مقالات

كتب الصحافي حسن النصار : مناجات فقير من بلدي

-حسن حنظل النصار –
بعد مراسم دفني بساعتين ، أقبل حارسان و قاما بإقتيادي إلى قاعة كبيرة ، كنت أتضوع جوعا و أكاد لا أشعر بحلقي من فرط العطش .
أحسست بحاجتي إلى النوم ، استلقيت في ركن و غبت في نوم الأموات . حلمت أنني سأذهب إلى الجنة . حين إستيقظت ، وجدت إمرأة بثياب رثة .هالني المشهد ، نسيت جوعي و عطشي ، أحسست برغبة شديدة في التقيء . لم تخرج غير خيوط بيضاء ، هي كل ما في أمعائي .
رأيت حارسا آخر ينادي في الأموات .
تذكرت فشلي في إجتياز مناظرة الدخول إلى كلية الحقوق . تذكرت ذلك الرجل السمين الذي كان يمسك ورقة قبالة مكتب الناظر ، مناديا ؛ فلان ينجح ، فلان يسقط ..تذكرت كل ذلك ، قلت في نفسي ؛ ربما حانت لحظة نجاحي في إمتحان واحد .4 عقود و أنا ألاحق إسمي في مكاتب التشغيل و في مكاتب السفارات و في أروقة الوزارات و في أعمدة الصحافة .
لقد مت الآن ، و لم يعد إسمي مهما .
أراهن بهذا الكفن الذي لا أملك غيره ، أن إسمي سيظهر أخيرا في صفحة الوفيات و في رخامة قبري .هذا الكفن الذي لم أدفع في ثمنه فلسا واحدا ، الرخامة أيضا .أبي هو من سيتكفل بكل شيء .سيكون من العادل لو عثرت على عمل في المكان الذي سيأخذونني إليه .
لو أخذوني إلى الجنة سأعمل ليل نهار ، سأخبؤ كل ما أجمعه عند الله ، سأشتري حجارة و إسمنتا و أثاثا جيدا ، سأشيد قصرا لأبي في الجنة . سيكون الله شاهدا على مهمتي ، و سيأمر ملائكته بمهاتفة أبي من السماء ، قائلين ” الله يبلغك السلام و يبوس جبينك الأسمر الطاهر “.
الله يهتم للصالحين .
الله يعلم ما في الصدور .
ألم يقل لنا الإنجيل و التوراة و القرآن ذلك ؟
الله سيشعر بما أكنه لأبي من محبة و إمتنان .
لن يقف مكتوف الأيدي أمام محنتي . سيحاول تصحيح الأمور .
سيشغلني في الجنة دون أن أتقدم إلى مناظرة .
أما .. إذا أخذوني إلى الجحيم .
لكن ،
لماذا يأمر الله ، الذي يعلم ما في الصدور ، باقتيادي إلى الجحيم ؟
إن كان سبب ذلك هذا الكفن الذي لم أدفع في ثمنه فلسا واحدا أو تلك الرخامة الموضوعة فوق قبري ، فأنا مستعد للتخلي عن الكفن و السير وسط الحشود عاريا كما ولدت . مستعد للتخلي عن تلك الرخامة .
مستعد لإلقاء جثتي في الوديان .
هل من أسباب أخرى ؟
الله يعلم ما في الصدور .
ألم يخبرنا موسى و عيسى و محمد بذلك ؟
حتى لو نادى ذلك الحارس بإسمي ، قائلا ” خذوه إلى الجحيم ” .
حتى لو حكم قاضي العدل بإدانتي ، فأنا لن أرضخ أبدا . و سأحتج .
لقد حرمت طيلة 3 عقود من أبسط حقوقي .
حرمت من طفولتي ، حرمت من الدفء في الشتاء ، حرمت من الضل في الصيف .. و في باقي السنة .. حرمت من أن أكون إنسانا .
في المدرسة ، تعرضت إلى الإهانة بسبب ثيابي الحقيرة و وجهي الشاحب .
في الشارع ، دهستني الأقدام و مرت فوق عظامي الهشة لأنني أبدو بينهم كحشرة .
لقد إنتهى بي الأمر إلى المكوث في البيت .
إلى النوم ساعات طويلة .
رجال البوليس كانوا يشعرون بتوتر كلما رأونني .
لقد إقتادوني في مناسبات كثيرة إلى مكاتب التحقيق دون سبب .
لقد كنت أسأل نفسي و أنا أفحص وجهي في المرآة ؛هل أبدو كحيوان مريض ؟
مجرم مسلح ؟ ، قاتل متسلسل ؟
النساء يشعرن تجاهي بالشفقة .
أما أنا فلم أكن أنتظر شفقة من إنسان .
الشفقة تشعرني أنني حشرة .
كنت أنتظر حقي .
كنت أطلب إحترامي .3 عقود من الآلام الحادة ، من الشعور بالخوف من البشر .. كيف يسمح الله باتخاذ هذا القرار المهين لذاتي التي طالما آمنت بعدل السماء !
سأحتج .
بلى ، سأحتج .
الحشرة الحقيرة التي دهستها أقدام الجحيم السفلي لن تصمت ، لن تهرب ، لن تنزوي ، لن تتخاذل في الدفاع عن حقها مرة أخرى .
لكن ، ماذا لو تم إقتيادي بالقوة إلى الجحيم ؟
ماذا لو أقبل بوليس العالم السفلي بعصيهم و أصفادهم و قاموا بكسر عظامي و حرق كفني و إقتيادي بالقوة إلى الجحيم ؟
هل أصرخ ؟
من سيهتم .
هل أمزق شراييني و أنتحر ؟
أنا ميت . الميت لا يموت مرة أخرى .
هل أتوسل لهم ؟
لم يرحموني في العالم السفلي ، فما بالك في بوابة الجحيم .
هل أقسم لهم أنني بريء و مهان و فقير ؟
الله يعلم ما في الصدور .لا فائدة .
الحشرة الحقيرة مآلها الجحيم .لكن ، لماذا يحدث معي كل ذلك .لم آت من عصابة تقتل الناس و تبيع أعضائهم.
أبي فلاح بسيط لم يظلم أحدا .
أمي لا تجيد القراءة لكنها تؤمن بالله و تصلي على النبي .
لم آت من مكتب زعيم حزب معارض .
لم آت من مكتب زعيم حزب حاكم .
لم آت من أغلبية ، جئت من أقلية .
لم أذهب يوما إلى الإقتراع ، لم أؤمن لا بخيمة و لا بدولة .
لم أكن سوى حشرة حقيرة تدوسها أقدام الجحيم السفلي .. و تمر .
الناس في الدنيا لديهم سجل حسنات و سجل سيئات .أنا لا أملك أي سجل !عملت في سن مبكرة في مصانع الحديد ، في حظائر البناء و في المزارع . سلخ جلدي تحت الشمس . و إستوطن البرد ضلوعي الخاوية.الله يعلم ما في الصدور .
يعلم أن جحيم السماء نكتة سخيفة أمام ما مررت به في الجحيم السفلي .
يعلم ما إقترفته الشياطين البشرية في حقي من إساءة و إهانة .
من المستحيل أن يسمح الله بالإساءة إلي و إهانتي مرة أخرى .
حتى لو قاموا بإقتيادي إلى الجحيم .
حتى لو سلخوا جلدي .
حتى لو دمروا أعصابي بالتعذيب .
حتى لو فقدت عقلي من خيبة الأمل .
حتى لو رأيت شياطين العالم السفلي تنعم بالهدوء و السكينة في النعيم ، بينما أحيا فصلا آخر من العمل في المصانع ، في حظائر البناء ، في المزارع ..
حتى لو لم يلاحظ المسيح جراحي ، و لم يتفطن موسى إلى صراخي ، و محمد لم يدل بشهادته الكاملة .
حتى لو قيدوني إلى عامود من سعير و رفضوا طلباتي الكثيرة في مقابلة الله على إنفراد .
حتى لو حدث كل ذلك .
سأظل أحلم بعالم آخر ينصف روحي .
عالم آخر ما بعد الجحيم و الجنة .
عالم لا أستطيع تخيله .
لكنني أؤمن بوجوده .
أشعر بدغدغة خفيفة في قشرة دماغي و أنا أفكر فيه .
فالله يعلم ما في الصدور .
ألم يخبرنا الإنجيل و التوراة و القرآن بذلك ؟
صدري مليء بالدخان و اللعنات و الكوابيس .
الله من حديقته يراقب .
تقول له الملائكة و الأنبياء ؛ كيف لحشرة حقيرة أن تتحمل كل ذلك العذاب ؟
يقول الله ، و هو يلاعب غيمة صغيرة ؛ لقد رأى كل شيء .. في الجحيم السفلي ، رأى ما هو أشد قسوة من سلخ جلده و تقييده بالأصفاد على عامود من سعير .

ثم يبكي الله .

تقول ملائكته ، و يقول الأنبياء ؛ كهنة و فقهاء من كوكب الأرض على الهاتف ، يا الله .

يقول ؛ أغلقوا الخط في وجوههم .
كم كذبوا علي .

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار