الثقافية

سيناريو صوري لمسرحية: (التنور ) / جبار صبري

((وان – بغداد))
صورة 1: في البدء كان التنور

من غير نار ولا برق في ليل التاريخ العميق ولد تنور الطين، ولد قبل أن يولد الحرف والكلمات، قبل أن تولد أرغفة الخبز والحياة. ولد ليخبرنا عن تلك المعارك المخلوطة بهموم وأوجاع الحضارة والرجال الشجعان. ولد ليرسم بين حدقات العيون آلاف الرُقم والمسلات.

ومن قلب التنور ابتدأ قلم النار بخط تلك الكلمات التي هي نحن: نحن الذين ولدنا من طقوس الطين والمعارك والكتابة الأولى لا لنقول للتاريخ أن يجلس معنا على أرصفة الدموع والقهر والحضارة بل لنقول له اننا ولدنا وحسب.

صورة2: برق القصب

في العمق القريب ثمة فاصل من البرق المتوهج هناك والمتوهج هنا في الضمير. في العمق بدأ التنور يغلي بفم بارد اللهب، كان لسان النار يتحدث إلينا أكثر منه أن يوقد جمر الرغبات بالخبز. كانت النار سطور الراوي التي تخبرنا عن الولادات والمعارك والناس والرُقم..

ومن بين صمت وظلام ونار تكلم التنور وولد القصب وبدأت الاحشاء تلوكنفسهابنفسها من أثر الولادة. صار القصب يئن من نومة طويلة لم يخترها أبدا. صار القصب يئن هادئا ويوقظ القلب النائم فيه ويوقظ النار من جديد لترمي إلينا وابل الشجعان والمسلات.

قالت النار: ألم تر قلبي كيف يحدثكم عن الغرباء والشهداء والخبز المعجون بالذكريات.

قال القصب: ها أنا تموج بي شهقات ورغبات مؤجلة. تموج بي نزعات كل أغاني الناي والسكوت. ها أنا أعاين البرق مجرد حبات من الدموع المتوهجة في القلوب والذكريات الحزينة. أنا القصب. أنا الشاهد الحي الوحيد.

قالت النار: خذ عني هذه الذكرى وامض وحيدا في جنازة التاريخ ولا تخبر أحدا الا الغرباء.

قال القصب: أنا القصب ولا ذكرى غير معارك مرقومة على أرصفة التاريخ..

صورة3: الولادة

الآن انشق بحر القصب وبدأت الولادة. بدأت الأكف تلوح للعابرين من الذكريات بتاريخ من الأدعية والآمال والغرق القادم عبر صحاري الحياة وظلام الرغبات. بدأت الحياة من حيث ما انشق القصب وخرجت من بطونه الملساء أكف الصابرين والراحلين كالشهداء.

البرق يخطف عابرا، والتنور هادئا يتحدث ولا كلمات ولا شفة تنبس بما يمكن أن نسمع منه غير أنه يتكلم ولا يتكلم. أنه يقول كلّ شيء من حيث أنه لا ينبس بشفة غير شفة النار. اللسان هنا في بطن التنور ولودٌ ولكن من غير آهات ولا رفث ولا طين.

الآن توهج التنور بصمت يستفز من بعده كل كلام وحرب. الآن توهجت الولادة بأكف بيضاء الدعاء والحياة والكلمات. بدأت خطواتنا المقلوبة من ظلام وكتابة تخبرنا عن الحركة من بعد سبات. بدأ المسير في فضاء من غير جاذبية على قصب يتحرك هو الآخر من غير ريح.

الآن نحن نمشي: نمشي وندري أننا نمشي الى أين.. ندري الى أين..

صورة4: امرأة الطريق الخائفة

كغرق أكيد على قارعة طريق القصب تلوح الأيادي فزعا بالخلاص. تلوح وما من نجدة او مركب لقادم مجهول وخطوات مقهورة من قبل ان تبدأ مسيرها. المرأة والنار واللسان الذي يريد قول كل شيء من غير ان يتفوه بشيء كل ذلك لأجل البدء بالبرق والضياء صاروا يغنون أوجاع مسرات الولادة. الرقص والمجهول وعذابات من حرب لا سلام يأتي من بعدها كما لو أن غيما أسود يذهب الروح والبصر ولا مطر يأتي من بعده هي تلك الاغاني تنشد إلينا نحن الغرقى بكل تلك العذابات بشكل مصيرنا او تاريخنا، لا فرق.

أدخنة وتجامع مشوب بخطايا الخوف يمرّان في لوح البرق الحزين سريعا..

هو الرقص كالغرق اذن، يمرّ علينا نحن الموتى بطعم الحياة والمولودين من رحم قصب وتاريخ ومعارك. نحن الغرباء الموشحين بطين وخوف وحياة عظيمة. المرأة ترقص.. لا، الحرب ترقص.. لا، الخوف اللابد في النفوس الغرقى يرقص.. لا، أنا او أنتم من غير وجوه تنعكس على مرآة صافية نرقص.. نرقص ونرقص كالغرقى..

صورة5: انبعاث مجهول

ولد الرجال اذن، من قصب وطريق مجهول وبعث لا يعرفون عنه ولا منه غير اشارات الأكف التي تبحث عبر دعاء وسؤال عن السلام والضوء والطين الحري الآمن في الضفة او الجرف البعيد هناك في أعماق النفس او هناك في أعماق الرغبات والتاريخ.

الأرجل المقلوبة في مسيرها في الولادة الآن استقامت على قارعة الخوف والسؤال. الآن هي تدري قد استقامت وبدلا من المسير: مسير الاقدام في الهواء وعبر الهواء بدأ المسير على الارض وفي الارض. بل بدأ من حيث ما بدأت نفسي به تدري أنها هنا على مرمى من بوصلة مكسورة وتاريخ جوع وحرب وهجرة.

قال البرق: الخوف هناك من اليمين.

قال خوفنا: الخوف هناك من اليسار.

قال البرق: أنا من خلفكم شبح كالموت.

قال خوفنا: أنا من أمامكم شبح كالظلام.

وفي كل خوف تجر البوصلة دعاءها نحوه يزداد الطريق اشارات من معجزات الخوف والسؤال والدعاء. وفي كل يمين تتلاشى عن الوجوه صور الطمأنينة والحياة. وفي كل يسار تتلاشى الامنيات.

قال التنور: في الولادة تنكسر البوصلات وتضيع الطريق ولا يبقى الا نعيق المعارك اللاهبة لصدور الرجال.

صورة6: بزوغ فجر النخلة

وحين بزغ جذع النخلة بزغ احمرار كل حصن وطريق. لبس الخوف: خوفنا العميق عباءة الدم وبدأت الحياة من جديد ولكن بقلب الخطوات، وبدلا من المسير على الارض عاد المسير مقلوبا الى الهواء. الأرجل الى الأعلى والرؤوس في وحلة الطريق بين أعين لا ترى غير اقدام عارية وعالقة بين سهام وخناجر الهواء القاني بلون الدم.

هي الأرجل تركض خائفة. تركض في هواء مقهور بدم وتنور لا يتحدث الا بكلمات النار والجذع شاهد من غير رأس. انه السجل الغريب والمسلة الصامتة وبذات الوقت انه تاريخنا الذي يدفعنا عن برق وخوف الى كل مسير مقلوب.

حين بزغ فجر النخلة بزغت كل أوجاع الخوف وبات البرق بسياطه الكبيرة يجلد رجالنا الشجعان، وبدلا من ان ينير طريقهم صار عماء ودماء. هي الأرجل اذن تركض كل ولادة ولكن في هواء مسحور بلونه القاني.

صورة7: طيور القصب

عادت الطيور الى رحم القصب ومن بعد عودة عادت ثانية الى طريق الولادة وبدأت يوما جديدا بالبحث والوجود. لا وجه للماء ولكن الوجوه الخائفة ما زالت معفرة بالغرق والخوف والضياع. لا وجه للماء إذ لا وجه لبوصلة واضحة او هدف جديد.

ان الماء هواء. لذلك هي تطير. هي تريد الماء هواء. هي كذلك طالما تنفست الهجرة الى الريح والقصب مسافات من الفرح والبقاء والغناء. الآن هي تطير. الآن يمسسها الخوف بقليل من الفرح والعمل والاتجاه. الآن ترغب بالتحليق لعبا في سماوات الدعاء والحضارة ومن بين طير وقصب وتنور طين ارتسم على جذع النخلة صوت الرجال والحضارة. ارتسم السؤال: اذا كانت الهجرة بقاء فلماذا الخوف اذن؟

صاح كل طير في الفضاء وفي الارض: اذهبوا هناك.. تعالوا هنا.. غنوا الى الحياة.. انظروا يمين الحروب وانظروا شمالها.. الريح تكتب على اجنحة الطير كلمات التنور وبلسان من نيران الخوف تغني بلا متجه او دليل.

ما زال الجذع شاهدا وما زالت الاغنيات قيد الحناجر والطير لا تنام على قهر او سؤال. الطيور التي هي من طين وقصب لا تنام. لكنها الآن قيد ولادة أخرى. ولادة مصير وأيام طعمها أبعد من الحرب وأقل مسافة من السلام. ولادة حضارة.

البرق يخطف والطيور: طيور الماء والهواء والقصب تبعث من جديد. تبعث كالبوصلة مرة أخرى. ولأنها طيور سارت والبرق من حولها عباءة خوف وميلاد وأختام وليال من حروب مؤجلة. كان الجذع يصوّر ذلك كرقيب وملهم في آن واحد. كانت السماء خيوطا تتدلى كأنها كومات من قصب وغيوم. الطير والخلاص اصبحت واحدة. أينما تلتفت لتعاين تحليقا ترى الخلاص في الأجنحة وسؤال خلاصها يتمدد فوق الماء والهواء وعلى جذع النخلة.

وحين لامس الطير أسمر الجذع الشاهد او الساكت أوجس منه خيفة. أوجس روح الطير التي هي أمصال وأوردة ذلك الجذع او التاريخ. وحين أوجس منه استشعر نفسه صورة التاريخ والشاهد والوجود والحضارة .

آنذاك هاجت الطيور وصارت مسافات الهجرة والبقاء تحليق وتحليق وصفق أجنة وبقيت الدروب: دروب الرحيل تغني البقاء والخلاص وأن الطريق المؤدية إليها صمت الحرب القادم الذي يتكلم إلينا بلسان لهب التنور الأخرس.

صورة8: ضيق الجدران ( حبس المغني )

اخفقت الأجنحة من فرط دم في الهواء والتفكير وعادت تلملم نفسها بين أحضان أتربة القصب وانكمشت على بعد برق وريح ونوم جديد ولما زاد انكماشها تفجّر الخوف زعيقا ناعما بين طبقات الصدور. من أي شيء تخاف ولأجل أي شيء تخاف. وعلام لا يطوي الخوف مسافة الحضارات بالسلام بدلا من ان يطويها بالحروب. هكذا كانت تغني من غير صوت كل الطيور الهاجعة ليلا في متاهات قصبها المموج على الطريق.

هذه المرة لا برق يلوح في أفق الأعين بقدر ما يلوح هواء أحمر وبعض دخان وترقب طريق. وعاد البحث مرة أخرى عن اتجاه. عادت الطير بشرا من تفكير ومخاض بوصلة. هنا بدت الارض بقعة في اليمين وبقعة في اليسار لا أكثر من ذلك واختصر الهواء والماء والطين بتلك البقعتين وبدأ السجن.

عند كل يقظة انسان يبدأ صباح السجن يغسل جدرانه بالضيق والحرمان والعجز وضيق المتجه. بدأ اليمين يبحث عن مسافة بين جدران السجن ترمي الى خلاصه كذلك بدأ اليسار ومن شدة ما دفعوا وتدافعوا بين تلك الجدران ولد العناء.

وصرت لا أدري أي الجدران أدفع: انها هنا في نفسي.. هنا أمامي.. هنا خلفي.. هنا في الأعلى.. هنا في الأسفل. إنها كالهواء من غير اجنحة تنشر الضيق في صدري.

هنا إذ عاد البرق عاد ايضا ومعه كل رعد الحنين وبلا صوت اقتلع صدري بالحزن والغناء. وبلا صوت صرت أغني مبحوح الجروح والامنيات. صرت أجر أذيال الحروب في نفسي ومع غيري. وبت عدوا في كل شيء بمثل ما بت صديقا لكل شيء. حتى اذا بلغت مرمى الدموع والشحوب ضاقت علي الطريق وصرت أسيرا: أنا كل ذلك المحارب المنقوع بذل كل ذلك الأسر وبات جلادي يدوّن علي تاريخ المعارك.

العدو:أرأيت قتلي اليك كل مرة. أرأيت ذلك كله. وفي كل مرة تبعث من جديد لتقاتل عدوك.

الصديق: أرأيتني كيف أجر من بعد كل نصر هزيمة. من بعد كل انتصار توقع بي مخالب الحرب أسيرا فلا أدري اين الماء من وجهي أم أين الماء عن عطشي.

صورة9: سلسلة الحرب

وبلا راية حرب أعاين في مرآة القصب البعيد صورتي وأنا على حافة جلْد وجلْد. أعاين ذلك وفي نفسي بهاء النقاء والغناء والقصب. ثم أعاين إذ اعاين نفسي ذلك التنور الذي يكلمني كل حياة عن بدئي ومصيري ورجولتي التي تنعكس علي كصوت حضارة.

الآن أقاوم كل عدو. أقاوم نفسي ابتداء. ومن ثم لا فاصل بيني وبين عدوي الا فاصلة المعارك التي لا تنتهي: أنا أجر سلسلة الحرب بعيدا عنه لأدفع ازاء ذلك خوفي وجلادة عدوي وهو ايضا يدفع من أجل قهري. لكن البرق الخاطف سريعا حين يؤشر ذلك لا يمنحني الا صوت تاريخ للحرب والقهر والانتفاضة ثانية. ومن بعد يقظة يمرّ كل كابوس كالريح بلا قسمات.

صورة10: نصل الحلم

انكسر نصل الحلم واستيقظت عن كابوس مؤقت مرّ بي ولم أتنبّه له الا من مرارة ما بقي في النفس من خوف المعارك القادمة. نهضت من فراش النوم لألبس أغطية الحيرة والقلق والبحث ثانية. لألبس معطف السؤال: أين أنا؟ ولماذا كل هذا الكابوس المريع؟ لماذا أُطحن في معارك نفسي كل ذات عيش وهجرة طير؟

كلما مرّ الاشتباك بي: بين مدّ العدو وجزر الصديق. بين مدّ نفسي في مرآتي وبين جزر الصورة هناك بعيدا عني لوّحت براية الخوف والبحث عن طريق المعارك البعيدة جدا والقريبة في حبل الوريد جدا. لوّحت اليها بأنني قادم ولا أبالي..

صورة11: العودة الى التنور

ومن برد خوف او قهر عدت إليك لاجئا أيها التنور. أنت سرّ وجودي وأنت دفء حياتي. بل أنت الشاهد والرحم والمصير وأنت بقدر ما تكون عمري كلّه تكون معاركي كلّها. أنت الملجأ والحرب في آن واحد. أنت كلّ ذلك الصراع القديم الجديد والولادة وما من مناص الى التخلص من بردي ووحشتي وخوفي الا بك أيها التنور الثابت كلّ زمن وحرب وخوف.

ركضنا إليك نطلب الدفء. نعم ركضنا إليك وأنت تلهمنا صمتا بكلّ أشكال الحروب وتسعر فينا الرغبة الملحة بالمنازلة تلو المنازلة. أنت التنور ونحن لسانك.. هكذا حدثتنا وما على اللسان الا النطق بكلمات من نار وشواظ وبأس شديد.

صورة12 : في النار ماء التطهير

نحن هنا قريبا من التنور ونحن هناك في الطريق وعلى مقربة من جذع الشاهد والتاريخ.. نحن هنا نغسل بمياه النيران ونرش على أجسامنا شواظ النار من أجل ان نشعر بمغفرة الحرب بل من أجل ان نشعر بطهارة وجودنا او موقفنا من كلّ حرب.

المحارب يتطهر كثيرا بمياه النيران. إنه يغسل كلّ ذات معركة بها. وكلّما زاد من طهارة جسده بمياه تلك النيران كلّما رشّ على نفسه صدق حروبه منها وفيها وصدق شهادته او موته القادم لا ريب في ذلك.

ولموقف أشد كان من فرط ما يؤمن به المحارب أن حمل على ظهره صليب تلك النخلة بل صليب ذلك الجذع الشاهد الحي الوحيد لألف مجزرة ولا ذكرى. يحمل كلّ ذلك لا لأجل ان يعلن عن شهادته او شهادة موقفه بل ليعلن عن مسير تاريخه كله في نفسه ومسير موته المتجدد كلّ ريح او حركة قصب او ولادة طين وهواء.

صورة13: انتفاضة شجعان

يهتز القلب كثيرا وترتعد أوصال النفس اذا اهتز جذع التاريخ او النخلة لا فرق. وتعظم الغيرة أكثر وتصير المنازلة هبوب ريح او هبوب ابطال ومواقف فيتراكض الشجعان من أجل صمود ومن أجل هوية ومن أجل شهادة وليشهد كلّ جذع بما شدّ الشجعان من قمصانهم بالعزيمة والصمود.

ها هنا كلّ الأذرع نخيل.. ها هنا كل الشجعان شجاع واحد في مسلات من بطولة ورجولة وحضارة. ها هنا الموقف يصير هوية والهوية موقف صمود وبقاء. ما اهتزت نخلة في جنوب الا واهتز لها كل قلب غيور. حتى اذا اصبحت الارض نخلة أصبح الرجال لها أعمدة مسير وتمْر وعطاء وبهاء.

صورة14: فرح الفراشات

ومن نقاء الموقف والرجولة تزدهي الاهوار بالفراشات الطائرة من الفرح والنصر على حدّ سواء. آنذاك يلبس البرق الجميل صورة فراشة ويطير بين القصب والقصب والريح.

صورة15: الجندي المجنح

لطالما رأينا الكثير من الجنود يطيرون بأجنحة من حجر واختام البطولة. لطالما كانت اعشاش تلك الطيور سواتر المعارك النبيلة. وبين ساتر لمعركة وساتر زرعت نخلة لا لتقاتل وحسب بل لتسجل على أوراق جذعها الأسمر كل بطولة وشهادة.

صورة 16: في رحم كل نخلة جندي

البطن الذي يحمل الجنود الاوفياء بطن نخلة. يولد الجندي الشجاع من رحم نخلة. يولد فاذا انشقت البطن عن نخلة صار الجندي المولود حصنا أمينا لكل جنود الارض. صار يوزع على الجنود كتب السلام والمؤنة والانتصار. صار يهبهم جميعا القمصان والرايات وخوذ الأمان. صار الأم الرؤوف بهم جميعا والأب الراعي لهم جميعا.

ان الجندي المولود من بطن نخلة كان تمرا يعرفه جيدا ويعرف طعمه كلّ الفقراء والشعراء.

انه البدء كالحياة كلها. انه المسير نهارا..

صورة17: ولكل حيوات اعداء

كلما اشتعل فانوس الحياة اشتعل ايضا بالمقابل نعيق الظلام. كلما بلغ السلام صورة النهار بطلعته بلغ ايضا يوازيه ويعاديه شبح الحرب ولا يتبقى آنذاك الا المنازلة. في الصورة او داخل او خارج المرآة يكمن العدو. يتربص اللحظة المنزلقة التي تحول دون كل سلام. آنذاك ينتهز تلك اللحظة فيقتل كل نبتة او بياض او طعم حياة.

كذلك ينهض جندي النخلة ليقاوم. ليقاوم الحرب بالحرب من أجل السلام وليقايض دمه بأجمل سلام. ينهض وهو عازم على المواجهة فيتخذ من كلّ جذع نخلة حصنا ومن كلّ تمرة رصاصة مواجهة. هو يقاتل ويدري أن شهادته ولادة جذع جديد ينضح عنه ولادة مقاتل من تمر ونخل.

صورة18: خارطة حرب وشهداء

بين حدّ وحدّ في جغرافيا الوطن تسيل أنهر الدم لكل شهداء ذلك الوطن. انها صورة لسلام الحدود. وهي دليل او خارطة مواجهة لكل معتد. انها الفنار الذي كلما توغلنا برؤيته كلما زرعنا على طرقاته اشجار الشهداء الوارفة. تمر الخارطة في عيني كشاهد وفي ذات الوقت تمر أسراب الشهداء ليكون جبلا فوق جبل لا ليعلو بعيدا في متاهة السماء بل ليقترب كثيرا في يقين مواقف الرجال والبطولة.

صورة 19: سبي – كر

ويغدو الوطن ذات جرح حفرة يذبح فيها واليها كل مقاتل شريف. كل اعزل عن حرب او قتال. كل جناح طير لا يريد لهذا الوطن الا سماوات صافية. الاف الضحايا يمرون على حفرة القتلى وكأنها رحم حياة ثانية ولكنها رحم حياة توجع قلوب الوطن والامهات والحبيبات. في سبايكر تنكسر بوصلة الوطن ويمر الكثير من جنوده بالغدر على شاهدة المنازلة من غير عيون. يمرون وما من ذكرى الا ذكرى وطن نسي ابناءه ذات حرب.

الحفرة التي هي الماء والتراب والوطن تردم بوابل من الشهداء، وكلما استطاع الشهداء غلق فم الحفرة كلما عاد السلام الى الوطن وتذكر ابناءه وضحكت من بعد حزن وفقد الامهات والحبيبات. ضحكت العيون والنخيل وضحك من بسالة كل جندي ليقف ساترا من شهداء ليحمي بالكبرياء والدم كل نخلة.

الحفرة تردم بتراب الشهداء والنخلة تسيج بأجساد الشهداء والمنازلة على مرمى بصر من نصر وسلام.

صورة20: زورق النجاة

في قلب كل نخلة زورق نجاة والجنود العابرين هم الآن قد عادوا الى بطن تلك النخلة او بطن ذلك الزورق الذي تجلى عن جذع نخلة او تجلى عن شاخصة تاريخ. وبين مدّ الزورق على بحر من النجاة وجزر الحرب على مرمى من القتل والمنازلةيتأرجحالماءعابرابهمجميعاالىضفةالنصر. انه اليوم الذي يغني فيه الطير والماء والتنور.

يفيض الماء وتزدهر الاشجار من بعد طوفان صديق والطير من لذيذ فرح تتكاثر وتغني وترقص فوق الماء. ان مسير الجنود بالنصر هو مسير عودة الطير الى أهواره. عودة الاشجار والغناء. وبالتالي انها عودة الشهداء.

صورة 21: يورق الشهيد مدرسة وحياة

عندما نودع الشهداء الى طريق النخيل هناك في سجلات التاريخ تورق المدارس وتورق المقاهي ويصير الخبز والشاي والكثير من الرُطب الشهي بنات يتغنجن ذات صباح وطن سعيد.

صورة 22: انفجار

لكن وراء كل حيوات من سلام يتخاتل غراب الانفجارات والقنابل والرصاص. يتخاتل حيوان الحرب ليفجر نفسه بين الاسواق والمدارس والبيوتات الآمنة. ولا تعود الحرب اذ تعود الا بصور من قتلى من امهات او زوجات او اطفال او باعة على قارعة وطن لا ينام ليلة من غير دوي المعارك وبكل اشكالها.

وبقي التنور رغم انوف كوابيس الظلام والحروب. بقي ينطق بلسانه فورة البقاء والغناء.

صورة 23: الكتابة بقلم الاشلاء

تزهر الاجساد ثانية بعد كل انفجار وتولد من جديد. تقف كأنها تستيقظ ذات صباح على وطن من ورد وماء وطير وحرب. ويعاد الدرس: درس الحياة مرة أخرى. وهكذا في وطن المسلات نموت ولا نموت في آن واحد. وان الكثير ممن يذهب على سفر الشهداء يرجع الى الوطن فرحا بالحياة والوجود.

قال القصب: الحياة كتابة بين اشلاء الشهداء والانفجارات كُتبها العظيمة.

صورة 24: الأم تطش شعرها على الشهداء

قبل ان يُزف الشهداء الى قبورهم تزف الامهات قلوبها الى المقابر. ترمي خمارها. تقطع شعرها الى خصل من ذكريات وشيمة ابطال ودعوا جسر الحياة الى نهر السلام الخالد في مقبرة السلام. هنا الشهداء اجسام وعيون من جنود وضحايا وهناك الشهداء دموع وأنين قلوب الامهات. وما بينهما بحر من المعارك والدماء.

صورة 25: صلاة القتل الغريبة

أيعقل ان يقتل الانسان نفسه؟ هكذا يغني طير الماء الراحل بالشهادة الى الوطن والحياة. من علم الابناء سر ذبح الابناء. من علم الشقيق قتل او ذبح شقيقه. من يوزع في الطرقات ذبائح ابناء الوطن.

وفي كل قتل وعلى كل قتيل يصلي لا من أجل القتيل بل من أجل القاتل الملطخ بقدس ما يقتل ولأجله يقتل وهو قدس الجبناء وما تفسخ من عقائد.

هم يقتلوننا: يقتلون أخوتهم بالذبح وسفك الدم وجنود النخل حين يتساقط بين اياديهم جنود القتل وغربان الموت يسقونهم الماء ويبعدون عنهم شبح الخوف والأسر بل يرفعون عنهم كل قيود الأسر ويفكون كل سلاسل الحروب عنهم.

صورة 26: اطار الصور

في أعمق تلك السواتر وعلى بعد عن وطن وقرب من موت تلتقط الصور: صور الجنود والشهداء. هناك تكون الوثيقة وطن وتبلغ تلك الوثيقة طريقا الى الخلود لذلك تؤطر من تلقاء نفسها بكل فخر واعتزاز.

صورة 27: واذا التنور سجرت

وبعد كل وثيقة شهيد. وبعد كل ساتر ترجع الأم الى تنور الوطن والتاريخ والوجود لا لتخبز به بل لتسعره أكثر لكي يدوّن أكثر طريق الحروب والنار والماء والطيور. انها تدوّن تاريخ الشهادة بمزيد من تاريخ ايقاد النار في التنور.

صورة 28: صور الشهداء

كما قاتل الشهداء في معارك كبيرة وكثيرة ومن فرط الشرف تقاتل ايضا صورهم. تخرج من عباءة الوثيقة الصامتة لتنطق بالشهادة ثانية وثالثة كلما سنحت ساعة حرب أخرى.

في كل معارك الشرف يتشابه الشهداء. صورهم واحدة ومن حلاوة الشهادة تتمزق أُطر الصور وتصبح بنادق جديدة لتقاتل من جديد لا لشيء الا لتبحث عن طريق يوثق اعادة مركب الشهادة اليهم ثانية.

ان التاريخ والحضارة وجذع النخلة ساتر وان الجنود صور شهداء وان أطر تلك الصور بنادق والعدو قريب وبعيد في آن واحد. قريب لأن الصور تشتهي ملاذ الشهادة وبعيد لأنه خائب لا ينال شيئا من هذا الوطن.

وسيعود الناي الينا. يعود. وهو يتغنج بأطراف حزنه العتيق على حافة تنور مسجور.

صورة 29 : حلم البيت

كل الجنود لا يحلمون الا بحلم واحد. المعارك هناك تحت مرمى أعين الشهداء وما زال الحلم واحدا هنا . الحلم بيت من قصب وريح وطير. بيت من قصب فوق الماء وبين السحاب وقريبا من الريح والصوت العابر فيه او منه هو الناي..

صورة 30 : حلم السلام

ان الجرحى يمرون على كل الرؤوس الموبوءة بأمراض الحرب فيغسلونها وينظفون أحشاء أدمغة القتال من اوساخ الاسلحة والقتلى والمفقودين. يغسلون ذلك بمزيد من تطهير وتنظيف. ان مستقبل السلام حمّام يتطهر فيه ومنه كل الجنود المصرّين على الحرب.

صورة 31 : حلم العودة من الحرب

عيون التنور لا تنطفئ ابدا نظراتها لذلك كل الجنود يمرون على حلم واحد. انهم يعودون يوما الى آدميتهم. يعودون الى ذلك الانسان قبل ان يصير محاربا. ان قطار العودة يمر سريعا ولكن من دون حركة ولا صفارة انذار بالعودة. يمرّ ولا يمرّ ولكن وحده التنور يشهد بأن ذلك القطار العائد بالجنود بعد كل نهاية حرب مجرد وهم قطار وان العائدين الجنود وهم بشر.

صورة 32: في البدء كان السلام

هكذا التنور يسعر والجنود الآهلين بالماء والحضارة ينتصرون.

هكذا القصب طيور ومدافع ورسائل سلام.

هكذا الماء من فرط محبة الامهات يصير ثانية ابناء.

هكذا يورق جذع النخلة بالتاريخ مثلما يورق بأبهى الشهداء.

هكذا لا يبقى الا الناي والفرح.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار