لقاء مع الفنان محمد حسين كمر: نصف قرن في خدمة المقام العراقي وحارسه الشخصي


__________________________
مشروع توثيق وتسجيل المقامات العراقية.. خطوة راسخة لحفظ التراث والهوية الثقافية ونقلها إلى الأجيال القادمة.
( The Part One)
حاورته: دنيا صاحب – العراق
تسطع في مسرح الذاكرة العراقية أنغام المقام الأصيل وتُجسّد حضورها عبر مسيرة ضيفنا اليوم، الفنان الدكتور محمد حسين كمر، العازف البارع على آلة الجوزة، الباحث والمؤلف في فنون المقام العراقي. انطلق مشواره منذ دخوله معهد الدراسات النغمية عام 1975، فشهد عن قرب تجارب كبار رواد المقام أمثال شعوبي إبراهيم وهاشم الرجب، ورافق بخبرته وأدائه أسماءً بارزة في مسيرة هذا الفن الخالد. جاب عواصم عربية وعالمية مقدّمًا المقام العراقي رسالة وهوية متجذّرة في وجدان العراقيين. في هذا الحوار، يكشف الفنان محمد حسين كمر بعض أسرار تجربته الممتدة لنصف قرن، ويستعرض رؤيته لتاريخ المقام العراقي ومستقبله في ظل التحولات التقنية والفنية المعاصرة، لنغوص معه في تفاصيل هذا التراث العريق.
• في البداية، نرحب بضيفنا المبدع الفنان محمد حسين كمر.. كيف تصف مسيرتك الإبداعية الموسيقية مع المقام العراقي؟
– بدأت مسيرتي الفنية الأكاديمية الحقيقية منذ دخولي إلى معهد الدراسات النغمية العراقي عام 1975، وكنت أحد طلبة الدورة الخامسة في المعهد، حيث كانت مدة الدراسة فيه ست سنوات بعد المرحلة المتوسطة، ويمنح شهادة دبلوم فن عالٍ تعادل شهادة البكالوريوس لأغراض التعيين في وزارة الثقافة. لذلك تُعد دورتي من الدورات المؤسسة لهذا المعهد الذي تأسس عام 1970 من قبل وزارة الإعلام العراقية في عهد الرئيس أحمد حسن البكر، وكان المعهد يُعد في حينه صرحًا ثقافيًا متفردًا على مستوى الشرق الأوسط في حفظ التراث الموسيقي العراقي المتمثل بالمقام العراقي.
وأثناء مرحلة الدراسة عاصرت غالبية الرواد والمختصين بهذا اللون الغنائي، أمثال أستاذي شعوبي إبراهيم الذي درست على يديه أصول الغناء وعزف المقام العراقي، وكذلك تعرفت على الأستاذ الحاج هاشم الرجب، خبير المقام العراقي. إضافة إلى مصاحبتي بالعزف على آلة الجوزة لغالبية قراء المقام الرواد أمثال: يوسف عمر، وشعوبي إبراهيم، والحاج هاشم الرجب، والدكتور حسين الأعظمي، وسعد الأعظمي، وحمزة السعداوي، وعبد الجبار العباسي، ومجيد العاني، وعبد الملك الطائي، وصلاح عبد الغفور، وحامد السعدي والكثيرين من رواد هذا الغناء. كما شاركت في مهرجانات عديدة في مختلف أنحاء العالم ضمن عملي في فرقة التراث الموسيقي العراقي التي أسسها الفنان الكبير منير بشير، لتقديم هذا اللون الغنائي التراثي في المهرجانات والمحافل المحلية والعربية والعالمية.
• إلى أي فترة يعود تاريخ المقام العراقي، ومن هم أبرز الفنانين الذين ساهموا في تطويره والعمل عليه؟
– إن فن الموسيقى والغناء في أي عصر من العصور هو انعكاس لحياة المجتمع وسلوك أبنائه، وهو أسلوب تعبيري صادق عن الأفكار والمشاعر والأحاسيس التي تتوارث عبر الأزمان من جيل إلى آخر. والمقام العراقي نوع من الغناء والموسيقى يعبّر عن أسلوب وتفاصيل حياة الناس وممارساتهم ونشاطاتهم الثقافية والحضارية. وقد اختلفت الآراء حول تاريخ ظهور المقام العراقي؛ فهناك من ينسبه إلى العصر العباسي، كما ذكر الباحث الموسيقي شعوبي إبراهيم، أما هاشم الرجب فينسبه إلى فترة الحكم العثماني في العراق، والتي امتدت خمسة قرون. أما أنا شخصيًا فأرى أن فترة النشأة وتطور هذا الشكل الغنائي تعود إلى العصر العباسي (750–1258م)، حيث كانت بغداد آنذاك مركزًا للإشعاع الحضاري الذي شمل مختلف العلوم والآداب والفنون، واستقطب طلبة العلم من أنحاء العالم. ويذكر الدكتور طارق حسون فريد أن بغداد كانت تضم مدارس كثيرة لتعليم الموسيقى والغناء، وقد ظهرت في هذه الفترة أسماء بارزة مثل: إبراهيم وإبنه إسحاق الموصلي، وإبراهيم المهدي، وزرياب. وفي هذه المرحلة اختلطت الألحان الحضرية والبدوية والقديمة والحديثة، ونشأت خلالها مدرستان:
مدرسة إبراهيم وإسحاق الموصلي، التي حافظت على الأساليب والأصول القديمة (الكلاسيكية).
مدرسة إبراهيم المهدي، الأخ الأصغر للخليفة هارون الرشيد، والتي شجعت على الخلق والابتكار والإبداع تحت مسمى الاتجاه الرومانتيكي.
وقد اعترض إبراهيم وإسحاق الموصلي على إبراهيم المهدي لاتباعه أسلوبًا مغايرًا في الغناء والبناء اللحني، فجاء رده بقوله: “أنا ملك ابن ملك، أغني كما أشتهي وعلى ما ألتذ”. ومن هنا نجد أن نشأة المقام العراقي ارتبطت بحصيلة ونتاج هذه الفترة التي تُعد من أهم وأزهى الفترات في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
وهكذا استمر هذا الشكل الغنائي بالتطور والتواصل من حنجرة إلى أخرى، ومن معلم إلى تلميذ مما جعله جسرًا للتواصل مع مختلف الثقافات. وما يزال المقام العراقي جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل الحياة والهوية البغدادية. وفن المقام من الفنون الغنائية الصعبة، لا يتمكن من أدائه إلا ابن هذه البيئة، وتحديدًا من يمتلك موهبة خاصة وقدرات صوتية ذات مساحة واسعة تمكّنه من الوصول إلى أخفض الطبقات الصوتية وأعلاها، بما يؤهله للتعبير الجمالي والذاتي الذي يبرز شخصية مؤدي المقام ويُميّزه عن أداء الآخرين.
أما في العصر الحديث، فقد شهدت الفنون تطورًا تقنيًا كبيرًا حيث أدى ظهور جهاز التسجيل الصوتي إلى إحداث انعطافة مهمة في مسار الحياة البشرية، إذ ساهم هذا الجهاز في حفظ التراث بصورة أوفر حظًا للفنانين الذين ظهروا منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم. كما ظهرت في بدايات القرن العشرين مدرستان للمقام العراقي كان لهما دور بارز في الاهتمام به وصيانته والتعريف به داخل العراق وخارجه، وهما:
المدرسة القندرجية: نسبة إلى رشيد القندرجي، وهي المدرسة الكلاسيكية المحافظة على الأصول والقواعد القديمة.
المدرسة القبانجية: نسبة إلى محمد القبانجي، وهي مدرسة التجديد والتطوير، المتأثرة بالثقافات الموسيقية المتنوعة.
• منذ متى بدأت فكرة مشروع تسجيل وتوثيق المقامات العراقية، وما هي الحوافز والخبرات التي أسهمت في إطلاق هذا المشروع الوطني الكبير؟
– بدأت هذا المشروع منذ عام 2010، حيث وُلِدت الفكرة من خلال جولاتي العديدة في مختلف أنحاء العالم، ومن خلال المشاركة في أكثر من 250 مهرجانًا تُعنى وتهتم بإحياء التراث للشعوب. لقد وجدت مدى اهتمام هذه الشعوب المتحضرة بإحياء والمحافظة على تراثهم الموسيقي والغنائي اللامادي، وكذلك من خلال توجه منظمة اليونسكو في تحفيز الشعوب على المحافظة على تراثهم من خلال دعم الجهات والمؤسسات التي تسعى من أجل حماية تراث شعوبهم من الضياع. فولد مشروعي الكبير (تسجيل وتوثيق المقامات العراقية) وذلك لأهمية المقام العراقي الذي يشكل مرتكزًا ومصدرًا للإبداع الموسيقي والغنائي، لما يتمتع به من إمكانات تعبيرية وجمالية تُسحر الأسماع وتساهم في تربية الذوق الفني الرفيع، وتضيف الجديد إلى الساحة الغنائية والموسيقية العربية عبر المحاولات المتواصلة من خلال الجهود الكبيرة التي بذلها الدكتور حسين الأعظمي، سفير المقام العراقي، والذي كان له دور كبير في إدراج هذا اللون الغنائي على الصعيدين النظري والتطبيقي، وأصبح تراثًا لاماديًا معتمدًا من قبل هيئة اليونسكو للثقافة والفنون ضمن تراث 47 بلدًا آخر.
وكذلك من خلال فرقة المقام العراقي، هذه الفرقة التي أسستها عام 1989 مع سيدة المقام العراقي فريدة محمد علي، حيث قدّمت هذه الفرقة حفلاتها في أكثر من 250 مهرجانًا وأكثر من 70 بلدًا في مختلف أنحاء العالم. ويأتي مشروع تسجيل وتوثيق المقامات العراقية بأسلوب تقني متطور ومن خلال أصوات احترافية ومؤهلات أكاديمية معروفة في الساحة الغنائية المؤدية لهذا الفن العريق، وهم: (فريدة – حسين الأعظمي – سعد الأعظمي – حامد السعدي)، والذين يضطلعون بمعرفة عميقة وأكاديمية لأصوله وقواعده الأدائية، محاولين مقاومة حركة النسيان والتشويه لهذا الفن الأصيل من خلال مشاركاتهم على المستويين العربي والعالمي، ساعين لتحقيق هذا الهدف الكبير.
• ما أهمية مشروعك في حفظ المقامات العراقية وهل حصلت على مبادرات لدعمه من جهات رسمية؟
– إن عملية تسجيل وتوثيق هذا الإبداع تُعدّ حفظًا لهذا التراث من الزوال، باعتباره مصدراً إبداعيًا غنيًا للأجيال القادمة وسيتم ذلك من خلال توزيع هذه التسجيلات على المعاهد الموسيقية المتخصصة، وكذلك المؤسسات الفنية والثقافية إضافةً إلى إصدار وطبع كتاب يتضمن كافة الشروحات العلمية والأكاديمية حول المقامات العراقية وطريقة تعليم أدائها للمستمع والقارئ. لقد قدمت مشروعي إلى وزارة الثقافة العراقية ومشروع “بغداد عاصمة الثقافة العربية”، ولكن للأسف لم يلقَ المشروع دعمهم، وذلك بسبب قلة وعي العاملين والمسؤولين بأهمية هذا المشروع الوطني الكبير. إن هذا المشروع يمثل إنجازًا ثقافيًا وفنياً، وعملية لإعادة إحياء تراث المقام العراقي الذي يُعد جزءًا مهمًا من التراث العربي والإنساني، كما يسعى المشروع إلى تنظيم ورش عمل موسيقية وغنائية في المعاهد الموسيقية والمؤسسات الثقافية والفنية في المنطقة العربية، ما يوفر فرصاً للجمهور العربي والعالمي للتعرف على طبيعة هذا اللون الإبداعي، الذي تعرض للإهمال بسبب الظروف السياسية والاقتصادية التي مر بها العراق والتي تركت آثارًا سلبية على منجزات الفن والثقافة. لذلك نطمح أن يكون المشروع نافذة للحوار والتبادل الثقافي مع مختلف الثقافات الإنسانية عبر عالم الموسيقى والنغم.
• ما دور الموسيقار نصير شمه في حفظ التراث الموسيقي العراقي عبر تعاونه معك في توثيق المقامات ونقلها إلى الأجيال القادمة؟
– الفنان الكبير نصير شمة فنان وإنسان مهذب، واسم نفتخر ونعتز به كعراقيين، لأنه رفع اسم العراق في المحافل الدولية. تعود علاقتنا إلى عام 1982، عندما كنت أستاذًا في المعهد، حيث درسته المواد الدراسية الخاصة بالنظريات الموسيقية والصولفيج والإملاء. واستمرت هذه العلاقة الطيبة منذ تلك الفترة، ولا تزال علاقتنا العائلية الطيبة مستمرة كزملاء وأخوة، نكن لبعضنا كل التقدير والاحترام. على المستوى الشخصي والفني، أفتخر وأعتز بأنه كان أحد أعضاء الفرقة التي أسستها في المعهد تحت اسم “الخماسي النغمي” عام 1985، وشاركنا بها سوية في عدة مهرجانات. الفنان نصير شمه فنان مجتهد وإنسان مهذب وخلوق، له دور كبير في نشر الموسيقى العراقية إلى العالم. وقد تعاونا كثيرًا في مجالات متعددة من خلال دعوته لي إلى بيت العود في أبوظبي وفي بغداد، وإلقاء بعض المحاضرات.
وعندما علم بمشروعي (تسجيل وتوثيق المقامات العراقية)، كان من أكبر المشجعين لنا، حيث أبدى استعداده الطيب لمساندة هذا المشروع البالغ الأهمية، الذي يحمل اسم وتراث العراق. وإن شاء الله، من خلال جهوده وعلاقاته الطيبة ودعمه لنجاح هذا المسعى، نتأمل خيرًا بأن مشروعنا هذا سيرى النور قريباً لأنه يدرك تمامًا مدى أهمية المشروع وتأثيره في حفظ تراثنا المقامي للأجيال القادمة.