المحلية

رَغيف الخُبز

رَغيف الخُبز

بقلم: حنين عادل

قبل شهر، صباحًا وبينما كان ناعِم المطر يروي جفاف الأرض، خرجتُ عائِدًا إلى عملي كَـكُلّ يوم، مررتُ بورود المدينة المنتعشة بالمطر، وجدران الأبنية التي رسمت الرطوبة عليها أشكالًا من الفنون. كنت ماشيًا خافضًا رأسي نحو برك الماء التي خلّفتها الأمطار المتجمعة في الشوارع، أنظر فيها إلى صورتي المنعكسة وتارةً أخرى أقفزُ عليها مُحدثًا صوت تطاير رذاذ الماء.
أخذتني رائحة الخُبز المُحمّص الممزوجة برائحة المطر إلى محل أبي أسعد الفرّان الواقع وسط المدينة، بصغر حجمهِ وروح المودّة التي يمتلكها منعكسة على طعم الخبز.
وقفتُ أمامه، هذه المرة لا لأشتري الخبز، فقد تشبّعتُ برائحته الشهيّة بل لأن شيئًا ما لفت انتباهي وجعلني أتسائل لبرهة من الزمن. كان هذا المكان الوحيد الذي تتزاحم الناس حوله منذ الصباح الباكر، طوابير طويلة تصل إلى عدة أمتار وهتافات حادّة لو تم تمييز أحد المُشترين على غيره، اليوم خاليًا تمامًا لا أحدَ هُنا سوى أسعد الفرّان. لطالما أخذتني موجة من الأفكار تدور في رأسي لكنّي تجاهلتُ كل ما دار بخلدي .
دخلتُ المحل، ناولني أسعد قطعة خبز طازجة وقال بصوت مشحون بألم: تفضّل
أخذتها لكنّي كنت مشغول البال بين أسعد وإختفاء الجميع. في فترة الصمت العميقة تلك أخرجني صوته من متاهة أفكاري وكأنه قرأ مايدور بداخلي من صراع.
ــ  ألم تسمع؟!
تنهّد قليلًا ثم أكمل : جيش الإحتلال الإسرائيلي فرض حصارًا على سكان المدينة وسلب مساء البارحة كل ما نملك من أكياس الطحين، وكأنه يحاول أن يشفي غليله بمجاعة الناس، ها هو الآن يُظهر الحقد الدفين المتراكم داخله، ولم يتبقَ لدي سوى عشرة كيلوات، لا داعي لمجيء أبي معي و لا لطوابير الناس، الجميع علِمَ بالأمر، تكفّلتُ بخبزها وتوزيعها علّها تُغذّي جوعَ طفل ليومٍ واحد.  
صمتُّ للحظة ثم قلت بإبتسامة يملؤها الحزن: كُنت أعلم كل شيء لكني تظاهرتُ أمام نفسي بالغباء، أخذتُ نفسًا عميقًا ثم أكملت : قبل أسبوع وجدوا جِثة طفل مرميًّا خلف أحد المستشفيات في الجانب الآخر من المدينة لم يكن جريحًا ولا حتى مريضًا لكي يموت بل كان جائعًا. 
أستقرّت نظراتي الشاردة على عسكري أظنّه ضابط وخلفه ثلاث جنود وهم يدخلون المحل، صوّبوا نظراتهم تجاه أسعد ثم تقدّموا بضع خطوات بجانب الفرن، إستدار الضابط بجسده اللعين نحو كومة الخبز، أشار لإصحابه بسبّابتهِ، أخذوا كل الموجود على الطاولة .
كانت النيران تَشتعلُ بداخلي، ورأيتُ الغضب الهائل الذي يعصفُ بصدر أسعد، إنتفض صارخًا بوجوههم، وهممتُ مُسرعًا لِأركُل الضابط. بسرعة البرق صوّبوا البنادق نحونا وأشعلوا نيرانها، مات أسعد وفَقدتُ أنا قدمي.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار