المحلية

نشوة إعلامية عربية بالهجوم الأوكراني المضاد.. هل لنا ناقة أو جمل في الصراع؟

الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
لا تتوقف وسائل الإعلام الأوكرانية والغربية وبالطبع العربية تباعا عن الحديث عن “هزيمة روسيا”، وعن “نقطة تحول” في “الحرب الروسية الأوكرانية” كما يصرون على تسميتها، بينما تتلقى تلك الوسائل شريط أنبائها، وربما “تعليماتها” من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ومن جهاز الاستخبارات البريطاني MI6، لترسم مشهد إعادة الانتشار الروسي الأخير، وخروج القوات الروسية من بلدات رئيسية في شرق أوكرانيا، بوصفه “انسحابا”، و”هزيمة”، بل ووصف بعض المحللين العسكريين “المحترفين” إعادة الانتشار بأنه “انسحاب غير منظم”، و”تخبط نتيجة الخسائر التي تعرض لها الجيش الروسي”، في الوقت الذي تحدثت فيه وزارة الدفاع الأوكرانية عن “مساحات شاسعة” من الأراضي، التي تم “تحريرها”، تبلغ وفقا لما ذكرته نائبة وزير الدفاع الأوكراني، هانا ماليار، 3800 كيلومتر مربع من الأراضي، ويحدثنا آخرون عن 6000-7000 كيلومتر مربع! وبلغت نشوة “النصر” الأوكراني لدى بعض الوسائل الإعلامية العربية ما يشبه نشوة استعادة القدس وتحرير فلسطين والجولان والأراضي اللبنانية المحتلة.
لكن أحدا لا يتحدث عن سيطرة قوات التحالف (القوات المسلحة الروسية وقوات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين) على ما يقرب من 20% من مساحة أوكرانيا (ما تم “تحريره” من قبل القوات المسلحة الأوكرانية يصل إلى 1% من المساحة)، ولا يتحدث أحد عن التفوق المدفعي وسيطرة روسيا على الأجواء الأوكرانية بالكامل، بعد أن دمرت روسيا مطارات أوكرانيا العسكرية في الأسبوع الأول من العملية العسكرية الخاصة.
كما تعلمنا في قواعد الحرب فإن نقطة التحول في الحرب (مثلما حدث في معركة ستالينغراد ما بين 17 يوليو 1942، وحتى 2 فبراير 1943، أو في معركة العلمين خريف 1942، على سبيل المثال) تحددها ثلاثة شروط أساسية، يتم رصدها بعد انتهاء المعارك، وليس أثنائها، ولا يمكن الحديث عن التحول بدونها:
1- السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي التي كانت تحت سيطرة العدو.
2- استحالة عودة هذه المناطق إلى سيطرة العدو مرة أخرى.
3- الإمساك بزمام المبادرة الاستراتيجية في الحرب.
لا بد من التأكيد، وهو ما يشاركني فيه الرأي غالبية المحللين العسكريين والعسكريين المحترفين، على أن العملية العسكرية الروسية الخاصة لا زالت ماضية في طريقها، وسوف تحقق أهدافها، ولو بعد حين، وهو ما أكد عليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مؤتمره الصحفي عقب انتهاء اجتماع قمة منظمة شنغهاي للتعاون، الجمعة، 16 سبتمبر الجاري. كذلك أشير بدوري إلى أن المعارك الدائرة الآن في ليمان وأرتيوموفسك، لا تدع مجالا للشك بأن ما حدث لم يكن سوى إعادة انتشار تكتيكي منظم بناء على أوامر هيئة أركان القوات المسلحة الروسية، وليس “انسحابا” كما يصفونه.
بداية، لا أظن أن منطقة خاركوف من بين المناطق التي تتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة لقوات التحالف، التي أتصور أنها تضع على رأس أولوياتها الاستراتيجية مناطق دونيتسك، بعد تحرير لوغانسك في يوليو الماضي، وخيرسون ونيكولاييف وأوديسا، وهي التي تمثل شرق أوكرانيا (الدونباس الذي بدأت العملية العسكرية بالاعتراف باستقلال جمهوريتيه دونيتسك ولوغانسك، والدفاع عن الأهالي هناك ضد التشكيلات النازية الأوكرانية)، وجنوب أوكرانيا الذي يمثل ممرا بريا ما بين دونيتسك ولوغانسك نحو القرم، وكذلك سواحل بحر آزوف والبحر الأسود. وتلك المناطق الاستراتيجية والحيوية للغاية، والتي لا يمكن ولا يصح مقارنتها بمناطق خاركوف في الشمال، هي ما يتم التركيز عليها الآن، وأتوقع أن تكون إعادة الانتشار مرتبطة بذلك. بمعنى أن ما حدث هو عمليا تقليص مساحة الجبهة، مقابل تكثيف الجبهة جنوبا وشرقا، وهو ما يمكن فهمه من وجهة النظر العسكرية تماما، دون لغط وأصوات إعلامية مرتفعة.
وذلك يعني ببساطة أن:
1- روسيا لا زالت تسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي التي حررتها من براثن التشكيلات النازية الأوكرانية والجيش الأوكراني تحت قيادة النظام في كييف الذي يتلقى أوامره ودعمه من واشنطن.
2- على الرغم من عدم أهمية مناطق خاركوف الاستراتيجية، إلا أن عودة تلك المناطق إلى سيطرة قوات التحالف، حال توفر الأعداد المطلوبة لذلك، ممكنة، بمعنى أن الشرط الثاني من شروط “نقطة التحول”، لا زال غير متحقق.
3- لا زالت روسيا تمسك بزمام المبادرة الاستراتيجية في الحرب، ولم يغير الهجوم الأوكراني المضاد موازين الحرب، كما يصدر الإعلام الغربي.
لذلك فالحديث عن “نقطة تحول” في العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا هو محض عبث، وحديث الهواة من المحللين “الاستراتيجيين” و”العسكريين” أبطال الحلقات المسلسلة على شاشات القنوات الفضائية المختلفة. على الأرض الوضع جد مختلف، حتى أن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، نفسه أقر باعتقاده “أن تكون العملية العسكرية الأوكرانية المضادة طويلة الأمد، ومن غير الممكن معرفة ما إذا كانت الحرب تشهد حاليا (نقطة تحول)”.
على الجانب الآخر، يلتقي الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بقادة منظمة شنغهاي للتعاون، التي يفوق معدل نمو اقتصاداتها بقية دول العالم، ويبلغ عدد سكان دولها نصف سكان الكرة الأرضية، نافيا بذلك أي حديث عن “عزلة” روسية عن العالم، في الوقت الذي يقطع “المجتمع الدولي” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي إمدادات الغذاء والأسمدة عن العالم، تحت مسمى “العقوبات ضد روسيا”، وبينما خرجت من الموانئ الأوكرانية 121 سفينة محملة بالمواد الغذائية، ذهب منها فقط 3 سفن إلى البلدان الفقيرة وفقا لبرامج الأمم المتحدة.
ومن ناحية أخرى، تفتق ذهن “الشباب” من النظام الحاكم في كييف عن مسودة بشأن الضمانات الأمنية لأوكرانيا، أطلقوا عليها “معاهدة كييف الأمنية”، تحدد الالتزامات التي تتعهد بها مجموعة الدول الضامنة أمام أوكرانيا، وتنص الوثيقة على قائمة بتلك الدول الضامنة وتشمل: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا وبولندا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وأستراليا وتركيا، إضافة إلى دول شمال أوروبا، ودول البلطيق، وأوروبا الوسطى والشرقية.
وبحسب المسودة، يتعين على الدول الموقعة على الضمانات الأمنية لأوكرانيا تقديم المساعدة العسكرية لكييف في حال تعرضها لاعتداء. إلا أن هذه الوثيقة تتضمن من حيث المضمون والطبيعة والحجم أكثر مما تمنحه عضوية “الناتو”، وهي في رأيي المتواضع، وثيقة غير منطقية ولا تستند إلى محددات ومعطيات السياسة الدولية ولا إلى الواقع على الأرض، بل لا تستند إلى إمكانية قبول هذه الضمانات والشروط من قبل الدول الضامنة نفسها. وهو ما يدل ويؤكد على الطبيعة العبثية والطفولية للنظام في كييف، كطفل مدلل للولايات المتحدة الأمريكية، يرهق أوروبا بمطالباته التي لا يكتفي بطلبها، بل ويزجر ويهين مانحها، في صورة السفير الأوكراني لدى ألمانيا، أندريه ميلنيك، الذي لا يتوقف ليل نهار عن إهانة نواب البرلمان والمسؤولين الألمان، بل والمستشار الألماني، أولاف شولتس، شخصيا.
إن الضمانات الأمنية الوحيدة التي يمكن أن تحصل عليها أوكرانيا هي بالتزامها الحياد، وتنازلها عن فكرة الانضمام إلى “الناتو”، واحترامها لحقوق الإنسان وقبول الثقافات المختلفة داخل الدولة الأوكرانية، بمعنى اجتثاث النازية وسائر النزعات القومية المتطرفة، ونزع السلاح المهدد لسلامة وأمن الأراضي الروسية، بعد أن اتضحت ولا زالت تتأكد يوما وراء يوم كل الخطط الخبيثة لكي تصبح أوكرانيا رأس حربة لـ “الناتو” ضد روسيا.
لا بد من التأكيد على أن روسيا لا تشن حربا ضد أوكرانيا وشعبها، الذي تعتبره شعبا شقيقا، وامتدادا طبيعيا وعرقيا ودينيا للشعب الروسي، حيث تربط الشعبين علاقات واسعة على كافة المستويات، على رأسها المستويات الأسرية والاجتماعية والثقافية، ناهيك عن التكامل الجغرافي والاقتصادي والجذور التاريخية، إلا أن استخدام “الناتو” والعسكريين من “البنتاغون” لأوكرانيا ضد روسيا، والمستمر منذ سنوات، لا بد وأن يوضع له حد، وذلك هو المحور الرئيسي للعملية العسكرية الروسية الخاصة. فروسيا تدافع عن أمنها القومي وحقها الشرعي في العيش بسلام وأمان دون تهديدات خارجية من الغرب بأيدي الأشقاء.
لكن الطفل المدلل، أوكرانيا، تحت حكم نظام زيلينسكي القومي المتطرف، لا زال، بوعي أو مع سبق الإصرار والترصد، مستمرا في ممارسة دور القفاز في يد واشنطن و”الناتو”، الذي اعترف مؤخرا على لسان رئيس اللجنة العسكرية للحلف، روب باور، السبت الماضي، 17 سبتمبر الجاري، وبشكل رسمي، بالتخطيط لتمدد وجود “الناتو” بالقرب من الحدود الروسية “منذ سنوات”، وأصبح ما يقوم به الرئيس الأوكراني، الممثل الكوميدي سابقا، يتجاوز كونه “دورا كوميديا أو مأساويا على خشبة المسرح أو أمام عدسات الكاميرا” إلى كونه عاملاً أساسياً في زعزعة استقرار القارة الأوروبية والعالم أجمع بعبث ورعونة واستهتار، بينما يزج بعشرات الآلاف من أبناء وطنه إلى المحرقة، بلا هدف ولا مصلحة سوى أهداف ومصالح الهيمنة الأمريكية الوهمية على العالم، والتي لن تلبث أن تنتهي عاجلا أو آجلا. فتلك سنة الحياة، وذلك حكم التاريخ.
وعودة إلى وسائل الإعلام العربية المنتشية بـ “الفتح الأوكراني المبين”، فأملي أن يراجعوا تصريح الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، بأن هذا الصراع “لا ناقة لنا ولا جمل” به، وليهتموا بشؤونهم الخاصة، وهي كثيرة وتستحق الاهتمام والتأمل والعمل.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار