مقالات

التعصب بالحزب او بدونه (٢)

محمد عبد الجبار الشبوط:
التعصب للرأي او للحزب او للعشيرة او لغير ذلك ظاهرة مرضية من ظواهر المجتمع المتخلف وهو احد الافرازات الفوقية للخلل الحاد في المركب الحضاري للمجتمع ومنظومة القيم العليا الحافة به وبعناصره الخمسة، الانسان والارض والزمن والعلم والعمل. والخلل هنا يتمثل في توهم المتعصب انه وحده يملك الحقيقة، ما يجعله يرفض الاراء الاخرى، والمعلومات التي يجهلها، ويرفض التعايش مع الاخر، ويميل الى اقصائه والتخلص منه، وفرض رأيه وسلطته على الاخرين.
وقد سعى القران الكريم الى ارساء اسس المركب الحضاري السليم، فدعا الى عدم التعصب للرأي او المعتقد، و الانفتاح على الاراء الاخرى، والحوار، والتعايش، والجنوح الى السلم في العدد الكثير من اياته مثل قوله تعالى:”لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”، “وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ۖ أَنتُم بَرِيٓـُٔونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَا۠ بَرِىٓءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ”، “وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ”، “قُلْ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍۢ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ”، “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”. وغير ذلك. ويروى عن الامام علي عدد من النصوص في هذا السياق مثل قوله: اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب، وقوله: امخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء، وقوله: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
لكن الانتكاسات المتتالية التي شهدها عموم المجتمع الاسلامي، وخصوص المجتمع العراقي، جعلت الكثير من الناس يصابون بمرض التعصب وما ينجم عنه من ممارسات خاطئة وغير حضارية ومضرة في المجتمع والدولة.
ومن هذا ما شهده المجتمع العراقي من ردة فعل قوية ضد الاحزاب، وبخاصة الاحزاب التي شاركت بحكم العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري في عام ٢٠٠٣. والسبب المباشر لهذا هو خيبة الامل التي اصيب بها الجمهور من سوء ادارة هذه الاحزاب وارتباط الفساد بها وغير ذلك. وبلغ من قوة ردة الفعل ان حزبيا قديما كالدكتور اياد علاوي يقترح تشكيل حكومة مؤقتة لا تشارك فيها الاحزاب التي شاركت بالحكم بعد ٢٠٠٣. ومع ان هذا الطلب غير واقعي لان كل الاحزاب الموجودة الان شاركت بالحكم بما في ذلك الحزبان الكرديان اللذان لا نتصور امكانية تشكيل حكومة عراقية بدونهما، الا انه (اي الطلب) يكشف عن حدة النفور من هذه الاحزاب.
لكن ردة الفعل هذه اصيبت هي الاخرى بمرض التعصب. فالملاحظ ان الجهات التي رفضت الاحزاب لم تتخلص من ابرز امراضها واقصد التعصب. واعني بذلك “الاحزاب الجديدة”، او ما يسمى باحزاب تشرين، وجمهورها، والجهات غير الحزبية. فمن خلال متابعة تصريحات ومشاركات افراد هذه الاحزاب الجديدة نجد ان مرض التعصب انتقل اليها بهذا الشكل او ذاك وذلك مثل تصور امتلاك الحقيقة، ورفض الافكار الاخرى، واقصاء الاخر، وعدم القدرة على التعايش وغير ذلك.
وكان هذا متوقعا لاسباب تخص المجتمع المتخلف من جهة، ولاسباب تخص الاحزاب الجديدة نفسه، من جهة ثانية. وجامع ذلك قدرة الظواهر المتخلفة على التسلل الى الكيانات السياسية الجديدة بسبب عاملين هما المحايثة والوراثة الاجتماعية، من جهة، وعدم وعي هذه المجموعات لمشكلة الخلل الحاد في المركب الحضاري الذي انتج ظاهرة التعصب الحزبي وغير الحزبي، من جهة ثانية. فاذا كنا ننتقد الاحزاب التقليدية على نزعتها المتعصبة في التعامل مع غيرها، فان النقد يوجه ايضا الى الاحزاب الجديدة والتجمعات غير الحزبية لنزعتها المتعصبة ايضا.
ان الحياة عامة، والحياة السياسية خاصة لا تستقيم بوجود نزعة التعصب للرأي او الموقف او الحزب او الزعيم. ولابد من التخلص من هذه النزعة ليكون بالامكان اقامة الحياة السياسية (ومن ضمنها الحياة الحزبية والعلاقات البينية في المجتمع) على اسس حضارية حديثة.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار