المحليةمقالات

الانسداد الحضاري (٢)

محمد عبد الجبار الشبوط..

استقالة العقل المرتبطة بالجهل وقلة العلم سبب اول للانسداد الحضاري. اما السبب الثاني فهو فساد الطبقة السياسية الحاكمة، حيث يكون الاستبداد في قمة الفساد السياسي.
الدور الكبير الذي تمارسه الطبقة السياسية في اي مجتمع ليس موضوع نقاش ولا محل خلاف. فمنذ ظهور “السلطة” في المجتمع، ومن ثم تحولها الى “سلطة سياسية” يمارسها الحكام والسلاطين والمتنفذون اصبحت الطبقة السياسية اهم عوامل تشكيل هوية المجتمع ورسم خط سيره. ودلت الخبرة التاريخية منذ الاف السنين على ان السلطة السياسية تميل الى الاستبداد كلما سنحت لها الفرصة لذلك. ومن اهم هذه الفرص ضعف المقاومة المجتمعية للاستبداد او “العبودية الطوعية” كما يسميها الكاتب الفرنسي إتيان دو لا بويسيه، في كتابه المنشور عام ١٥٤٩ بنفس الاسم. وللعبودية الطوعية، كما هو معروف، اسباب مختلفة منها الفقر والجهل وغياب الوعي السليم بحقوق الانسان. وعلاقة الاستبداد بالانسداد الحضاري عضوية ومباشرة، لانه يخنق الابداع والانجاز الفردي والمجتمعي. فالحرية كما هو معروف شرط التقدم والابداع. والاستبداد يمنع التفكير وحرية الرأي ويتعمد تجهيل الناس وتسطيح وعيهم. وهذا ما اشار اليه القران الكريم في عدة مواضع كما في قوله:”فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ”، وقوله:”قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”، وقوله: “لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ”، وقوله:”وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ”.
لكن الاستبداد قد يخدع الناس بسرعة انجازاته لفترة وجيزة. وهذا ما يمكن ملاحظته في فترة زمنية من حكم ستالين في الاتحاد السوفييتي السابق، وحكم صدام حسين في العراق، حيث يستطيع الحكم الاستبدادي تحقيق بعض الانجازات المادية لفترة زمنية محدودة. لكن هذا ليس تقدما حقيقيا، ولا يستند الى توظيف حقيقي للمركب الحضاري، انما يعبر عن قدرة الانظمة الاستبدادية على حشد الموارد استنادا الى سلطتها المطلقة وسياستها القمعية. لكن هذه السلطة لا تفجر الطاقة الحضارية الابداعية في المجتمع، لانها لا تستند الى القيم الحضارية الكفيلة بذلك، ولذلك سرعان ما تتوقف عجلة الانجاز المادي، ويصل المجتمع الى حالة الانسداد الحضاري. وهذا ما حصل بالضبط في الاتحاد السوفييتي السابق والعراق.
كما يميل الاستبداد الى فرض عبادة الشخصية على الدولة والمجتمع، والتي تعني تأليه الحاكم ومنحه سلطة مطلقة فوق القانون وفوق الارادة الشعبية، وهذا ما حصل ايضا في الاتحاد السوفييتي والعراق و ليبيا والمانيا الهتلرية وغيرها من الدول التي عانت من عبادة الشخصية، ثم سقطت تحت عوامل شتى منها الثورة الداخلية او الحرب الاهلية او الغزو الخارجي.
ويدرك الكثير من المفكرين والكتاب امثال عبد الرحمن الكواكبي والشيخ النائيني ان الاستبداد الديني يشكل اخطر انواع الاستبداد، لانه لا يستغل فقط القوة المادية في السيطرة على الناس، وانما يستخدم سلطة الدين الروحية في تدجين الناس واخضاعهم للمستبد، علمانيا كان ام دينيا. وقد رأينا كيف استخدم صدام، وهو حاكم علماني، الدين في فرض سلطته الدكتاتورية على الناس، بعد ان تآكلت سلطته العلمانية. لذلك يجب ان تتحلى المجتمعات بالحساسية الفائقة ازاء الاستبداد الديني. ولا يمكن تحقيق ذلك الا بحيازة الفهم الحضاري للدين الذي يؤكد على الاستخلاف الالهي للانسان وحقه المطلق في حكم نفسه بنفسه ورفض كافة اشكال العبوديات الوضعية، وحصر العبادة بالله، وهي المعادل الموضوعي لحرية الانسان المطلقة، ومنع تنازله عن حريته للمستبدين.
وطبيعي ان الطريق الى منع الاستبداد يكمن في تربية الافراد على حب الحرية ورفض العبودية والاستعداد لمقاومتهما، اضافة الى بناء الدولة على اسس متينة للديمقراطية والمؤسسات والدستور والتقاليد الراسخة. وهذا ما تضمنه الدولة الحضارية الحديثة.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار