الاقتصادية

كيف تسهم موازنات العراق في استشراء الفساد؟

تعاقبت ثماني حكومات على إدارة العراق منذ عام 2003 بعد الاحتلال، أربع منها جاءت إبان وجود القوات الأميركية حتى خروجها أواخر 2011، وتوقيع اتفاقية صوفا للتعاون لإبقاء “شعرة معاوية”، كما يصفها السياسيون في بغداد بين الساسة المحليين والأميركيين، التي تعرضت لمحاولات القطع مراراً، بقصف سفارة واشنطن والقوات العسكرية ومقتل عشرات الجنود والضباط، لتبدأ مرحلة توصف بأنها فيدرالية توافقية ديمقراطية، توزعت خلالها موازنات البلاد على الأطراف التي أسقطت النظام السابق، وكتبت الدستور الدائم بسيل لا ينقطع من الانتقادات من أطراف شريكة ومعارضة، لا سيما من المكون السني وكثير من الشيعة، ورضا كردي صاغ الدستور على هواه ومصالحه.

موازنات مالية غير مسبوقة
الموازنات المالية السنوية، التي حظيت بوفرة، تضاعفت مرات عدة بسبب زيادة إنتاج النفط وارتفاع أسعاره، التي وصلت إلى 120 دولاراً للبرميل، ومكّنت الحكومات من إطلاق يد التعيينات الحكومية، التي وصلت إلى تضخم وتراكم غير مسبوقين بلغا ما يقرب من ستة ملايين موظف، ينتزعون ما يزيد على 60-70 في المئة من ميزانية البلاد، التي توصف بالتشغيلية، والتي أفرزت ظاهرة “الموظفين الفضائيين”، وهو مصطلح شاع عن التوظيف الوهمي لأشخاص مقربين من أحزاب السلطة، وهم مجرد تسميات لمعينين في الدولة ولا وجود لها في الواقع، وآخرين عاطلين عن العمل، مسجلين في قوائم الرواتب من دون أداء دور أو سقف في الإنتاجية، يصنفون عراقياً بالبطالة المقنعة، التي تنزع من الميزانيات أموالاً هائلة، وكأن التوظيف الحكومي بدوافع كسب الأصوات الانتخابية، مارسته كل الطوائف المتحاصصة على توزيع الأدوار بالسلطات الثلاث.

وهناك الآلاف ممن يصنفون بمتعددي الرواتب، جراء التشريعات الانتقالية، التي سادت بعد عام 2003، التي رجحت كفة شريحة معينة من الأتباع والموالين والمريدين للسلطة، مما أفرز ظاهرة التباين الشديد في الدخول المالية، التي أغنت البعض وأفقرت الأغلبية.

من المسؤول؟
قبيل نهاية كل عام، تقدم الحكومة العراقية موازنة الإنفاق السنوي، التي يناقشها مجلس الوزراء بإسهاب لتحديد أولويات الصرف على فعاليات الدولة، وتطالب الحكومة من مجلس النواب إقرارها والمصادقة عليها لكي تخرج من عنق الزجاجة لإقرارها.

الكاتب حسين حامد قال، “لو تسأل أغلب النواب: ما اختصاصات المجلس سيأتي الجواب (التشريع والرقابة)، لكن الجواب الصادم الذي لا يعرفه
هؤلاء الأعضاء، أن اختصاصي مجلس النواب هما المالي والتشريعي، أما الدور الرقابي فهو اختصاص تبعي، لأن الموازنة اختصاص مطلق للسلطة التشريعية، أما دور الحكومة فهو إعداد بيانات الموازنة فقط”.
لكن هذا الأمر لا يتم بالصورة التي ذكرها واقعاً، لأن الموازنة تجري بصورة معكوسة، حين عمدت الحكومات بالاستحواذ على قرار إعداد الموازنة وعرضها على المجلس لإقرارها، مما ولّد فُسحة هائلة للسلطة التنفيذية

السيطرة على المال العام، وتوجيهه وفق مصالحها وحاجاتها من دون الحاجة إلى سيطرة المشرع في نظام اعتمد الأسلوب البرلماني، وليس الرئاسي، وفقاً للدستور النافذ الذي أقر عام 2005.
تدخل السياسيين
مستشار رئيس الوزراء العراقي مظهر محمد صالح يفسر ظاهرة تدخل السياسيين وتحكمهم المتحيز في وضع الموازنة العامة وسرقة الدور من المتخصصين الاقتصاديين بقوله: “يميل غالبية السياسيين إلى الوظائف والأعمال التي تُدرّ عليهم الواردات العالية، وتؤدي إلى تحسين رفاهيتهم الشخصية، كما يقول (بوكانان) العالم الاقتصادي، على حساب الموازنة العامة بحكم سلطاتهم التشريعية، وهذا ما يؤدي بمرور الوقت إلى اتساع نطاق الموازنة العامة طالما هم بحاجة مستمرة إلى إعادة انتخابهم، بل يذهب أولئك السياسيون إلى توفير وظائف حكومية إلى مناصريهم، وتوسيع نطاق وتعدد الأشغال الحكومية لتوفير فرص عمل إليهم في محاولة لكسب أصواتهم الانتخابية خلال الدورات اللاحقة، والمحافظة على ثقلهم السياسي”.
وقال صالح، “بهذا ينحاز النظام المالي الحكومي إلى مبدأ (الموازنة الكبيرة) في التخصيصات وتداول النشاطات، ما يضع الحكومات أمام مصاعب معقدة في اتخاذ القرارات المالية، ما يتطلب مزيداً من الخبراء للخوض في مشكلات المالية العامة المستعصية. وهكذا كما وسم (بوكانان) علم الاقتصاد الكنزي مسمياً إياه (بالمرض disease)، أو بالأحرى (المرض الكنزي)، الذي يؤدي إلى نهايات تتطلب بلا شك تقييد نطاق التصرفات اللا مسؤولة للسياسيين، وتقيدهم كي يتصرفوا بطريقة ذات مسؤولية مالية منضبطة)”.
وأضاف أن “المدرسة الكنزية هي من جعلت السياسيين بعيدين عن مبدأ توازن الموازنة العامة، ومنغمسين في العجز المالي. كما ينصرف (بوكانان) بفكرته هذه في معاداة الأبعاد السياسية للمدرسة (ما بعد الكنزية)”. ويرى صالح أن “الأجيال المقبلة في العراق ستتحمل عجز الموازنة، ما يتطلب دفعهم لمزيد من الضرائب وتحملهم العديد من الأعباء الضريبية على نحو لا تعوضها عوائد الفائدة الممنوحة عن السندات الحكومية، التي أقرضوا الحكومات بموجبها، وهو ما يطلق عليه تكافؤ ريكاردو. كما أرى ويرى (بوكانان) أن ترك الحكومات من دون قيود دستورية ستفرط في التصرفات المالية، وتصبح متعدية على المال العام، وتأتي في مقدمة تلك المطالب القيود الدستورية باعتماد مبدأ الموازنة المتوازنة balanced budget، التي على أساسها تستعيد المالية العامة صحتها ونقاوتها ونزاهتها”.
ويؤكد مظهر أن “المشكلة في العراق تكمن أيضاً في البيانات الختامية، التي لم تصدر حتى الآن، وهي المصدر الحقيقي لمعلوماتنا عن مدى التمسك بالميزانية من عدمه”.

وكالات

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار