المحلية

يوم الجمعة الدافئ

رباب طلال مدلول

يوم الجمعة الدافئ، له مكانة خاصة في قلبي، حيث أنني أعيش طقوسي الخاصة في هذا اليوم منذ صغري. في كل صباح جمعة، أرسل التهاني بالمباركة للمقربين مني، ثم أذهب لتقبيل جبين والدتي العزيزة، وأقوم بترتيب كهفي الخاص، ذلك المكان الذي أجد فيه ملاذًا من صخب الحياة. أستمع إلى سورة الكهف بصوت المقرئ حيدر البزوني، صوته يحملني إلى أيام رمضان، تلك الأيام المليئة بالروحانية والطمأنينة. على الرغم من أنني لست فتاة متدينة، بل في الواقع، أنا بعيدة عن التدين، إلا أنني أحرص على التمسك بهذه الطقوس البسيطة، فهي الرابط الوحيد الذي يعيدني إلى الخالق العظيم، ويذكرني بأن هناك دائمًا أمل في العودة إليه.
لم أنشأ في عائلة كبيرة، كان عددنا خمسة فقط، وقد كان والدي يفضل أن نبقى بعيدين عن أقربائنا، لأسباب خاصة به. طوال حياتي لم أعرف سوى اثنين من عائلة أبي، عمتي الصغيرة وعمي الأكبر، أما البقية فقد كانوا مجرد أسماء لا تحمل لي أي معنى. قرار والدتي كان مماثلاً، فلم تكن ترغب في أن نختلط بعائلتها أيضاً، وكأننا كنا جزيرة صغيرة منعزلة عن العالم.
رغم صغر حجم عائلتنا، إلا أننا كنا متفرقين دائماً، كل منا يغرد في سمائه الخاصة. أذكر جيداً عندما تزوجت أختي الكبرى، كنت حينها في الثالثة عشرة من عمري، شعرت حينها بأنني فقدت والدتي الثانية، أو الأم البديلة التي كنت ألجأ إليها في كل شيء. استغرق الأمر مني عاماً كاملاً لأعتاد على فراقها، لقد كان شعور الفقد هذا مؤلماً، وكأن جزءاً مني قد ذهب معها.
كان والدي يحافظ على طقوس الجمعة بالذهاب إلى مسجد الحي في الصباح الباكر، حيث كان يقيم الأذان ويصلي خلف الإمام، في حين كانت والدتي تحيي الجمعة بأطباقها التي تعدها بإتقان لا مثيل له، لدرجة أنني كنت أعتقد بأنها درست فنون الطهي في جامعة أكسفورد. عندما كنت صغيرة، كان والدي يأخذني معه إلى سوق المدينة الكبير، ولكن بعد أن بلغت التاسعة، توقف عن اصطحابي بحجة أن الفتاة مكانها المنزل، وأنه من الأفضل لها ألا تخرج إلا للدراسة أو العمل. لم أكن أفهم ذلك في حينه، وكنت أبكي كلما خرج والدي، بينما كانت نظراته الحزينة ونظرات والدتي الغاضبة من المجتمع تخترق قلبي. كانت والدتي تخاطبه بلهجة جنوبية حنونة: “ديلا يا طلال، اخذ البنية وياك لا تبجيها، مو هاي العزيزة”، وكان والدي يرد بحزم: “البنية كبرت وعليها العين، والناس ماترحم يامرة، فهميها لبنتج هذا كله لمصلحتها”. وعندما يعود، كان يراضيني بأكياس السكاكر والمثلجات، وكأنه يحاول أن يخفف عني وطأة الواقع الذي فرضه عليّ.
والدي كان دائماً يفعل أشياء لا أفهمها، بحجة أنه يعرف مصلحتي أكثر مني. لطالما كان حازماً وقاسياً في بعض الأحيان، لكنه في نفس الوقت كان يحن عليّ عندما يعلم أنني أعود من الجامعة والسماء ماطرة، أو عندما تكون الشمس حارقة، فيسارع إلى استقبالي بسيارته المتواضعة، خوفاً عليّ من برد الشتاء أو حرارة الصيف. إنه والدي، الرجل الحنون،الأقرب إلى قلبي، حبي الأول، وخيبتي الأولى.
طوال هذه السنوات، أدركت أن كل قرار اتخذه والدي، وكل خطوة خطاها، كانت تنبع من قلبه المحب، رغم أنني لم أكن أفهم ذلك في صغري. كنت أراه قاسيًا في بعض الأحيان، لكنني الآن أفهم أن حبه لي كان دائمًا في قلب كل تلك القرارات الصارمة. لقد كان يخشى عليّ من قسوة الحياة وتقلباتها، وكان يحاول، بطريقته الخاصة، أن يحمي قلبي الصغير من الخيبات التي قد تأتي من العالم الخارجي،لكن الخيبات التي كان خائفاً عليّ منها ،جاءت منه،
ورغم كل ما مررت به، ما زلت أشعر بالدفء في كل جمعة، ذلك الدفء الذي يربطني بذكريات طفولتي، بصوت القرآن يتردد في أرجاء البيت، برائحة الطعام الذي تعده والدتي بحب، وبحنان والدي الذي لم أفهمه إلا بعد سنوات طويلة. قد تكون الحياة قد أخذتنا إلى طرق مختلفة، لكنني ما زلت أجد في يوم الجمعة ملاذًا يجمعني بأولئك الذين أحبهم، حتى وإن كانوا بعيدين عني جسديًا. يوم الجمعة هو اليوم الذي أشعر فيه بأنني جزء من هذا العالم، جزء من عائلتي، وجزء من ذكرياتي التي ستظل دائماً حية في قلبي.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار