منوعات

شهر رمضان : رحلة الروح إلى نور الحقيقة

دنيا صاحب – العراق..

في فضاء الزمن المقدس، حيث تتداخل أبعاد الروح مع سر الوجود، ينبثق شهر رمضان كنافذة إلهية تفتح على ملكوت النور العظيم ، وتتيح للإنسان فرصة التحرر من ظلمات الغفلة إلى إشراقات القرب من الله سبحانه وتعالى.

“هو شهر مبارك لا يشبه غيره من الشهور ، العبرة من الصيام في هذا الشهر، ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو رحلة روحية عميقة يستكشف فيها الإنسان أعماق نفسه، ويجري التحقيق في ثلاثين يوماً نحو تهذيب النفس ومعرفة ذاته الحقيقية، حيث ينقّي الصائم قلبه من عوالق الدنيا والادران والشوائب ، ليغدو مرآة صافية تعكس نور الله وجماله، ويكون لذلك رحلة عروج روحية نحو الكمال والتقرب إلى الله الحق تعالى.”

*تجليات الرحمة الإلهية في فريضة الصيام*

في القرآن الكريم، تتجلى عظمة هذا الشهر في قوله تعالى:

*> “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة: 183).*

هذه الآية المباركة ليست مجرد تشريع للصيام، بل نداءٌ الله الذي يخاطب قلوب المؤمنين، يستنهض فيها استعدادهم للسير في طريق النور الالهي، والتطهر من كثافة الجسد المادي، والارتحال في مدارج الروح إلى مقام الوحدانية.

تُظهر الآية المباركة أن الصيام ليس مجرد فرض على الجسد، بل هو عبادة روحية تنقي القلوب، وتزكي النفوس وتؤهل العبد للتقوى.

والتقوى من القيم الأساسية في دين الإسلام، وهي حالة من الوعي المستمر بأن الله قريبٌ دائمًا، رقيبٌ لا يغفل، فكل لحظة من لحظات الحياة هي فرصة للاتصال به.
وفي التأويل العرفاني، التقوى هي الانتباه المستمر إلى حضرة الله تعالى، واليقظة القلبية التي تدفع العبد للانصهار في نوره، بحيث لا يرى إلا الله في كل حركة وسكون. هي الحضور الذاتي في مقام الخشية والتعظيم لله، وتحقيق الطاعة في كل ما يرضيه، والتسليم الكامل لحكمته. تعتبر التقوى طريقًا إلى التطهُّر الداخلي، وتحقيق السكينة والاتصال الروحي العميق بالله، فهي ليست فقط الامتناع عن المعاصي، بل تجسيد للحضور في قلب العبد وتفكيره وسلوكه بكل أبعاده . تدفع المؤمن إلى الامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، بهدف حماية النفس من غضب الله وعقابه. تتفاوت مراتب التقوى بين الناس، إلى ثلاثة أقسام بدرجات الوعي ، مستنداً إلى قوله تعالى: “ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ” .
التقوى وهي حالة من الوعي الداخلي التي تمكنه من التفاعل مع احكام شريعة دين الاسلام .
تصل بالعبد المؤمن إلى حالة الورع هو خُلُقٌ رفيع يُعبِّر عن كفِّ النفس عن المحارم واجتناب من الوقوع في الشبهات، تحقيقاً للتقوى والابتعاد عن كل ما يُغضِب الله تعالى.

*معنى الورع لغةً واصطلاحًا:*

لغةً: الورع يأتي بمعنى الكفِّ والانقباض، ويُشير إلى العفَّة والتقوى، والامتناع عن المحارم.

اصطلاحًا: هو اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرَّمات، وحمل النفس على الأحوط والأوثق في الأمور الدينية.

أهمية الورع في الإسلام:
الورع يُعَدُّ من أعلى مراتب الإيمان والتقوى، حيث يُعين المسلم على ترك ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، والابتعاد عن كل ما قد يضرُّه في آخرته. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم معاني الورع في قوله: “مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ”.

*الصيام: معراج الروح وسموها في مدارج الكمال*

الصوم في حقيقته رياضة روحية، تُمحو ظلمة النفس وتحيي بصيرة القلب. فمن امتنع عن الطعام والشراب، ولم يمتنع عن الغيبة والحقد والكبر، لم يرتقِ بحقيقة الصيام، لأن الصيام هو كفُّ الجوارح عن كل ما يحجب القلب عن نور الله. وقد ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى:

*> “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ” (الحجرات: 12).* *

هذه الآية تحث على تجنب الغيبة والنميمة، وتصورها بصورة مقززة تشبه أكل لحم الأخ، مما يعزز فهم قبح هذا الفعل. كما أن التحلي بالتواضع والابتعاد عن الكبر من صفات المؤمنين، وقد ورد في القرآن الكريم الآية المباركة:

“وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا” (الفرقان: 63)

هذه الآية المباركة تصف عباد الرحمن بالخصال التالية:

يمشون على الأرض هوناً: أي يسيرون بتواضع وخشوع، دون تكبر أو غرور. إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً: أي يردون السلام على من خاطبهم، حتى لو كانوا جاهلين أو مخطئين تصدر منهم طاقة التسامح والصفح أي المغفرة.

*ليلة القدر: اللحظة الفاصلة بين الظلمة والنور**

ومن رحم الصيام، تولد ليلة القدر، تلك الليلة التي تُمثّل الذروة الروحية للشهر الكريم، حيث يُعاد تشكيل مصائر العباد، وتتنزل الملائكة بأمر الله، لتتجلى على قلوب السائرين في طريق العرفان أنوار السكينة والطمأنينة والسلام . في هذه الليلة، يدخل العبد في عالم ملكوت السماء ، ويدرك أن كل شيء كان امتحانًا لبلوغه هذا المقام، وتستقر النفس في مقام النفس المطمئنه لا يحصل عليها العبد المسلم إلا بتزكية النفس ليحصل على السلام في حياة الدنيا ويصل إلى دار السلام في الآخرة. وتظهر هذه المعاني في قوله تعالى: الآية المباركة :

“يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي” (الفجر: 27-30)

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار