بقلم كاتب صحفي / محمد جابر
ولجت الي الممر الواحد والخمسين لا أبحث عن أحد ولا عن شيء بعينه ربما كنت أفتش عن من لم تفسده الأضواء ولا التصفيق ولا الزيف عن من لم يبتلع صوته في الصمت الجماعي ولا باع ضميره من أجل أن يقال عنه إنه حاضر
الممر بدا كفراغ ممتد اختلط الوهم مع التظاهر حيث يتكئ على حكايات مبتذلة وأقنعة متقنة الوجوه تبتسم ابتسامات مربكة وتحتها كلمات مأخوذة من دفاتر المزيفين لا تحمل إلا تفاهة منمقة وهذا ما يستهويه البعض سماعه فصار من لا يستحق يتقدم ومن لا يملك ينصب وهمشت الثقافة واعتلت المنابر من لا علم لهم ولا رؤية أفلا تعقلون أيها المثقفون
وقفت أمام رجل يرتدي بدلة أنيقة وعيناه تلمعان بثقة مستفزة سألته من أنت فقال أنا النموذج الذي صنعتموه قلت ولكنك خدعت وضللت الكثير فقال بل أنتم من أردتم أن تخدعوا أنتم من صفق وأنا صدقت ومشيت في الطريق الذي فتحتموه لي
مضى وتركني أردد سؤالي الداخلي هل العيب في من خدعنا أم في من أصر على تصديق الكذبة لأن الحقيقة موجعة والوعي عبء والمواجهة تحتاج إلى شجاعة لم تعد كثيرة بيننا فقد كثرت أشباه المثقفين وكثر غياب الوعي بين الحضور واصبح الزيف عنوان لكل شيء
رأيت فتاة تحمل كتابا بغلاف أنيق كانت تلتقطه بطريقة استعراضية وكأنها تؤدي مشهدا بصريا فاقتربت منها وسألتها هل تقرئينه فقالت لا لكنه يبدو مثقفا قلت ولماذا تحملينه إذن قالت حتى لا أشعر بالغربة فالكل هنا يتظاهر وأنا لا أريد أن أكون الوحيدة التي لا ترتدي القناع
قلت ألا تتعبين من التظاهر فقالت التعب الحقيقي أن تواجه لا أن تخدع العالم قلت وهل يستحق العالم هذا الخداع فقالت لا أدري ولكنني أعلم أن الحقيقة توجع والزيف مريح وهكذا أصبحنا نفضل الراحة على الصدق
مضيت فرأيت جمعا يلتف حول شاشة ضخمة يظهر فيها رجل يتحدث بثقة والحضور يصفق بحماسة سألت أحدهم من هذا فقال لا نعلم لكنه مشهور فصفقنا معه سألته وهل قال شيئا يستحق فقال لم ننتبه كنا منشغلين بالتفاعل مع البقية وهذا حال الجميع
تساءلت بيني وبين نفسي هل أصبحت الكاريزما بديلا عن القيمة وهل صار الصوت العالي أكثر صدقا من المعنى وهل التصفيق صار دينا جديدا يوحد الناس خلف أي فارغ يتقن كلام يشبهه هل تغييب الوعي مقصود أم أننا أحببنا العمى لأن البصيرة تتطلب تضحية وصمود أمام الزيف
جلست على طرف الرصيف إلى جوار شاب يحدق في اللاشيء بصمت كأنه يقرأ نصا غير مكتوب سألته منذ متى وأنت هنا فقال منذ أن اكتشفت أنني كنت أصفق لمن لا يستحق قلت ولماذا توقفت فقال لأنني بدأت أسمع صوتي وسط الضجيج ووجدته نشازا لا يشبهني
سألته هل نبدأ من هنا فقال لا البداية ليست مكانا بل قرار أن تستيقظ أن تسأل أن ترفض أن تمشي وحدك لو اضطررت لأنك حين تبدأ وحدك فأنت قد بدأت حقا
في لحظة صمت لم نتبادل الكلام لكننا فهمنا بعضنا عرفت أن الممر الواحد والخمسين لم يكن نهاية بل بداية وبداية حقيقية لإدراك أن الوعي ليس رفاهية وأن قول لا في وجه الزيف لا يحتاج إلى جمهور بل إلى ضمير حي ويد تمسك بالهوية قبل أن تنزلق
في هذا الممر لم أجد أجوبة لكنني وجدت سؤالا لا يجوز تجاهله هل نحن جزء من الحل أم أننا ما زلنا نصفق مع الآخرين وما بعد الممر الواحد والخمسين إلا بوابة جديدة في انتظار من يجرؤ على العبور نحو الممر الثاني والخمسين
زر الذهاب إلى الأعلى