مقالات

“الخلافة” في ١٧ تموز

محمد عبد الجبار الشبوط:
مثل يوم ١٧ تموز ١٩٦٨ نموذجا لحدث كثير الوقوع في المجتمع الاسلامي، بل المجتمعات البشرية عامة، وهو استيلاء فئة من الناس على مقاليد السلطة بالقوة، وبدون الرجوع الى الناس واخذ رأيهم.
ويمثّل هذا الحدث خللا حادا في المركب الحضاري. وهذا هو التخلف بعينه في المجال السياسي. فالذي يستولي على السلطة بهذه الطريقة، والذي يرضى بهذه الطريقة، ويذعن لسلطة من هذا النوع، كل اولئك يعانون من هذا الخلل الحاد، وهم متخلفون سياسيا.
وقد حاول الاسلام معالجة هذا الخلل حين قرر ان الخلافة في الارض، اي الحكم، هو حق للبشر، وذلك في قوله تعالى”وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”. وفهم المتنورون من علماء الاسلام، كالسيد محمد باقر الصدر، ان هذه الاية تخوّل الجماعة البشرية حق حكم نفسها بنفسها. وهذه هي القاعدة الاساسية التي يقوم عليها الحكم الديمقراطي. وقد ناضلت الشعوب منذ القدم من اجل استعادة هذا الحق كلما تجاوز عليه طاغية. وهذا هو معنى كلمة “طاغية” المشتقة من الفعل “طغى” اي “تجاوز الحد في العصيان”، كما يقول الراغب الاصفهاني في “المفردات”. وحينما قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان جاء المسلمون الى علي بن ابي طالب لاعطائه الخلافة، فقال لهم:”إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم”، كما روى صاحب “البحار” وغيره. وهذا تأكيد لحق الجماعة في حكم نفسها بنفسها، وعدم جواز ان يتولى الحكم شخص بدون رضاها. ولما كان الامر جديدا على العرب، فقد بدأ الخلل يتسرب تدريجيا الى العقل العربي الاسلامي حتى وصل الى الماوردي (٣٦٣-٤٥٠ هجرية)، الذي بين في كتابه الشهير “الاحكام السلطانية”، اي القانون الدستوري لمجتمع المسلمين، حالات انعقاد البيعة لمن يحكم الناس، فتدرجت المسألة من اشتراط انتقادها بجمهور “اهل الحل والعقد”، وهو ما يعادل مجلس النواب في زماننا، الى جواز انعقادها بخمسة، او بثلاثة، او حتى بواحد، ثم اجازوا ولاية العهد، واجاوزوا “امامة القهر والاستيلاء”، كما قال القلقشندي (٧٥٦-٨٢٠ هجرية) في كتابه “مآثر الانافة في معالم الخلافة”. وما حدث في ١٧ تموز عام ١٩٦٨ ينطبق عليه العنوان الاخير، اي امامة القهر والاستيلاء، فقد استولى البعثيون على السلطة والناس نيام، ما عدا الذين اشتركوا ونفذوا عملية الاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة. هذا هو الخلل الحاد في المركب الحضاري في المجال السياسي، ولم ينتبه الناس الى ذلك، لان الثقافة السياسية التي كانت سائدة في ذلك الوقت لم تكن تتضمن فقرة “الحق الحصري للامة في الحكم”، ولا فقرة “عدم جواز الاستيلاء على الحكم بالقوة المسلحة”. فرضي الناس بذلك، او سكتوا عنه. ومن هنا قولي ان البعث حزب “متخلف” لانه يؤمن بجواز الاستيلاء على الحكم بالقوة، ولم يثقف اعضاءه وجماهيره على عدم جواز ذلك، كما يقضي المفهوم الحضاري الديمقراطي للحكم، بل قام بالعكس من ذلك حين خطط واعد ونفذ عمليتين للاستيلاء على الحكم في العراق، في ٨ شباط عام ١٩٦٣ وفي ١٧ تموز ١٩٦٨. في المجتمع الحضاري الديمقراطي لايرضى الناس ان يحكمهم شخص تولى الحكم والسلطة بدون رضاهم وتخويل واضح حر من قبلهم. ولا سبيل الى احراز الرضا الا بانتخابات حرة وشفافة يستطيع فيها الناخب الاختيار من بين عدة بدائل.
بعد سقوط الدكتاتورية البعثية الصدامية، كان المفروض ان يتم اصلاح هذا الخلل في المركب الحضاري، باعادة “الامر” الى اصحابه، لكن عملية الاصلاح اصيبت هي الاخرى بالخلل، بسبب عيوب التأسيس، وتولي الامر اشخاص لا يعرفون او لا يؤمنون بقول الامام علي الذي سبق الاستشهاد به.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار