منوعات

حين يحكم اللاوعي: التحيّزات الخفية في عقل الدولة

د. سيف الدين زمان الدراجي:-
في أروقة الدولة ومراكز صنع القرار، يفترض الكثيرون أن السياسات تُصاغ بناءً على معايير موضوعية، مدفوعة بحسابات عقلانية ورؤى استراتيجية محضة. غير أن التجربة التاريخية، والقراءات النفسية الحديثة للسلوك السياسي، تكشف أن تلك الصورة المثالية ليست سوى جزء من المشهد. ففي قلب عملية صناعة القرار، غالبًا ما يقبع عامل خفي، لا يُشار إليه صراحة، لكنه يترك بصمته العميقة على التوجهات والنتائج: إنه التحيز.
التحيز السياسي ليس دائمًا تعبيرًا عن موقف أيديولوجي واضح أو انتماء معلن، بل قد يكون تسربًا لا واعيًا لرؤية مشوهة عن الآخر، أو فهم قاصر للواقع، أو إسقاطًا لتجارب سابقة على قضايا راهنة. فصانع القرار، سواء أكان رئيسًا، وزيرًا، أو مديرًا لمؤسسة أمنية، هو في النهاية إنسان، يخضع لتأثيرات نشأته، وانتماءاته، ومخاوفه، كما يتأثر بمن حوله، وبالصورة التي يريد أن يحافظ عليها أمام جمهوره أو مرجعيته السياسية.
ولأن المؤسسات، بطبيعتها، لا تعمل بمعزل عن الأفراد الذين يديرونها، فإن التحيزات التي يحملها هؤلاء تتحول مع الوقت إلى ممارسات إدارية، ثم إلى سياسات عامة، وأحيانًا إلى استراتيجيات دولة. وهكذا، يصبح ما هو فردي في الأصل، شأنًا عامًا بامتياز.
وتزداد خطورة التحيز حين يتعلق الأمر بقضايا الأمن القومي. فصانع القرار الأمني لا يتعامل فقط مع ملفات داخلية عادية، بل مع ما يُعتقد أنه يمس وجود الدولة ذاته، وسيادتها، وتماسكها الاجتماعي. وفي مثل هذه الملفات، يُتوقع أن يكون التحليل عقلانيًا، غير أن التحيزات في هذا السياق تأخذ شكلًا أكثر تعقيدًا وعمقًا. فهي لا تكتفي بتلوين الرؤية، بل تُعيد إنتاج مفهوم “التهديد” وفق خرائط و إسقاطات ذهنية لا تخضع دائمًا للواقع.
في خمسينات القرن العشرين، وفي ذروة الحرب الباردة، ظهرت في الولايات المتحدة ظاهرة “المكارثية”، نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي، حيث شهدت البلاد موجة من الاتهامات العشوائية ضد المفكرين والفنانين والأكاديميين بتهمة الانتماء إلى الشيوعية أو التواطؤ مع الاتحاد السوفيتي، دون أدلة مادية واضحة. كان مجرد الانتماء السابق أو الارتباط الاجتماعي بشخص له ميول يسارية كافياً لتدمير سمعة إنسان ومسيرته. هذا التوجه يعكس تحيّز الانتماء أو الولاء (In-group bias)، إذ تم تضخيم خطر جماعات تنتمي إلى “الخارج الأيديولوجي”، بينما تم التغاضي عن وجود جماعات يمينية متطرفة وعنصرية داخل المجتمع الأمريكي، رغم أن بعضها كان يمارس العنف فعلاً أو يهدد السلم الأهلي. لم يكن هذا التغاضي صدفة، بل جزءاً من تحيّز بنيوي في الدولة نحو من يشبهونها سياسياً أو ثقافياً. هذا المثال يوضح كيف يمكن للتحيّز أن يُحرّف بوصلة الأمن القومي، ويُضعف من قدرة الدولة على التعامل المتوازن مع مصادر التهديد.

وفي السياق ذاته، يمكن النظر إلى تعامل الدولة الروسية مع ملف التهديدات الأمنية في عقد التسعينيات. فقد صوّرت موسكو الحركات الانفصالية في الشيشان خلال الحربين الشيشانيتين (1994–1996 و1999–2000) بأنها تهديد إرهابي إسلامي عالمي، ما برّر استخدام القوة العسكرية المفرطة وتضييق الخناق على السكان المحليين. في المقابل، لم تُعامل القوى القومية الروسية أو الجماعات اليمينية المتطرفة التي مارست الاغتيالات السياسية ونشرت خطاب الكراهية بنفس القدر من الحزم، بل في بعض الحالات تم توظيفها كأدوات غير رسمية لقمع المعارضة الداخلية. يظهر هنا التحيّز الديني والقومي، حيث يُضخّم خطر “الآخر المسلم المنفصل إثنياً”، ويُهمَل خطر “الداخل المشابه ثقافياً”، مما يعكس تفضيلات غير معلنة في تقييم التهديدات. هذا التحيز لا يُضعف العدالة فحسب، بل يخلق فراغات أمنية قد تُستغل لاحقاً من قبل جهات لم تكن تحت الرقابة الكافية.

هذه الأنماط من التحيز لا تتوقف عند مستوى التفسير، بل تمتد إلى مستوى الفعل. فحين تُبنى سياسات أمنية على تصنيفات منحازة، يُنتج ذلك ممارسات قمعية، أو توزيعًا غير عادل للموارد الأمنية، أو حتى تحالفات دولية غير متوازنة، تنطلق من اعتبارات أيديولوجية لا من مصالح وطنية فعلية.
وما يعمق المشكلة أكثر، أن كثيرًا من التحيزات السياسية والأمنية تكون لاواعية. أي أن صانع القرار لا يدرك أنه يمارس فعلًا متحيزًا، بل يراه منطقيًا، وربما بطوليًا. هذا النوع من التحيز هو الأخطر، لأنه يمر دون مقاومة، ويصعب كشفه أو مساءلته. وفي هذه الحالة، يتحول التحيز إلى جزء من الثقافة المؤسسية، يُعاد إنتاجه عبر الأجيال، ويُبرَّر باستمرار تحت عناوين “الحكمة”، أو “الخبرة”، أو حتى “المصلحة العليا”.
ولعل من أبرز نتائج هذه الظاهرة أن بعض الدول، رغم امتلاكها موارد وخبرات، تعجز عن بناء استراتيجيات فعّالة في الأمن القومي، لا لضعف في الإمكانات، بل لأن قراراتها الكبرى تُتخذ من داخل دائرة إدراكية مغلقة، تُعيد اجترار الأفكار ذاتها، وتخشى الخروج من مألوفها السياسي والنفسي.
وفي المقابل، فإن الدول التي نجحت في تحقيق استقرار سياسي وأمني مستدام، لم تكن تلك التي امتلكت القوة العسكرية أو الوفرة الاقتصادية فقط، بل التي امتلكت شجاعة المراجعة، وحرية التفكير، وآليات نقد الذات. لقد استطاعت أن تُحصّن مؤسساتها من التحيز عبر بناء ثقافة تشجع على التعددية في الرأي، وتفتح المجال أمام المراجعة المستمرة، بل وتُدرّب النخب السياسية والأمنية على اكتشاف التحيزات وتحليلها.
ومما لا شك فيه أن المسألة لا تتعلق فقط بمستوى الأفراد، بل تمتد إلى النظام السياسي ككل. فكلما كان النظام منغلقًا على ذاته، أحاديّ الصوت، شديد الحساسية تجاه النقد، زادت قابلية قراراته للتأثر بالتحيز، بينما تقل هذه الظاهرة في الأنظمة التي تُشجع على المساءلة، وتتيح التنافس بين الرؤى، وتُدير الاختلاف باعتباره ضرورة، لا تهديدًا.
في النهاية، لا يمكن الحديث عن دولة رشيدة، أو أمن قومي متماسك، دون عقل سياسي نقي من التحيزات القاتلة. وليس المقصود هنا أن نتخيل إمكانية وجود قرار بلا انحياز مطلقًا، فهذا مطلب مثالي لا يمكن تحقيقه، لكن المقصود أن يُدرك صانع القرار حدود رؤيته، وأن يمتلك أدوات مراجعة ذاته، وأن يفسح المجال أمام العقل الجماعي، المتعدد، ليشارك في صناعة القرار.
التحيز لا يُهزم بالشعارات، بل بالوعي، وبإصلاح بنية التفكير داخل الدولة، وببناء مؤسسات تتجاوز الأشخاص إلى القواعد، وتتجاوز الانتماء إلى الكفاءة، وتتجاوز الولاء إلى الشفافية. فإذا تحقق ذلك، كانت الدولة أقرب إلى السلام الداخلي، وأقدر على حماية أمنها دون أن تُصبح أسيرة خوفها أو سجينًا لتاريخها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار
رجل الاعمال الاقتصادي العراقي سنان عبد الوهاب الشايع يستعد لدخوله المعركة الانتخابية المقبلة. هيأة الإعلام والاتصالات تدعو المؤسسات الإعلامية لاحترام خصوصية شهر محرم واستلهام دروس النهضة الحسيني... الدكتور موفق عبدالوهاب يتسلم مهام عمله مديرًا عامًا لدائرة ثقافة وفنون الشباب إليكم قرارات مهمة لمجلس الوزراء لهذا اليوم الثلاثاء رئيس الاتحاد العربي للإعلام الإلكتروني يزور عضو مجلس محافظة الديوانية السيد صباح الزيادي النزاهة الاتحاديَّة والمفوضية العليا للانتخابات تناقشان سبل ضمان نزاهة العملية الانتخابيَّة ترامب: سيتم البدء بتطبيق الرسوم الجمركية في 1 آب المقبل مستشار الأمن القومي السيد قاسم الأعرجي يلتقي رئيس الجمهورية السيد عبد اللطيف جمال رشيد أبرزها إقالة مدير التعليم المهني.. مجلس نينوى يصوّت على عدة قرارات شرطة الكرخ تلقي القبض على متهم بإطلاق العيارات النارية بعد نشره فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي