العربي والدوليتقارير وتحقيقات

حافة الحرب: رؤية تحليلية في التحركات الروسية على أوكرانيا

((متابعة /الخلية التكتيكي))
تحت ذريعة مناورات عسكرية بين القوات المسلحة الروسية والبيلاروسية، يحتشد حوالي 130 ألفا من خيرة القطعات العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا مع روسيا التي تحدها شرقا، وبيلاروسيا التي تحدها من الشمال؛ كما ورصدت تعزيزات روسية متجهة إلى البحر الأسود الذي يحد أوكرانيا من الجنوب. عادة ما تنذر هكذا تحشيدات، عددا وعدة، إلى نية جدية (أو يراد لها أن تبدوا جدية) باحتلال واجتياح. وبصريح العبارة، اطلق الرئيس الروسي بوتين تصريحا ناريا تزامنا مع التحركات، طالبا فيه قوات حلف الناتو والولايات المتحدة بمطالب قد تبدوا غريبة: كإغلاق باب الانضمام لحلف الناتو وعدم قبول أي دولة أخرى فيه، والانسحاب الكامل لدول الحلف من أوروبا الشرقية، وعدم التدخل عسكريا لدعم أي دولة في أوروبا الشرقية في حال دخلت في حرب مع روسيا. أنهى بوتين مطالبه بتهديده بانه سيحتل أوكرانيا إن لم تُلبى المطالب. بالرغْم من غرابة الخطابات والتحركات الروسية وعدم وضوح سبب اختيار توقيتاتها، إلا أنها مبرر بشكل غير قليل. سنتطرق في هذا المقال للصراع الحالي على أوكرانيا وكيف انه قد يكون المسمار في نعش العمق الاستراتيجي الروسي، حيث تكون الجغرافية (كما كانت دوما) نقطة الضعف بقدر ما هي القوة للروس، وتحديا صعبا للقوات المسلحة الروسية.

بداية من الجغرافيا، التي هي اهم ما يدفع الروس حاليا لدق طبول الحرب، فان روسيا تقع على سلسلة من السهول المنبسطة المتصلة في ما بينها. تبدأ السهول من شمال الصين ولا تنتهي إلا في فرنسا، مارة على روسيا التي تتوسط سلسلة تلك السهول. بعبارة أخرى، فان الروس لا يفصلهم عن أهل الشرق ولا الغرب حدود طبيعية، فقبائل المغول احتلتهم عن طريق تتبع خط السهول القادم من الشرق ودمرت مدنهم وحكمتهم ثلاث قرون، بينما دخلهم جيش نابليون وهتلر من الغرب بسرعة فائقة، فوصل هتلر أسوار موسكو، بينما تمكن نابليون من احتلالها ونهبها. لضمان امنهم القومي، فقد تمكن الروس في القرون التي تلت المغول من احتلال سيبيريا، التي جعلت روسيا اكبر دولة في العالم وأمنت عمقهم الاستراتيجي الشرقي، أما من الغرب، حيث لا يبعدون إلا بضع مئات من الكيلومترات عن الدول الأوربية الغربية، فقد كانوا يعتمدون على استراتيجية الإبطاء، إذ كان الطقس في غرب روسيا باردا قطبيا في الشتاء، بثلوج ترتفع أمتارا ودرجات حرارة تفوق 37 تحت الصفر، أما صيفا فكان ممطرا رطبا طينيا ناشرا للأمراض. على هذا، امتهن الروس سياسة الأرض المحروقة والاستدراج للجيش المعادي داخل أراضيهم لتجويعه وتفتيته، بينما يقومون بهجمات غير نظامية منطلقة من الأحراش نحو خطوط إمداد العدو وقطعاته الرخوة. وبالفعل، فقد انتصر الروس بهذه الاستراتيجية على نابليون وهتلر انتصارا مبرما، فجيش نابليون الذي فاق 600 ألف خسر قرابة نصف عدده من جرّاءِ البرد والحر والأمراض، وبمصير مقارب ببعض الفروقات مع الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية.

بالعودة إلى غرب روسيا حيث تجاور دول أوروبا، فان روسيا تتصل بأوروبا بما يعرف “السهل الأوربي العظيم”، وهو ارض مسطحة عشبية كثيرة الأنهار، تبدأ ضيقة في فرنسا بمحاذاة جبال الألب، وتنفتح على مصرعيها كلما اتجهت نحو روسيا، حتى يقع الجزء الأوروبي من روسيا كله في هذا السهل، بمعنى أن الجيوش الأوروبية مسلطة جغرافيا على روسيا، ولها أفضلية هجومية كبرى. بإضافة أن الجيوش الأوروبية الغربية كانت في اغلب حقب التاريخ احدث تسليحا، وافضل تدريبا، وانجح قيادة؛ فان التحدي يصبح مضاعفا على الجيش الروسي لرد العدوان، وهو ما توضح في الخسائر الروسية الفلكية في صد الجيش الألماني.

في زمن الحرب الباردة، تطورت العقيدة العسكرية السوفياتية لسد النقص الجغرافي، ببنائها أضخم قوة مدرعة في العالم آنذاك، بما يمكن أن يخلق سدا متحركا من الدروع ضد أي محاولة لاجتياح روسيا من الغرب مرة أخرى، وقد كانت ناجحة في جعل قوات الناتو لا تفكر في مهاجمة الأراضي السوفياتية. بعد تفكك الاتحاد، انفصلت اغلب دول أوروبا الشرقية عن روسيا، بعد أن كانت تابعة لها لقرون من الزمان، واصبح العمق الاستراتيجي الروسي مكشوفا لأعدائها من الناتو، وما زاد الطين بلة هو انضمام دول سوفياتية سابقة وعلى راسها بولندا وتشيك وهنغاريا إلى حلف الناتو. من جهة أخرى، لم يتحمل الاقتصاد الروسي إدامة حجم القوات المدرعة التي تمتع بها الجيش السوفياتي العظيم، وبذلك خسرت أفضليتها البرية أيضا.

وسط كل هذا، تقترب أوكرانيا بشكل متسارع من المعسكر الغربي والناتو. أوكرانيا، الدولة المحاذية لروسيا التي لا تفصلها عن محيط موسكو إلا سهول منبسطة، ستكون نهاية الجيش الروسي إن دخلها حلف الناتو وانشأ قواعده على أراضيها. وفق تصريح لبوتين حول الموقف الحرج: يذكر أن طائرات الناتو ستحتاج إلى 7 دقائق لتقصف موسكو، أما صواريخه فستحتاج دقيقة واحدة. فضلا عن ما سبق، فان أي قوة برية تهاجم جنوب روسيا من أوكرانيا بمقدورها أن تقطع وصول روسيا للبحر الأسود وتعزلها بحريا عن منفذها البحري الأهم، إضافة إلى إمكانية الانطلاق نحو ساحل بحر قزوين لاحتلال كامل الجنوب الروسي بين البحرين. يزداد الوضع حرجا حين تكون الحلول أنكى من المشكلة؛ فالقراءات تشير إلى أن روسيا إن أزادت حماية عمقها الاستراتيجي وامنها القومي، فان عليها أن تحصن خط الحدود الروسي الأوكراني الممتد على مئات الكيلومترات كاملا، بما يعرض روسيا للإفلاس، كون اقتصادها غير قادر على تحمل نفقة ذلك. من جانب أخر فان الجيش الأوكراني على قدم وساق في إجراء تحديثات كبرى في العقد القادم، بما يجعل أي هجوم روسي على أوكرانيا عملا مكلفا بما يفلس الاقتصاد الروسي أيضا.

إن العقيدة العسكرية الروسية والتاريخ الروسي كاملا يمكن أن يلخص في جهود الروس لرتق الفتق في جغرافيا ارضهم. لكل ما ذكرنا أعلاه، فإن روسيا في موقف لا تحسد فيه عليه، إذ هي مخيرة بين خيارات أحلاهم مر، وقد يكون القرار في حرب اليوم قبل الغد، إذ إن الغد قد لا يعطي الدولة العظمى فرصة أخرى لحفظ عظمتها وامنها القومي؛ وعليه، فان استراتيجية حافة الحرب التي تمارسها القيادة الروسية قد تكون الورقة الأخيرة لإيقاف تطويق الغرب لها.

#الخلية_التكتيكية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار