مقالات

ازمة العراق وشيعته

بقلم ليث كبة

في اجواء الحراك الوطني المستعر يبحث الجيل الجديد الرافض للطائفية والنفوذ الأجنبي عن بوصلة وطن وخارطة استقرار. لكن ثمة تلازما حاسما بين استقرار العراق واستقرار شيعة العراق بسبب اغلبيتهم العددية.
لن تستقر دولة في العراق دون وعي وطني عال عند غالبية مواطنيه. وما يزيد من أهمية الوعي الوطني عند شيعة العراق هو خصوصية العراق التاريخية في كونه حاضنة التشيع الأصيل. وما يزيد أهمية الدولة الوطنية لهم هو دورها في رعاية المواطنين وسد حاجاتهم الحيوية.

– دروس من الماضي الى الحاضر:

اسمحوا لي ان اروي قصة اجتماع مهم حصل قبل ربع قرن وذي صلة بأزمة العراق الحالية.
في منتصف التسعينات بدعوة من المرحوم السيد عبد المجيد الخوئي، اجتمع في مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية في لندن ما يزيد على مئة شخصية وطنية من وجوه شيعة العراق في المنفى لبحث أزمة شيعة العراق.
لعله كان اجتماعا نادرا في تلك الظروف، حصل بعد قمع الانتفاضة عام91م وتلاشي امل تغيير نظام صدام بعد فوز كلنتون في الانتخابات وتبنيه سياسة الحصار على العراق واحتواء صدام.
قمت حينها بتنظيم محاور النقاش وادارة الاجتماع، وناقشنا السؤال عن شكل وهوية النظام لدولة العراق الذي يمكن ان يحقق:
-1 اكبر قدر ممكن من مصالح شيعة العراق بصفتهم أغلبية مواطنيه و
-2- يخدم التشيع كمذهب عالمي له مرجعية عليا تاريخية وعالمية في العراق.

دار الحوار في أربعة أيام ومثل تنوع المشاركين آنذاك طيف الانتماء السياسي المتنوع (ملكي- ليبرالي-إسلامي- قومي- يساري- الخ). قدم المشاركون ما يزيد على أربعين ورقة (نشرت بعضها مجلة الموسم الثقافية) وقمت بتلخيص الحوار حينها في مسودة كراس نشرتها مؤسسة الخوئي في نسخة معدلة عام 2002 في كتيب بعنوان (ازمة شيعة العراق).
.
اختلف المشاركون في الكثير الا انهم أجمعوا على موقف واحد في الاجابة على السؤال أعلاه في أن افضل ما يحقق مصالح شيعة العراق هو دستور ونظام لعراق وطني ديمقراطي مع ملاحظة خصوصية الكرد في كردستان.
كانت قناعة الحضور ايضا ان على الشيعة (باعتبارهم أكثرية المواطنين) طمأنة بقية المواطنين بتنوعهم (الكرد والسنة والمسيحيين والاخرين) في أن الحل هو في عراق مواطنة وحريات قادر على استيعاب الجميع.

اشتد الترقب حول شكل النظام الآتي، قبيل احتلال اميركا للعراق عام 2003، وقبل أشهر منه اصدر مفكر شيعي (بيان شيعة العراق). لم يؤيده حينها المرحوم السيد عبد المجيد الخوئي وامتنعت أنا أيضا عن التوقيع على البيان لتجنب التسييس الطائفي عند المواطنين.

انفجرت بعد الاحتلال فتنة طائفية دموية وتضاعفت مع انتشار الإرهاب السلفي واستهدافهم مناطق الشيعة بالمفخخات وتمزيقهم النسيج الوطني وخلط الأجندات السياسية بالطائفية والمحلية بالدولية.

ادناه ملخص رؤيتي عن الدولة والوطن في ضوء الأزمة الحالية التي يمر بها العراق وشيعته:

–1 وطنية شيعة العراق:
ثمة ارتباك عند البعض من المواطنين الشيعة في صلتهم بالوطن وولائهم وهويتهم وانتمائهم له. الخطر ان يتطور هذا الارتباك بتغذية اجندات أجنبية ليصبح تشوها مستمرا يضر بمصالح العراقيين عموما والشيعة خصوصا.
يتفاقم الارتباك بسبب مكائن دعاية محترفة تروج لأدلجة سياسية وتتلاعب بالمشاعر الدينية وتريد تسفيه هوية العراقيين الوطنية وتوظف جدليات تبدو دينية مذهبية ومقبولة لكنها مسيسة بامتياز. المطلوب من نخب شيعة العراق فضح حملات التشويش عبر توعية شباب الشيعة بأصالة التشيع في العراق، وبصلة مصالحهم بمصالح دولة العراق. ستبقى مرجعيات العراق الأصيلة حامية للتشيع من أفكار وطغيان الغلاة، ومانعة لعزلة الشيعة عن عامة المسلمين وبقية الشعوب.

-2 صلة شيعة العراق بإيران:
صلة ايران بالعراق أقدم من صلتها بالإسلام، الا انها تعمقت وتعقدت بعد ظهور الإسلام. محصلة صلتهم التاريخية هو ان تشترك اليوم شعوب ايران والعراق في المذهب الاثني عشري وان تتمايز دولهم ونظم حكمهم، لخصوصياتهم الثقافية ولتمايز مصالحهم السياسية والاقتصادية.
طبيعي ان يحصل ذلك في شعوب اخرى، ولعل اقرب مثل هو التداخل بين شعوب اسبانيا وإيطاليا المشتركة في تاريخها الكاثوليكي وفي مرجعية الفاتيكان الدينية لهما والمتمايزة كدول في مصالحها السياسية والاقتصادية، والمتحالفة أيضا عبر الاتحاد الاوروبي. فلن يقبل الاسبان او الايطاليون اليوم بتسلط احدهما على الآخر باسم الدين ولا بخلط حسابات مصالحهم السياسية والاقتصادية بالآخر بحجة ايمان شعوبهم المشترك بالفاتيكان والكاثوليك وعودة المسيح(ع). ويعمل كلاهما بنظم حكم حديثة متخلين عن جدليات الفاتيكان التي كانت تحكمهم بحجة سيادة المسيح (ع).

الفارق المهم هو ان ثورة ايران عام 1979م قد أسست لنظام سياسي جمهوري قومي وبرئاسة فقهية شيعية وتوجه سياسي وديني الى الشيعة في بقية الدول.

نتيجة ذلك نجد اليوم بضعة آلاف من مواطنين يعمل، وبدوافع دينية، في جماعات عراقية تعلن ولاءها لإيران وتضعه فوق ولائها للعراق. يشوه هذا التداخل حسابات المصالح بين الدولتين ويسيس المذهب، وقد يعرض التشيع وشيعة العراق الى مزالق وشبهات خطرة. المطلوب أولا هو التأكيد على مرجعية النجف العالمية والتاريخية والعمل برسائل المرجع الأعلى السيد السيستاني المتكررة التي وجهها الى الشعب العراقي عن الوطن والمواطنة، خصوصا في السنوات الأخيرة. المطلوب ثانيا هو الحسم في اعتماد مصالح دولة العراق السياسية والاقتصادية مرجعية عليا في الحسابات والمواقف. والمطلوب ثالثا هو تصحيح العلاقة مع ايران وجعلها ايجابية بناءة للطرفين، والدعوة الى تكامل مصالح بقية دول الجوار اقتصاديا وامنيا وثقافيا بما يعزز استقرار المنطقة ويعيد لها ازدهارها وكرامتها.

-3 تسييس الدين:
دخلت عدة حركات دينية سياسية تجربة السلطة والسياسة والحكم في العالم العربي والإسلامي في العقود الأربعة الأخيرة. فظهرت مدارس الإسلام السياسي المتنوعة التي تدعو الى الحكم الديني، وتخبطت في اجتهاداتها في تطبيق الإرث الفقهي والمذهبي. ظهر كثير منها باسلوب الأحزاب السياسية الحديثة، ومنها ما اعتمد الحزبية الطائفية. اجمالا كانت تجاربهم صعبة مرة او مدمرة.
من المؤسف والمحزن ان تصبح تجربة العراق من الاسوأ في تجارب تسييس الدين، خصوصا ان الحكم قد استقر منذ 2005 بغالبية أحزاب دينية. ظهر في العراق داعش والقتل الطائفي ونهب المال العام باسم مجهول المالك، وتسفيه الوطنية بحجة أممية الدين وجرى استبدال العلوم بالخرافة وصناعة الطقوس بدلا عن العمل الصالح، فازداد الشر والضنك وقل الخير من الجماعات التي تتسمى بالدين ولها ممارسات شيطانية مقرفة. فلا عجب ان تزداد ردود فعل الناس ضد الاحزاب الدينية.

لذلك، ومن أجل احترام الدين ومؤسساته في مجتمع سليم متوازن، علينا جميعا رسم الحدود الفاصلة بين الدين الذي ندعو الى قيمه وبين تسييس الدين الذي يدعو اليه طلاب السلطة والمصالح الشخصية. علينا التشدد خصوصا في مراقبة ومتابعة ومعاقبة من يرتكب القبائح والفواحش والجرائم باسم الدين و يختبئ خلف شعاراته وطقوسه.

-4 رسالة العراق الحضارية: ينتظر العالم عودة شعب العراق الى مساهماته وفاعليته وتواصله الحضاري. فقد تميز العراق عبر التاريخ بتنوعه وهو مهد الحضارات وآخرها حضارة المسلمين التي انتهت بفوز المغول بغداد. في العراق مهد إبراهيم (ع) وهو النبي لأكثر من نصف سكان الارض، وفي العراق اخر خلافة راشدة لأكثر من مليار مسلم. سيبقى الدين في العراق أصيلا ورصيدا وشرفا لنا جميعا. سيبقى العراق حامل رسالة حضارية وسيبقى أرض الحرية والاجتهاد والابداع والتنوع. سيبقى شعب العراق قلب ومحرك المشرق العربي وبنهضته سينهض كل العرب. العراق بانتظار جيل جديد يؤمن به ويعمل لاحياء دوره الكبير المرتقب في الفهم المتهور للدين ويقود فكرا جديدا ويساهم شعب العراق بقوة في الحضارة الإنسانية.

سينتصر العراق ويزدهر بعون الله وبارادة هذا الشعب العظيم.
عاش العراق حرا كريماً.

ليث كبة
24/01/2020

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار