الثقافيةالفنتقارير وتحقيقاتلقاء وحوارلقاءات وحواراتمنوعات

“عامر العبيدي : بين التراث والحداثة.. لوحاته التشكيلية تتجاوز حدود الفنتازيا والواقع”

حاورته : دنيا صاحب – العراق

يعد الفنان التشكيلي عامر العبيدي أحد أبرز الأسماء في المشهد الفني العراقي والعربي، حيث استطاع أن يصنع هوية فنية متفردة تمزج بين التاريخ والحداثة، والتجريد والرمزية. وُلد العبيدي في مدينة النجف عام 1943، ونشأ وسط بيئة زاخرة بالتراث الإسلامي والتاريخي، ما جعله ينطلق في رحلة إبداعية غنية بالتجارب والتأملات، بدأت من دراسته للفنون التشكيلية في بغداد، وتوّجت بمشاركات عالمية وجوائز مرموقة، أبرزها الجائزة الأولى في معرض إبيزا الدولي بإسبانيا عام 1964.

في أعماله، نجد الخيول العربية، الفرسان، الكراسي، الطيور، والزخارف الهندسية حاضرة بقوة، ليس كعناصر جمالية فقط، بل كرموز ذات أبعاد فلسفية، نفسية، اجتماعية، وسياسية. لقد أضفى على هذه المفردات طابعًا تكعيبيًا وتجريديًا مستوحى من الفن الإسلامي، حيث تتجلى التسطيح الهندسي، الخطوط الحادة، والتداخلات اللونية التي تمنح لوحاته طاقة ديناميكية تعكس صراع الهوية والثقافة في عالم متغير.

استلهم العبيدي بعض أساليبه من الفنان فائق حسن، كما تأثر بالمدرسة التكعيبية وبخاصة بابلو بيكاسو، حيث وظّف تفكيك الأشكال وإعادة بنائها هندسيًا بأسلوب يدمج بين الأصالة والحداثة. لكنه لم يكتفِ بالتأثر، بل أسس مدرسة خاصة به تقوم على المزج بين الرمزية الفنتازية والهندسة التشكيلية ثلاثية الأبعاد، ما جعل لوحاته تتجاوز الفن البصري إلى خطاب فلسفي يُعبّر عن التحولات الثقافية والاجتماعية.

في هذا الحوار، نقترب أكثر من رؤيته الفنية، ونتناول رحلته بين الواقع والخيال، التراث والتجديد، الفلسفة والتشكيل، في محاولة لفهم كيف يحوّل العبيدي الفرشاة إلى أداة تفكير وتأمل، وكيف يعيد تشكيل الهوية البصرية للفن التشكيلي العربي بأسلوبه الفريد. وجهت له عدة أسئلة لفهم مسيرته الفنية الثقافية الإستثنائية.

• كيف كانت انطلاقتك الفنية؟ وما الذي أثر في تشكيل رؤيتك منذ دخولك معهد الفنون الجميلة؟

رحلتي الفنية بدأت عام 1962 عندما التحقت بمعهد الفنون الجميلة، في فترة كانت تعد ذروة الإنطلاقة الفنية في العراق. كان هذا الزمن مليئاً بالعنفوان والإبداع بسبب وجود نخبة من الفنانين الكبار والأساتذة الذين عادوا من أوروبا، ما أتاح لنا فرصة الإستفادة من خبراتهم. كنا، أنا وزميلي إبراهيم زاير، نتابع بشغف المعارض الفنية والندوات الفكرية في الستينات، وهي فترة تحتاج دراسة معمقة لفهم خصائصها الفنية. في هذه الفترة، فزت بالجائزة الأولى في إبيزا – إسبانيا، وكانت هذه البداية الحقيقية لمسيرتي الفنية.

• حدثنا عن تطور أسلوبك الفني بين المراحل المختلفة؟

– تنقلت بين عدة مراحل فنية. في البداية، كان الطابع التكعيبي التجريدي يغلب على أعمالي، خاصة في مجموعة “المغول في بغداد”. بعد زيارتين للأهوار مع جماعة المجددين، استلهمت لوحات تعبر عن أصالة الإنسان هناك، بإستخدام اللون الأبيض والرصاصي. بعدها، ركزت على الطابع التراثي والفروسية بأسلوب حديث وألوان الأبيض والأسود. في التسعينيات، انتقلت إلى التعبيرية الرمزية التي عكست معاناة الإنسان، خصوصاً بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. أما في السنوات العشر الأخيرة، ركزت على التعبير عن صراعات البشر وعذاباتهم، وتأثير الحروب والأوبئة، مثل جائحة كورونا التي غيرت طبيعة التفاعل الإنساني.

• من هم جماعة المجددين وما دورهم في الحركة الفنية العراقية؟

– جماعة المجددين كانت تجربة مميزة في حياتي الفنية. تأسست بعد أن قررت مع زملائي إبراهيم زاير، سلمان عباس، سالم الدباغ، نداء كاظم، فائق حسين، وطالب مكي توحيد جهودنا لنحدث تغييراً في الحركة الفنية العراقية. انطلقت الجماعة بقوة، وشهدت معارضنا تفاعلاً كبيراً. لكن مع الوقت، تفرقنا بعد أن أكملنا دراستنا في أكاديمية الفنون، حيث قرر كل منا متابعة طريقه. كانت هذه التجربة محطة مهمة في تعزيز التفكير التجريدي والتحديثي في أعمالنا الفنية.

• كيف تصف تجربتك مع عملك الشهير “ملحمة المغول في بغداد؟

– في المعرض الثالث لجماعة المجددين، عرضت عمل “ملحمة المغول في بغداد”، وهو عبارة عن 15 لوحة جسدت البحث في المجهول. تناولت فيها مشاهد بشرية وخيول محتدمة يغلب عليها اللون الأحمر، ما جعلها تمثل نقلة نوعية في أسلوبي الفني. كان العمل محاولة لإبراز الفوضى والعنف بلمسات تكعيبية تجريدية.

• ما الذي دفعك للتعبير عن معاناة الإنسان في أعمالك؟

– كل فنان يتأثر بواقعه الإجتماعي والبيئة التي نشأ فيها. بدأت أرسم في الثالث المتوسط لوحات عن معركة الجزائر، وكنت دائماً أستلهم من التراث والحالات الإنسانية، خاصة الإنسان المتعب والمُعذَّب. لاحقًا، اتجهت لرسم “الكرسي” كرمز لعلاقة الإنسان بالسلطة والمجتمع. كل مرحلة في حياتي تضيف بُعداً رمزياً جديداً لفني.

• كيف كانت تجربتك الفنية في المملكة العربية السعودية؟
حين قررت السفر إلى المملكة العربية السعودية، كنت لا أعرف أي شيء عن المجتمع السعودي كما في مدينة الطائف وبالرغم من أن الناس كان يسودهم الهدوء والطيبة والخلق الجميل الا انني تفاجئت انهم يعتبرون رسم الأشخاص حرام. أدركت وقتها أن ممارسة الرسم صعبة في هذا الكم، ولا يمكنني أن أمارس الرسم بحرية رغم ذلك تمكنت طيلة ثلاث سنين من إنجاز الكثير من الأعمال ، كنت أرسم في غرفتي في الفندق وكان يعيش بنفس الفندق الكثير من الأمريكان والإنكليز، كانوا يأتون الى غرفتي ويشترون بعض الأعمال مع ذلك كانت تجربة لتحمل الغربة والمسؤولية والتكيف مع مجتمع مغلق صعب التعامل معه بالرغم من طيبتهم وعفويتهم.

• زيارتك للأهوار كانت محطة مهمة في مسيرتك. كيف انعكست على أعمالك الفنية؟

– زيارتان فقط للأهوار كانتا كافيتين لإحداث تغيير عميق في أعمالي. تأثرت كثيراً برجال الأهوار الذين يجسدون أصالة الإنسان العراقي. استخدمت اللون الأبيض والرصاصي للتعبير عنهم، وركزت على الأرض والماء كرموز للثبات. كانت هذه المرحلة محطة غنية بالتفاصيل الإنسانية التي انعكست في لوحاتي.

كيف أثرت الأزمات العالمية، مثل جائحة كورونا والحروب، على أعمالك؟

– جائحة كورونا أثرت بشكل عميق على الجميع، بما فيهم أنا. تراجعت لغة التفاعل بين الناس وأصبحت نفسياتنا متأثرة جداً بالعزلة والخوف. عندما انتهت الجائحة، دخلنا في صراعات جديدة وحروب عبثية تحملنا عبئها النفسي يومياً. هذه الأزمات شكلت جزءاً كبيراً من موضوعاتي الفنية الأخيرة، حيث ركزت على عذابات الإنسان وصراعاته المتواصلة.

• ما الذي دفعك للهجرة؟ وهل شعرت بتأثيرها على عملك الفني؟

– هاجرت إلى سوريا بعد أن قتل ولدي وبترت ساق زوجتي في تفجير في منطقة السيدية ببغداد، وبما إني أسكن بالإيجار وهذا من مكاسب الوطن، فكرت بالهجرة إلى سوريا إلى أن تنتهي مذابح الطائفين ولما طال الإنتظار رفضت الرحيل. ولا يوجد بديل عن الوطن وخاصةً مدينة السلام بغداد التي قتل فيها ولدي بيدر.

• ماذا يعني لك الفن بشكل عام؟

– الفن بالنسبة لي هو وسيلة للتعبير عن الحالة الإنسانية. كل عمل فني لابد أن يكون هدفه البعد الإنساني، وكل محاولة لخلق شيء معبر عن أي حالة إنسانية هي تعبير عن خلجات المبدع.

•  ما هي الأدوات التي تستخدمها في رسم أعمالك؟

– أنا أستخدم الأكريليك السميك وأحياناً مادة الزيت في أعمالي. لا أهدف إلى الخداع البصري في لوحاتي؛ كل عمل فني هو تعبير صادق عن ما أريد أن أنقله.

• ما هي بعض أعمالك المهمة التي تركت بصمة في مسيرتك الفنية؟

– من أعمالي المهمة:

– في مجموعة المغول في بغداد عام ١٩٦٧
– معرض الكراسي في قاعة عين في بغداد
– معرض المهاجر على صالة ويسلي هاوس ولاية آيوا الامريكية-دي موين، عام ٢٠٠٩
معرض المهاجر الجزء الثاني الذي اقيم في  ڤادكت جالري في النادي الإجتماعي لولاية ايوا-وعاصمتها دي موين.
معرض ذكريات الهجرة في دبي وهو معرضاً مشتركاً مع الفنان العراقي المغترب الكندي إياد الموسوي ، عام ٢٠١٨، في صالة مؤسسة العويس للثقافة والفنون

هل هناك أي أعمال جدارية لك؟

– نعم، لدي العديد من الأعمال الجدارية الهامة:
–  مطار بغداد الدولي
– جدارية مسرح الرشيد
– جدارية مطار البصرة الدولي
– جدارية ساحة الإحتفالات
– كما توجد لدي جدارية مهمة كنت اعتز بها من النحت  البارز من البرونز في أحد القصور الرئاسية.
– عمل فني مقتنى لصالح جامعة دريك مدينة دي موين ولاية آيوا.
-عمل من مقتنيات مجموعة بنك الثقة ضمن مجموعة فناني آيوا.

•هل لديك مشاريع فنية أخرى حالياً؟

– حالياً، لدي محاولات في النحت، ولكنني لا أعتقد أن الوقت مناسب بعد لمشاركتها مع الجمهور. سأكشف عنها عندما يحين الوقت المناسب.

• ما هي الرسالة التي تسعى لإيصالها من خلال أعمالك؟

– رسالتي دائماً إنسانية. أحاول التعبير عن معاناة الإنسان وصراعه مع ذاته ومجتمعه. الفن بالنسبة لي وسيلة لتوثيق الأحاسيس والمآسي والبحث عن الأمل وسط كل ذلك.

• أخيراً، كيف ترى تأثير تجربتك الفنية الطويلة على الأجيال الجديدة؟

– أتمنى أن تكون تجربتي مصدر إلهام للأجيال القادمة. الفن ليس مجرد رسم؛ إنه مسؤولية ورسالة. وآمل أن يستمر الشباب في تطوير الفن العراقي ليواكب العالم، مع الحفاظ على هويتنا الوطنية وتراثنا الحضاري العريق .

• في الخاتمة شكراً لكِ على هذا الحوار الممتع والمُلهم حول مسيرتك الفنية تمثل علامة فارقة في تطور الفن والتأثير الثقافي على مر الأجيال.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار