مقالات

نعم بطران!

محمد عبد الجبار الشبوط:
علّق احد الاصدقاء على ما اكتبه بشأن الدولة الحضارية الحديثة ما يلي:
“الكثير من الناس سينظرون بازدراء الى مقالك هذا ويعتبرونك تتكلم عن مفهوم ميتافيزيقي لا وجود له في ارض الواقع او على قول المثل العراقي يعتبرونك بطران وجاي تسولف سوالف ما تهم الناس , الناس تريد وظائف وفلوس وخدمات وغيرها تعتبرها من الكماليات او الامور التافهة التي يمكن الاستغناء عنها , صدقني هكذا يفكرون وانا اعرفهم جيدا تحياتي لك.”
وهذا صحيح في ان الناس “تريد وظائف وفلوس وخدمات”. فالانسان بحاجة الى عمل، والى مال، والى خدمات جيدة لكي يكون بامكانه ان يتمتع بحياته. وهذا حق طبيعي اقرته الشرائع السماوية والوضعية على حد سواء. وهذا القران الكريم ينادي بالناس: “كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ”.
ولكن ليس من الصحيح قوله: ان الناس “يعتبرونك بطران وجاي تسولف سوالف ما تهم الناس”.
ذلك لان حديثي عن الدولة الحضارية الحديثة، والدعوة الى العمل على اقامتها، منطلق من حقيقة علمية مثبته وهي ان الرخاء والرفاهية والخدمات الجيدة وغير ذك مما يتطلع اليه الشباب الغاضب والمتظاهر والمحتج انما هو من مظاهر الدولة الحضارية الحديثة وثمارها. وهذا ما يمكن التأكد منه من خلال مراجعة مؤشرات السعادة والامان والقدرة الشرائية ومعدل الدخل الفردي والبطالة والتعليم والصحة والاجراءات الحكومية وغير ذلك. سوف نجد ان الدرجات العالية او المتوسطة او المقبولة في هذه المؤشرات متناظرة مع الدرجات العالية او المتوسطة او المقبولة لنماذج الدولة الحضارية الحديثة.
لا يملك احد عصا سحرية تعالج فورا البطالة والفقر وتردي الخدمات وغيرها من الظواهر السيئة في المجتمع. لان هذه الظواهر نتيجة مركب كلي سياسي اقتصادي اجتماعي اسمه الدولة. ان هذه الظواهر هي نتيجة الخلل الحاد في المركب الحضاري للدولة، انها نتيجة التخلف والفساد وسوء الادارة والتخطيط وسوء استخدام الموارد الطبيعية والبشرية للدولة. ولا يكون حل المشاكل بان يلتقي مسؤول كبير ساذج بعدد من الشباب العاطلين المتمردين ويعدهم بالتعيين في وزارة الدفاع. لا تدار الامور بهذه الطريقة.
للقضاء على هذه الظواهر لابد من اصلاح هذا المركب الكلي الذي اسمه الدولة. واقصد بالاصلاح الانتقال بالدولة من حالة الدولة المتخلفة/الفاسدة/ الفاشلة الى حالة الدولة الحضارية الحديثة. وعملية الانتقال هذه ليست قرارا فوقيا او ترقيعيا او زبائنيا يتخذه المسؤول الكبير الساذج، انما هي سيرورة تاريخية حضارية اجتماعية طويلة الامد، تحقق نتائجها بشكل تدريجي، وفق خطط عاجلة، ومتوسطة، وطويلة المدى.
لست على ثقة عالية بان القابضين على ازمة الدولة بهذا المستوى من الوعي والعلم والصلاح، فليس عندي امل بهم؛ لكن عندي امل بالشباب الغاضب والمحتج، لان بامكانهم ان يكونوا قوة التغيير الحقيقية. ولا قيمة للتغيير اذا لم تكن البوصلة واضحة وصحيحة الاتجاه. والاتجاه الصحيح، علميا وحضاريا، هو الدولة الحضارية الحديثة. الغضب والاحتجاج والتظاهر لا يكفي مالم يكن متسلحا بالعلم المؤدي الى الاصلاح، لان بناء الدول عملية علمية، ولان اصلاح الدول عملية علمية ايضا.
لقد وقفت منذ البداية وما زلت مع المطالب السليمة للشباب المتظاهرين، لكن هذا لا يكفي، لان الطريق الى تحقيق المطاليب مسألة مهمة، ومن هنا اقول: ان المطاليب يجب ان تؤطر باطار صحيح هو الدولة الحضارية الحديثة، ويجب ان توضع على سكة موصلة للهدف، والسكة هي العمل من اجل اقامة الدولة الحضارية الحديثة.
لا يوجد طريق غير ما قدمت. لان هذا هو الطريق الذي سلكته كل المجتمعات التي نجحت باقامة نموذجها للدولة الحضارية الحديثة، ولا شيء يمنع من سلوك هذا الطريق اكثر من الجهل به او الرفض له!

ملاحظة : ان كل ما ينشر من مقالات تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعتبر من سياسة الوكالة، وحق الرد مكفول.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار