مقالات

الخلافة الالهية مقابل الاستبداد البشري

محمد عبد الجبار الشبوط:-
من نتائج تكوّن الوعي بان الانسان خليفة لله في الارض رفضُه للاستبداد الذي يمارسه بعض البشر على البعض الاخر.
فالخلافة منصب الهي جعله الله لكل البشر، ابتداءً. و هو لا ينسلخ عن الانسان لانه امانة عرضها الله على السماوات والارض فابين ان يحملنها، وحملها الانسان. وكما قلنا في مقال سابق ان العرض من الله والقبول من الانسان تكوينيان، بمعنى ان الانسان يملك بالقوة والمؤهلات الكامنة منصب الخلافة، فان مارسه بشرطه وشروطه كان بها، وان تخلى عنه وخالف شرطه وشروطه سقط عنه، بناء على قوله تعالى:”لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ”، وقوله: “وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.”
الانسانُ الخليفةُ سلطانُ نفسِه. وهذه السلطنة مستمدة من الجعل التكويني الالهي، ولا يملك اي كائن ان يسلخها عن الانسان، والا كان طاغيا، والطغيان هو تجاوز الحد، واغتصاب حق الاخرين. والخلافة حق للانسان، والطغيان او الاستبداد يغتصبان هذا الحق، و يظلمان الانسان الخليفة.
وقد ادرك المسلمون الاوائل هذه الحقيقة التي عبّر عنها الصحابي ربعي بن عامر التميمي حيث قال: “لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”. ومن هنا نفهم ان وعي الاستخلاف الالهي يؤسس لوعي عميق بالحرية المقابلة للعبودية. فالانسان الخليفة، المتمسك بحريته، يرفض العبودية والاستبداد بمختلف اشكالهما. ولهذا نجد ان اول ما يقوم به المستبدون والطغاة هو ازالة هذا الوعي، واستبداله بوعي زائف يمنح المستبد خصائص ليست فيه اصلا، كما فعل فرعون “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ”، وقال لهم: “أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ”، وقال:”مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”، وكانت النتيجة “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ، إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ”.
لكن التطورات اللاحقة، وبخاصة تحول الحكم الى ملك عضوض، غير مسار الوعي الحضاري لدى المسلمين فغاب عن اذهان الناس لفترة طويلة، تمكن خلالها طغاة من استعبادهم، ومصادرة حقهم، وفرض حكمهم الغاصب عليهم، واحتكروا السلطة، فسالت دون ذلك دماء، رغم محاولات بعض العلماء والمفكرين احياء هذا الوعي واستعادته، ومن هؤلاء الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي عد اية الاستخلاف “اساسا للحكم”، واعتبر الحكم “متفرعا على جعل الخلافة”، ثم انتهى الى القول بان “هذا بعطي مفهوم الاسلام الاساسي عن الخلافة وهو ان الله سبحانه وتعالى اناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون واعماره اجتماعيا وطبيعيا. وعلى هذا الاساس تقوم نظرية حكم الناس لانفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله”. ونعلم ان الصدر دفع حياته ثمنا لهذا الوعي، ومثله فعل المرجع الشهيد السيد محمد الصدر.
و بسقوط النظام الدكتاتوري البعثي، القائم “عبادة الشخصية” المتمثلة بصدام حسين، تحررت الامة، وانفتح الطريق امامها لكي تمارس حقها في الحكم، اي حكم نفسها بنفسها، فاختارت الديمقراطية، والنظام البرلماني كأسلوب لممارسة هذا الحق. لكن تعثر التجربة الديمقراطية دفع بعض الناس الى سحب ايمانهم بها، ومالوا الى فكرة قديمة مضللة هي فكرة “المستبد العادل”، دون ان يلتفتوا الى ان كلمة “المستبد” تعني تخليهم عن حقهم في الحكم بوصفهم خلفاء عن الله، بغض النظر عن صفة “العادل” التي لا يمكن تصور تحققها في المستبد. وقد فند جون ستيورات مِلْ (١٨٠٦- ١٨٧٣) هذه الفكرة الخاطئة في كتابه القيم “الحكومات البرلمانية” فراجع.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار