظروف ملحن “يا حريمة” افضل من شاعرها، إذ فقد الموسيقار الرائد محمد جواد اموري زوجته “أم نصير” بعد مدة قليلة من زواجهما وهي في عز شبابها، رحلت عنه في وقت كانا في قمة سعادتهما، لكن رسول الموت حال بين هذين الحبيبين.

يقول أموري، إن “لحن يا حريمة لم يأخذ مني أكثر من ساعتين لأقدمه للفنان حسين نعمة بهذه الروعة الكبيرة”، فقد كانت أوجاع أموري تسبقه في سلّم الموسيقى لتقدم للذائقة الفنية “ذلك الطبق الذهبي”.

يا عضد يلّي شتالك عايش بفي النخل

يا ثلج وفراك طبعك .. ياطبع كلّك زعل

وانه ووعودك صفيت بلايه وعدك

وانه دمعات الحزن

شاتلها ظلّيت على خدّك

آنه سجّة درب سوّاني زماني

يا حريمة..

ولمن لم تسنح له ظروف الحياة السابقة معرفة معنى “سجّة درب” اي سكّة الطريق، فهي ذلك الممر الترابي الذي لكثرة السائرين فيه يصبح مميزاً بسبب ما مرّت به الاقدام، بمعنى ان الشاعر اراد ان يقول ان الجميع يحكي بمأساتي بعد ان اشتهرت بين الناس وعرف القاصي والداني حجم المعاناة.

يا زلف يتغاوى ويه الليل باطراف الكصيبة

هاك روحي الماغفت والطيف ما مره حبيبه

هاك جرحي الماتعطّب وانت عطّابه ولهيبه

هاك عمري الضاك حنظل وانت برحي

وحين جاء دور مطربها “ابو علياء حسين نعمة ” كان الشاب الجنوبي الجديد على صخب بغداد واجوائها المنفتحة مثقلاً بالجراح ويمر بأزمة عاطفية بعد فراقة عن زوجته السابقة ، فحزم امتعته وعاد الى الناصرية يئن تحت وطئة الالم والفراق والشوق اليها تلاحقه تجربة حب وزواج لم يكتب لها البقاء، غنّاها حسين نعمة بصوت يدمي القلوب، فقد أدت مقاطعها كل جوارحه وليست حنجرته فقط.

واشتهرت اغنية يا حريمة منذ مطلع السبعينيات حتى اليوم، وتعد إحدى اهم إن لم تكن ابرز اغنية في تلك الفترة، حيث فازت في استفتاء الاغاني الذي اقامته قناة الحرة عراق بثاني افضل اغنية عراقية خلال المائة عام الاخيرة.

فيما يقول الناقد العراقي المشهور في مقالة عن تجربة حسين وعن اغنيته ” ياحريمة” بالذات، إن أغنية “يا حريمة” هي تعبير عن معاناة شخصية، هذا ما توحي به في الكلمات والأداء، وكذلك “ردّيت”. ولا غرابة أن أجد أغنية “بيّن عليَّ الكبُر” أكثر مباشرة في هذا التعبير من كلتيهما. إنها حاجة مُلحّة، لا يُسهم فيها النص الشعري، ولا اللحن الذي وُضع لحسين نعمة شخصياً، ولا الأداء فقط، بل تسهم فيها الحنجرة ذاتها، لأني أشعر صادقاً بأن حنجرتَه تؤدي تنهدات، أو ما يشبه التنهدات، مُستمدةً من رئتين يلذع شرايينها الأسى كلذع دخان السجائر، ويستمدان هذان بدورهما رقةَ هذا الأسى من القلب المُحتضَن من قبلهما…!

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار