مقالات

قراءة في الثورة الحسينية

محمد عبد الجبار الشبوط..

(١)
المركب الحضاري لمجتمع الرسول
القران هو اساس بناء المركب الحضاري ومنظومة القيم الحافة به في مجتمع الرسول محمد (ص).
وقد تألف المركب الحضاري لذلك المجتمع من العناصر التالية:
اولا، الارض وهي المدينة ومكة وما حولهما من قرى وبوادي.
ثانيا، الانسان، وهم المسلمون، الذين وصفهم القران انهم “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”، ويوحي الفعل “اخرجت” بانهم امة لم تكن موجودة من قبل. و”قبل” تعني قبل نزول القران، الذي جاء بمنظومة قيم عليا جديدة، جعلها شرطا في خيرية الامة الجديدة، حيث تضيف الاية نفسه: “تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ”.
ثالثا، الزمن، وهو الفترات الزمنية التي سوف اذكرها بعد قليل.
رابعا، العلم الذي دعا اليه القران وحث على السعي من اجل تحصيله والاستزادة منه كما في قوله:”وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا”.
خامسا، العمل الذي جعله القران قرين العلم وشرط النجاح في الدنيا والاخرة: “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ”، او قوله:”وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ”، واعلن المساوة بين الرجل والمرأة في ميزان العمل في قوله:”فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ”.
ركز القران الكريم منذ اول اية نزلت الى اخر اية على بناء منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة المذكورة لانها ستكون الاساس المتين في ارساء المجتمع الصالح النظيف القادر على انتاج الدولة العادلة. ونستطيع ان نتتبع بوضوح الايات القرانية التي تشكل نسقا متماسكا لبناء منظومة القيم العليا.
ومن هذه الايات:
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.” “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا.” “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا.” “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”. “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”. “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”.
“إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا”.
“وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”. “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”. “وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ”.
وهناك الكثير الكثير من الايات القرانية التي تشكل بمجموعها منظومة القيم العليا للمركب الحضاري الذي جاء به القران الكريم. وهي تشكل بمجموعها طفرة كبرى قياسا الى القيم التي كانت سائدة انذاك في المجتمع العربي الوثني، المشرك، البدوي،
(٢)
المجتمع يرتد الى ذاته

كانت الصورة التي يفترض ان يكون عليها المجتمع الاسلامي الجديد الذي اسسه النبي محمد (ص) بهدي القران مؤلفةً من ناس وارض وعلاقات بين الناس والناس، وبين الناس والارض، قائمةً على اساس الاستخلاف. استخلاف الانسان في الارض لاعمارها واقامة المجتمع العادل فيها، وذلك استنادا الى قوله تعالى:”وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”.
ومن شأن منظومة القيم العليا التي جاء بها القران ان تقيم مجتمعا صالحا قائما على دعامتين هما: شهادة الانبياء وخلافة الانسان. تتولى شهادة الانبياء، التي تتمثل بالرسول محمد وبمن يمتلك مؤهلاتها، متابعة البناء الداخلي التحتاني للمجتمع على اساس منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري، لفترة قد تطول من الزمن، ولعدة اجيال؛ فيما تتمثل خلافة الانسان بسلطة الامة التي تدير شؤونها عن طريق الشورى. وقد اجاد الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر في توصيف هذه الامة في حالتها النموذجية حيث قال ان النص القراني يعطي “للامة صلاحية ممارسة امورها عن طريق الشورى” ويجعل “كل مؤمن ولي الاخرين(…) بمعنى تولي اموره”، منتهيا الى التاكيد على ان النص القراني “ظاهر في سراية الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية. وينتج عن ذلك الاخذ بمبدأ الشورى وبرأي الاكثرية عند الاختلاف”. وكان هذا نموذجا للفهم الحضاري للقران.
وكان على الرسول ان يباشر عملية التغيير واخراج الامة الجديدة على اساس هذه القيم انطلاقا من قوله تعالى:”إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”. على اساس ان تشكل منظومة القيم العليا الجديدة المحتوى الداخلي للمجتمع الجديد “ما بانفسهم”، الذي سوف تقام عليه البنى العلوية للمجتمع.
لكن الفترة الزمنية التي استغرقها الرسول في بناء المركب الحضاري قصيرة جدا ولم يكن من الممكن ان تشمل التربية اعدادا كبيرة من الناس. ويمكن ملاحظة ذلك من الفترات الزمنية التي شكلت حقبة الرسول (ص). ففي في مكة استغرق الرسول (١٣) سنة انتجت نواة الامة الجديدة المؤلفة من حوالي ١٢٠ شخصا، والذين هاجر معظمهم الى يثرب/ المدينة، وصار اسمهم “المهاجرون”. وفي المدينة، حيت ظهرت الفئة الثانية من الامة الجديدة وهم “الانصار”، استطاع الرسول ان يكسب عدة مئات من الهجرة الى صلح الحديبية فصار العدد حوالي الف وخمسمئة. وبعدها حصل التسارع في العدد حتى سار مع الرسول في فتح مكة حوالي ١٠ الاف شخص، الامر الذي جعل ابا سفيان الذي اسلم لتوه ان يقول للعباس عم النبي:”لقد اصبح ملك ابن اخيك عظيما”، فرد عليه:”ويحك انها النبوة”. وهو امر بالغ الدلالة على ما نحن فيه. ثم اسلم بقية العرب من فتح مكة الى وفاة الرسول (٣ سنوات). وليس بين حجة الوداع و وفاة الرسول سوى حوالي ٧٠ يوما.
لذلك لم يكن من المتوقع ان تتبدل طبيعة المجتمع العربي (المنقسم الى اعراب وسكان مدن صغيرة) انذاك تبدلا جوهريا.
ولذا كان تخوف القران من احتمال الردة والانقلاب بعد وفاة الرسول: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ”. وهذا امر ممكن حيث اثبت عالم الاجتماع الفرنسي الين تورين امكانية ان “يرتد المجتمع الى ذاته” حتى لو حصلت تغييرات فوقيه فيه. ولم يكن اسلام العرب سوى تغيير فوقي لم يتغلغل عميقا في نفوسهم، ولذلك قال لهم القران: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ”.
وهذا ما حصل في المجتمع الروسي مثلا الذي ارتد الى ذاته بعد حوالي ٧٠ عاما من الحكم الشيوعي، ولكن لم يحصل مثله في المجتمع الاميركي بعد اكثر من ٢٠٠ سنة.

(٣)
نقاشات السفيفة

الفترة التي استغرقها النبي محمد (ص) في الدعوة الى منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري للمجتمع الاسلامي الجديد، وخاصة بين فتح مكة (سنة ٨ هجرية) ووفاته (سنة ١١ هجرية) لم تكن كافية لتغيير المحتوى الداخلي للمجتمع القديم، رغم ان المنظومة اكتملت في القران الكريم بشهادة الاية ٣ من سورة المائدة التي جاء فيها: “أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي”. فقد اخذ الناس يدخلون باعداد كبيرة في الاسلام بعد فتح مكة: “وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا”، ولم يكن بوسع الرسول ان يتم عملية التغيير التي تحدثت عنها الاية ١١ من سورة الرعد:”إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”.
ولذلك، كان من الممكن جدا ان يتسرب الخلل تدريجيا الى منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري كما حذر القران، ويرتد المجتمع الى طبيعته البدوية لما قبل الاسلام. وقد بدأ تصدّع منظومة القيم القرانية في وقت مبكر بعد وفاة الرسول. وما ارتداد اعداد كبيرة من المسلمين لاسباب مختلفة، بعضها عقائدية والاخرى سياسية او اقتصادية، الا دليل صارخ على سطحية تقبل المجتمع الاسلامي انذاك لهذه القيم. وحصلت بعد ذلك اختلالات في المركب الحضاري مثل طريقة توزيع العطايا، وما حدث في خلافة عثمان ثم مقتله، ثم معركة الجمل التي كشفت عن رخاوة هائلة في التزام المسلمين بالقيم القرانية وخاصة الاية ٩ من سورة الحجرات التي تقول:”وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”. ولن اتعرض بالتفصيل لهذه الاختلالات المختلفة، وسوف اقتصر على الاختلال في الجانب السياسي فقط من المركب الحضاري لعلاقته بتحليل ثورة الامام الحسين من زاوية حضارية.
كانت فكرة الدولة جديدة على مجتمع شبه الجزيرة العربية، وبخاصة بالنسبة لمكة والمدينة والطائف، وهي من الاضافات المهمة التي اضافها الاسلام على حياة سكان مكة والمدينة. لهذا وضعت وفاة الرسول بعد ١٠ سنوات من اقامة دولته المسلمين امام تحدٍ كبير فيما يتعلق بخلافته، وكيفية ادارة الدولة بعد وفاته، وعلاقة الدولة، وهي ظاهرة بشرية، بالدين وهو ظاهرة الهية.
و كشفت النقاشات التي دارت في سقيفة بني ساعدة مباشرة بعد وفاة الرسول، على فرض صحة ما وصلنا منها، عن مسائل مهمة في الجانب السياسي للمركب الحضاري للمجتمع الذي انشأه الرسول، او الامة التي اخرجها القران للناس. ونقل لنا اليعقوبي في تاريخه، وابن قتيبة (٢١٣-٢٧٦ هجرية) في “الامامة والسياسة”، والطبري (٢٢٤-٣١٠) في تاريخه، وغيرهم، نصوص تلك المناقشات.
وقد كانت النقاشات علمانية بامتياز. كان اجتماعا سياسيا غاب عنه الدين، او غاب عنه النص كما يقول حسن العلوي. فقد شهدت تلك المداولات فصلا تاما بين الدين والسياسة، او الدين والدولة. ولم يتم الاستشهاد باية آية قرانية او حديث نبوي او حكم شرعي لحسم مسألة خلافة الرسول في الحكم والقيادة. فمما قيل في تلك المناقشات الساخنة:
“يا معاشر الانصار! منّا رسول الله، فنحن احق بمقامه”.
“منّا امير ومنكم امير!”
“منّا الامراء وانتم الوزراء!”
“قريش اولى بمحمد منكم”.
ومع ان هذا النقاش يكشف عن بقاء قيمة الشورى وهي عادة عربية قديمة اقرها القران، ولكن لم يشرح تفاصيلها، الا انه يكشف في نفس الوقت عن عدة امور او بعضها، سوف أتناولها في الحلقة المقبلة.

(٤)
مشكلة الامامة

الامر الاول الذي كشفته نقاشات السقيفة ان نخبة المجتمع الاسلامي، المؤلفة من كبار الصحابة من المهاجرين والانصار، لم تكن متفقة على الية واحدة لتداول السلطة في الدولة الفتية وعاصمتها المدينة. وكأن القران او الشريعة الاسلامية لم يحددا الية معينة، او ان الصحابة تجاهلوا ذلك. وربما يقال ان الشورى هي الالية، لكنه من الثابت انه لا القران ولا الرسول شرحا تفاصيل الشورى والامور المتعلقة بها. وقد اثبتت طرق تولي كل من ابي بكر وعمر وعثمان وعلي ان مجتمع الرسول لم يحقق اجماعا على الية دستورية محددة لتولي السلطة وتداولها سوى ما قاله علي بن ابي طالب سنة ٣٥ هجرية على ما يرويه الطبري من انه قال:”ان هذا امركم ليس لاحد فيه حق الا من امرتم”. او قول عمر بن الخطاب قبله في سنة ٢٣ هجرية :”ألا وإنَّه بلَغني أنَّ فلانًا قال: لو قد مات عمرُ بايَعْتُ فلانًا فمَن بايَع امرأً مِن غيرِ مشورةٍ مِن المسلِمينَ فإنَّه لا بيعةَ له ولا للَّذي بايَعه فلا يغتَرَّنَّ أحدٌ فيقولَ: إنَّ بيعةَ أبي بكرٍ كانت فَلتةً ألا وإنَّها كانت فلتةً إلَّا أنَّ اللهَ وقى شرَّها”، وفي رواية اليعقوبي:”فمن عاد لمثلها فاقتلوه”. هذا اذا اغضضنا النظر عما قاله الرسول في خطبة غدير خم المشهورة، كما سيأتي. وبغض النظر عما كتبه الفقهاء في العصور التالية، مثل الماوردي في “الاحكام السلطانية” وغيرها، فان ما فعله المسلمون في مسألة تولي السلطة وتداولها في عهد الخلفاء الراشدين الاربعة لا يمكن ان نعتبره مصدرا للتشريع، لانه كان محض اجتهاد بشري لمجتمع له ظروفه الخاصة انذاك. وهنا يظهر حجم الخطأ الذي ارتكبه الفقهاء في العصور اللاحقة حين اعتبروا طرق تولي الخلفاء الاربعة تمثل الشريعة الاسلامية واخرجوها من اطارها البشري وادخلوها في دائرة الاحكام الشرعية السلطانية واستنبطوا منها احكامهم الشرعية.
الامر الثاني، قد يحتمل الباحث ان يكون الرسول ربما حسم مسألة خلافته باحدى ثلاث طرق هي:
اولا، تسمية من يخلفه في الحكم. وهذا ما عليه قول الشيعة الامامية من ان الرسول نص على علي بن ابي طالب في غدير خم سنة ١٠ للهجرة، قبل حوالي ٧٠ يوما من وفاته، وذلك في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الالباني:”مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلاهُ”. ولم يتم الاحتجاج بهذا الحديث في ما وصلنا من نقاشات السقيفة.
ثانيا، ان الرسول او الشريعة الاسلامية وضعا الية محددة لتداول السلطة وتوليها في المجتمع الاسلامي. ولكن لم يلتزم بها المسلمون. وايضا لم يتم الاحتجاج بهذه الالية في مناقشات السقيفة، ولا في السنوات التالية حتى استيلاء معاوية على السلطة سنة ٤١ هجرية.
ثالثا، ان الرسول ترك امر تولي السلطة بعده فارغا، واحال الامر الى المسلمين انفسهم، على خلاف مافعله ابو بكر وعمر اللذان فكرا في الخلافة بعدهما. وايضا لم يتم البرهنة على هذا الامر. بل ان البرهنة عليه اصعب من البرهنة على ان الرسول سمّى خليفته.
وهكذا اصبحت مسالة خلافة الرسول وتولي السلطة، بعده، او ما سمي لاحقا “الامامة”، سبب “اعظم خلاف بين الامة”، حيث “ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان”، كما يقول ابو الفتح محمد الشهرستاني (٤٩٠-٥٤٨ هجرية) في كتابه “الملل والنحل”.
وكان هذا اكبر خلل حصل في المركب الحضاري لمجتمع الرسول، في الجانب السياسي، وهو عدم الاتفاق بين الناس على الية دستورية محددة لتولي السلطة، وهم امر كان قد حسم قبل حوالي الف عام في اثينا الديمقراطية. وربما ان العرب عامة والمسلمين خاصة لم يكونوا على علم واطلاع بالتجربة الديمقراطية في اثينا وغيرها.

(٥)
التنافس على السلطة

فجرت وفاة الرسول (ص) تنافسا مريرا بين المسلمين عامة، والصحابة خاصة، حول السلطة،
بانت بعض اوجه قسوته وشدته في قول الحباب بن منذر بن الجموح الانصاري: “وان ابوا (المهاجرون) فاجلوهم عن البلاد، فبأسيافكم دان الناس لهذا الدين، وان شئتم اعدناها جذعةً (جديدا كما بدأ) انا جُذَيْلُها المُحَكّك (الذي يُلجأ اليه)، وعُذَيقُها المرجّب.”الذكي المهاب).
ولئن خفت حدة التنافس بين الصحابة في عهد ابي بكر وعمر، فقد بانت بعد وفاته، حين شكل لجنة الشورى التي كلفها ان تختار احدهم لمنصب الخلافة، ثم انفجر الصراع حول السلطة واخذ طابعا عسكريا مسلحا في معركة الجمل في عام ٣٦ هجرية، وهي ما يمكن اعتباره اول حرب اهلية بين الصحابة ومن وراءهم من اتبعهم من المسلمين، ثم معركة صفين التي اوضحت بجلاء عمق انقسام العالم الاسلامي الفتي على نفسه بسبب السلطة. وهذا اكبر خلل يمكن ان يحصل في المركب الحضاري لاي مجتمع.
نعم كان هناك تفاهم ضمني ان الخلافة لا تورث. فلم يفكر ابو بكر او عمر او عثمان او علي او الحسن بان ينقل اي منهم الخلافة الى اي من ولده. ولعل ذلك كان من بقايا اشعاعات الحوار الذي ينقله القران بين الله وابراهيم في قوله تعالى:”وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ . قَالَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا. قَالَ: وَمِن ذُرِّيَّتِي؟ قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ”. ومنه يمكن ان نفهم ان الامامة او الخلافة او الرئاسة او الولاية لا تورث من الاب الى الابن لمجرد توفر علاقة الابوة-البنوة بين رجلين. وهذا لا ينطبق على امامة الائمة الاثني عشر من اهل البيت عند الشيعة، لانها لم تكن وراثية، وانما منصوص عليهم بالاسماء من قبل الرسول، على الاقل كما يعتقد الشيعة. علما اننا نتحدث هنا عن الخلافة الزمنية او الرئاسة السياسية التي لم تكن وراثتها مطروحة في عهد الخلفاء الراشدين. ففي عهد اولئك الخمسة كان الحكم “خلافة” عن رسول الله، وليس “ملكا عَضوضا”، كما في حديث ينسب الى الرسول. والملك العضوض: فيه ظلم وعسف واستبداد. وخلافة رسول الله لا تصل الى متوليها وراثةً عن ابيه. الابن لا يرث الحكم من ابيه. هذا المقدار من الفهم كان موجودا طيلة اربعين عاما بعد الرسول.
لكن كبار القوم لم يكونوا يخفون طمعهم بالسلطة. وقد اشتكى الخليفة ابو بكر من ذلك بعدما عهد بالخلافة الى عمر حين امر عثمان ان يكتب: “فاني قد استعملتُ عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا واطيعوا”. وقال لعبد الرحمن بن عوف:”وقد زدتموني على ما بي أن رأيتموني استعملت رجلا منكم فكلكم قد اصبح وارم انفه، وكل يطلبها لنفسه.” وقد استمر الخلاف والسلطة بين المسلمين الى اليوم وكان من اسباب تفرقهم وضعفهم وتغلب الاعداء عليهم.
لقد صنع المسلمون مؤسسة للسلطة في مجتمعهم، على قدر وعيهم ونضجهم السياسي، بل حتى القاب الحاكم كانت من صنع الناس. فقد اطلق الناس على ابي بكر لقب خليفة رسول الله، وعلى عمر في شطر من خلافته لقب خليفة خليفة رسول الله، ثم سمي امير المؤمنين عام ١٨ لان ابو موسى الاشعري خاطبه في كتاب بعثه له بهذا العنوان. وقيل ان المغيرة بن شعبة دخل عليه فقال: السلام عليك يا امير المؤمنين، فقال عمر: لتحرجن مما قلت. فقال: السنا مسلمين؟ قال عمر: بلى! فقال المغيرة: وانت اميرنا؟ قال عمر: اللهم نعم!
وليس من الانصاف العلمي والموضوعي ان ننسب كل ذلك الى الاسلام.

(٦)
معاوية بن ابي سفيان

لست معنيا هنا بالاوصاف التي يطلقها المؤرخون على معاوية بن ابي سفيان في المجال الثقافي الديني- الاسلامي مستخدمين مصطلحات ذات حمولات دينية مثل “صحابي” او “كاتب الوحي”. انما انا انظر الى معاوية بوصفه سياسيا ماهرا ورجل دولة محنكا اثر تأثيرا كبيرا في المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية؛ انظر اليه كشاب، وكرجل لاحقا، ذي طموحات سياسية بعيدة استقى بعضها من كونه ابن زعيم كبير في المرحلة التي سبقت الاسلام، واستطاع استغلال الظروف التي شهدها المجتمع الاسلامي منذ وفاة الرسول الى مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان لتحقيق احلامه وطموحاته. الظروف التي تمثلت ببدء تآكل منظومة القيم الحضارية القرانية التي عمل الرسول على ارسائها خلال ٢٣ عاما دون ان تكون هذه الفترة الزمنية كافية لترسيخها في “اللاشعور السياسي”(ريجيس دوبريه)، او “المخيال الاجتماعي” (ماكس فيبر)، الامر الذي مكّن معاوية ان يقلب هذه المنظومة رأسا على عقب.
ولد معاوية سنة ١٥ قبل الهجرة، كما تقول احدى الروايات، واسلم عام الفتح، سنة ٨ للهجرة وعمره ٢٣ سنة. قال السيوطي في “تاريخ الخلفاء”: “معاوية بن ابي سفيان… اسلم وابوه يوم الفتح… وكان من المؤلفة قلوبهم.” و اثبت ذلك ابن تيمية وشرحه الدكتور عدنان ابراهيم في محاضراته التلفزيونية. وكان من الطلقاء المؤلفة قلوبهم. وهذا يعني انه قد فاتته ٢١ سنة من الاسلام، كان ابوه فيها محاربا شديدا للاسلام، وامه حاقدة على الرسول وعمه الحمزة. ولا نتوقع ان فترة السنتين وبضعة اشهر ستكون كافية بالنسبة لشاب في عمره لاستيعاب ما فاته من الاسلام. والواقع ان ما نزل من القران بعد فتح مكة كان قليلا جدا بالنسبة لما نزل قبله، ولم يكن من المتاح لمعاوية ان يلازم النبي كل الوقت لكي يتعلم كل ما نزل من القران في هذه الفترة، فضلا عما فاته. فهو، اذاً، ممن تنطبق عليه الاية القرانية القائلة:”لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا”.
لم اعثر على دور لمعاوية في مناقشات السقيفة، ولا في حروب الردة. لكن بدأ دوره العسكري بالبروز حين بدأت الفتوحات. قال السيوطي (ت ٩١١): “ولما بعث ابو بكر الجيوش الى الشام سار معاوية مع اخيه يزيد بن ابي سفيان فلما مات يزيد استخلفه على دمشق، فاقره عمر، ثم اقره عثمان وجمع له الشام كلها، فاقام اميرا عشرين سنة وخليفة عشرين سنة”، والاصح ان نقول:”ملكا”. فقد ولاه عمر عمل اخيه يزيد بن سفيان الذي مات بالطاعون سنة ١٨ هجرية. وقد اصبح له من العمر ٣٣ عاما. ليتكرس موقعه ودوره في الدولة الاسلامية الفتية كقائد عسكري محنك يحقق الانجازات مثل فتح قيسارية في فلسطين في تلك السنة، ثم عسقلان في سنة ٢٣. وفي سنة ٣٢ كلفه عثمان غزو الروم. ولربما بدأت عينه تتفتح على منصب الخلافة، خاصة مع تعاظم دور بني امية في الحكم شراكةً مع عثمان. وقد قال عن نفسه: “مازلت اطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله “يا معاوية اذا ملكت فاحسن”، اذا صحت الرواية.
وحين قُتل عثمان سنحت له الفرصة الذهبية فلم يبايع عليا بالخلافة، واعتصم في الشام مطالبا بدم عثمان، فيما كان يسعى الى توسيع مساحة نفوذه وسلطته تدريجيا باقتطاع مناطق من الدولة الاسلامية. قاتل معاوية علياً على الملك وليس على دم عثمان، و اقترح على علي بان يكون لعلي العراق ولمعاوية الشام فلا يدخل احدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو، كما يذكر الطبري نقلا عن كتاب الى علي من معاوية، وارسل جيوشا الى الحجاز واليمن ومصر للسيطرة عليها وحمل الناس على البيعة له تحت تهديد السيف. وقد تكررت في التاريخ هذه الحالة حين يتمرد زعيم محلي على السلطة المركزية، ويتمترس في اقليمه وهو يتحرك على مستويين: الاستقلال بولايته، او الاستيلاء على السلطة المركزية، اي الخلافة في حالتنا. في عصرنا الحالي حاول الزعيم المحلي الطموح مويز كابون تشومبي (١٩١٩-١٩٦٩) الامر نفسه حين اعلن انفصال اقليم كاتنغا عن الكونغو وتولى رئاسته بين عامي ١٩٦٠ الى ١٩٦٣، ثم اصبح رئيسا لوزراء الحكومة المركزية بعد فشل محاولته الانفصالية من عام ١٩٦٤ الى عام ١٩٦٥. وهذا ما فعله معاوية.

(٧)
انتكاسة منظومة القيم
انتهت الحرب الاهلية باضطرار خامس خلفاء الراشدين الحسن بن على عن الخلافة وتسليم مقاليد الحكم الى معاوية. وتحقق بذلك حلم معاوية القديم بتولي السلطة في دولة الرسول التي حاربها ابوه من قبل. وكان هذا الحدث الكبير اكبر تحول في تاريخ الدولة. انتهى عصر الخلافة الراشدة وبدأ عهد الملك العضوض كما اخبر النبي (ص)، واصبح معاوية اول ملك علماني للدولة التي اسسها نبي. وقد اقر معاوية على نفسه ذلك حين قال: ” أنا أول الملوك”، كما روى ابن عبد البر في “الاستيعاب” وابن كثير في “البداية والنهاية”.
روى اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ١٢٤ ان الصحابي الكبير سعد بن مالك الخدري الانصاري (ت ٧٤ هجرية) دخل على معاوية فقال: السلام عليك ايها الملك. فغضب معاوية وقال له: الا قلت السلام عليك يا امير المؤمنين؟ فقال الصحابي: ذاك ان كنا امرناك، انما انت مُنْتَزٍ. اي مستلب.
اعلن الاخير صراحة انه قاتل من اجل الحكم لا من اجل اي هدف ثانٍ، واخبر اهل المدينة، مدينة الرسول وعاصمة دولته، حين زارها في عام ٤١ هجرية:”فاني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة”.
وجسد تولي معاوية الملك الانهيار الكبير في منظومة القيم الحضارية العليا التي سعى النبي الى زرعها في المجتمع الجديد من خلال القران الكريم. ويذكر باحثون اكاديميون، مثل محمد عابد الجابري في كتابه “العقل الاخلاقي العربي” ان هذا الانهيار حصل بصورة تدريجية ولم يحصل فجأة.
وتحسبا لاية اساءة للتفسير لكلامي هذا، سوف استعرض فقرة طويلة مما قاله الجابري حول ما سماه “انقلاب في القيم”. فقد كتب يقول (ص ٦٠-٦٣): “ما من شك في ان الدعوة المحمدية في مكة قد احدثت انقلابا في القيم طال مختلف مناحي حياة سكان هذه المدينة التجارية العتيقة”…”وما ان هاجر الرسول الى المدينة حتى بدأ نظام القيم الجديد يحل مكان القديم”….”وشيئا فشيئا بدأت الدعوة تؤتي ثمارها فحولت مجتمع اللادولة الى مجتمع الدولة ونشأت مدينة فاضلة قادها نبي”….”ومع ذلك، تأبى الطبيعة البشرية الا ان تفرض نفسها. فلم يمر الا نحو من عشرين سنة حتى وقعت دولة المدينة في ازمة كان من ابرز مظاهرها انتكاسة خطيرة على صعيد القيم التي بشرت بها الدعوة المحمدية واقامت عليها دولتها”. وكان من نتائج “الانتكاسة القيمية” او من مظاهرها مقتل الخليفة عثمان، ومعركة الجمل، ثم معركة صفين (الحرب الاهلية)، واخيرا سقوط الخلافة الراشدة، وتحولها الى “ملك عضوض” على يد معاوية الى الدرجة التي جعلت الجابري يقول:”ان الامور انما تدهورت وخرجت عن “الصراط المستقيم” يوم انقلبت الخلافة الى ملك عضوض”.
والان، هل يتصدى معاوية، وقد اصبح ملكا، لهذه الانتكاسة، ويصلحها، ويعيد بناء نظام القيم القرانية الذي شاده النبي، ام يسير مع خط الانتكاسة ليعمقها ويرسخها في مجتمع الرسول؟
في الواقع، حتى لو اراد الملك معاوية ان يكون مصلحا، فلن يستطيع ذلك، مهما كانت نواياه، لسبب بسيط وهو ان الرجل لم يتثقف ويتربى على هذه القيم، ولم يكن لديه من الوقت ما يكفي للاطلاع عليها، واستيعابها، وبناء شخصيته، بفكرها ومشاعرها وتصرفاتها، بموجبها. وكان الرسول قال في السنوات الاولى لبعثته وقبل ان يسلم معاوية:”ان دين الله لن ينصره الا من احاطه من جميع جوانبه”. ولهذا فان ما يحدثنا التاريخ عن معاوية بعد ان اصبح ملكا انه سار في الطريق الثاني، اي تعميق الانتكاسة القيمية، والابتعاد عن منظومة القيم القرانية، واعادة بناء الدولة “الاسلامية” بموجب نظام جديد للقيم مفارق للقيم “الاسلامية” التي جاء بها القران.
ومما يذكره المؤرخون من اجراءات معاوية في هذا السياق ما فعله في سنة ٤٣ هجرية، حين استخلف معاوية زياد بن ابيه “وهي اول قضية غير فيها حكم النبي في الاسلام، ذكره الثعالبي وغيره”، كما قال السيوطي.
وهذه واحدة من مفردات كثيرة، جعلت الصحابي المعروف حذيفة بن اليمان يقول: “إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان”، او جعل انس أنَسِ بنِ مالِكٍ يَبْكِي بدمشق، وهو يقول: “لا أعْرِفُ شيئًا ممَّا أدْرَكْتُ إلَّا هذِه الصَّلاةَ وهذِه الصَّلاةُ قدْ ضُيِّعَتْ”، كما في صحيح البخاري.
لكن الطامة الكبرى كانت في جعل معاوية الخلافة “ملكية وراثية”.

(٨)
وراثة الملك
لم يتفق المسلمون، منذ وفاة الرسول محمد (ص) الى اليوم، على ما يمكن ان يسموه “نظرية الاسلام في الحكم”. لكن، وبغض النظر عما يؤمن كل فريق منهم، فان احدا منهم لم يدر بخلده ان الاسلام يقول بوراثة الحكم. فالحد الادنى للاتفاق بينهم هو قوله تعالى: “وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ”، وهذا ينطبق على كل امورهم الدنيوية. وقد كان الرسول يشاور اصحابه امتثالا لقوله تعالى:”وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ”. وقد علّق السيد محمد باقر الصدر على هذه الاية بقوله:”وقد اوجب الله سبحانه وتعالى على النبي – مع انه القائد المعصوم-ان يشاور الجماعة ويشعرهم بمسؤوليتهم في الخلافة من خلال التشاور”. واوضاف:”ويعتبر هذا التشاور من القائد المعصوم عملية اعداد للجماعة من اجل الخلافة وتأكيدا عمليا عليها”، موضحا:”ان التأكيد على البيعة للانبياء وللرسول الاعظم واوصيائه تأكيد من الرسول على شخصية الامة واشعار لها بخلافتها العامة وبأنها بالبيعة تحدد مصيرها”، ولاحظ الصدر ان “القران الكريم دأب على ان يتحدث للامة في قضايا الحكم توعيةً منه للامة على دورها في خلافة الله على الارض”. ومن الناحية التطبيقية اشار الصدر الى ان النبي كان يصر على “اشراك الامة في اعباء الحكم ومسؤليات خلافة الله في الارض حتى انه في جملة من الاحيان كان يأخذ بوجهة النظر الاكثر انصارا مع اقتناعه شخصيا بعدم صلاحيتها وذلك لسبب واحد وهو ان يُشعر الجماعة بدورها الايجابي في التجربة والبناء.” وبهذا المقدار، اي فيما يتعلق بالشورى، سار الخلفاء الراشدون من بعده، فكانوا يستشيرون الناس في القرارات المصيرية التي تواجههم طيلة ٣٠ عاما. ومن هنا اقول ان “الاستخلاف” هو القيمة المركزية في منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة.
ولسنا ندري كيف سيكون حال المسلمين لو استمروا على ممارسة الشورى في حياتهم العامة وفي شؤون الحكم خاصة؛ لربما سارت مجتمعاتهم في الطريق المؤدي الى الديمقراطية وحكم الشعب حتى وان كان في اطار الشريعة الاسلامية بوصفها عقيدة المجتمع. لكننا ندري ما اصابهم حين تخلوا عن الشورى وقبلوا بالاستبداد. وكانت بداية ذلك على يد معاوية الذي حوّل الخلافة الشوروية الى ملكية عائلية وراثية استبدادية جمعت اسوأ ما في الكسروية والقيصرية، حتى قال عبد الله بن عمر: «إن هذه الخلافة ليست بهرقلية ولا قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كانت كذلك كنت القائم بها بعد أبي».
لم يفكر الخلفاء الراشدون في توريث الخلافة الى ابنائهم. لم يفعل ذلك ابو بكر ولا عمر بن الخطاب ولا حتى عثمان الذي انحرف في النصف الثاني من ولايته، رغم انه كان في ابنائهم من يصلح للخلافة.
فلم يسعَ الامام علي الى توريث ابنه الخلافة، رغم ماعنده من احاديث النبي حول احقيته بها. ولما قتل تولى ابنه الحسن الخلافة. وقد تثور في الذهن شبهة ان خلافة الحسن كانت وراثة ورثها عن ابيه الخليفة. ولكن الامر ليس كذلك.
ذكر الطبري ان الناس بايعوا الحسن بعد مقتل ابيه الامام علي. وقال ان اول من بايعه قيس بن سعد، ثم بايعه الناس. وقال: “استخلف اهل العراق الحسن بن علي عليه السلام على الخلافة” و “بايع الناس الحسن بن علي عليه السلام بالخلافة” و “بايع اهل العراق الحسن بن علي بالخلافة”، وقال اليعقوبي:”واجتمع الناس فبايعوا الحسن بن علي”. وقال ابن قتيبة الدينوري (٢١٣-٢٧٦ هجرية) في “الامامة والسياسة”: “لما قتل علي بن ابي طالب ثار الناس الى الحسن بن علي بالبيعة”.
وكان اصحاب علي قالوا بعد ان طعنه عبد الرحمن بن ملجم:”يا امير المؤمنين إنْ فقدناك ولا نفقدك فنبايع الحسن؟” فقال:”ما امركم ولا انهاكم انتم ابصر”، كما يروي الطبري، وابن الاثير.
ولعل المسلمين انذاك كانوا يستحضرون “الحوار” الذي دار بين الله والنبي ابراهيم والذي يرويه القران الكريم كما يلي: “وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا. قَالَ: وَمِن ذُرِّيَّتِي؟قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ”. ففهموا منه ان القران يرفض توريث السلطة.

(٩)

يفهم من كتب التاريخ ان معاوية كان يفكر ويخطط لنقل الملك بعده الى ابنه يزيد. وقد جسد معاوية بهذا ظاهرةً سوف تتكرر في التاريخ الاسلامي بعده كثيرا. وهي ظهور طامعين بالسلطة، يقفزون عليها باية وسية كانت ويستولون على الحكم. وقد لا يكتفي هؤلاء بالاستيلاء على السلطة وانما يسعون الى توريثها محاكاة للانظمة الملكية، رغم انهم كانوا يعارضون الحكم الملكي. ويقدم التاريخ القديم الكثير من الشواهد على ما نقول. ففي ايران قام رضا بهلوي (١٨٧٨-١٩٤٤)، مؤسس الدولة البهلوية، بخلع اخر شاهات الاسرة القاجارية عام ١٩٢٥ وحكم ايران الى عام ١٩٤١ ليخلفه ابنه محمد رضا الذي خلعته الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني عام ١٩٧٩. وكذلك فعل الرئيس السوري حافظ الاسد الذي كان يخطط لتوريث الحكم الى ابنه باسل الاسد، لكن مقتله بحادث سيارة ١٩٩٤ نقل الرئاسة الى اخيه بشار منذ عام ٢٠٠٠ الى اليوم. وفعل الامر نفسه الرئيس الكوري الشمالي كيم ايل سونغ (١٩١٢-١٩٩٤) الذي اسس رئاسة وراثية انتقلت الى ابنه كيم جون ال (١٩٤١-٢٠١١) ثم الى حفيده كيم جونغ اون الذي مازال يحكم البلاد. ولا نستبعد ان كلا من صدام حسين وحسني مبارك وعبد الله صالح كانوا يخططون لتوريث الحكم الى ابنائهم. وهذه ظاهرة لم نكن نجدها في اثينا او روما في عهدها الجمهوري.
يروي الطبري و ابن قتيبة وغيرهما ان قصة تولية يزيد العهد من قبل ابيه معاوية تبدا بما اشار عليه المغيرة بن شعبة. وذكر أنه لما استقامت الأمور لمعاوية، استعمل على الكوفة المغيرة بن شعبة، ثم هم أن يعزله ويولي سعيد بن العاص، فلما بلغ ذلك المغيرة قدم الشام على معاوية، واقترح عليه جعل ابنه يزيد وليا للعهد وقال له: “فاجعل للناس بعدك علما يفزعون إليه، واجعل ذلك يزيد ابنك”. وافق معاوية فورا على الاقتراح، وابقى المغيرة في منصبه، بل امره “أن يعمل فِي بيعة يَزِيد”. وفي الوقت الذي لا ننفي فيه مشورة المغيرة، الا ان ذلك لا يعني ان معاوية لم يفكر بالامر قبل المغيرة. كلما في الامر ان الاقتراح وقع في المكان المناسب.
فلما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق، وفيهم الأحنف بن قيس، رتب معاوية سيناريو لاخراج الفكرة الى العلن، فدعا الضحاك بن قيس الفهري، فقال له: إذا جلست على المنبر، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي، فاستأذني للقيام، فإذا أذنت لك، فأحمد الله تعالى، واذكر يزيد، قل فيه الذي يحق له عليك، من حسن الثناء عليه، ثم ادعني إلى توليته من بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته، فأسأل الله في ذلك، وفي غيره الخيرة وحسن القضاء. ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وثور بن معن السلمي، وعبد الله بن عصام الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن يصدقوا قوله، ويدعوه إلى بيعة يزيد. فلما جلس معاوية على المنبر، وفرغ من بعض موعظته، وهؤلاء النفر “الظالمون المستضعفون” كما في مصطلح السيد الصدر، في المجلس قد قعدوا للكلام، واستعدوا له، وبعد ان اذن لهم معاوية تحدثوا واحدا واحدا بما اتفقوا عليه من الاشادة بيزيد ودعوة معاوية الى توليته الخلافة بعده.
واللافت للنظر ان الأحنف بن قيس قال لمعاوية: “ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك، فإن تف فأنت أهل الوفاء، وإن تغدر تعلم والله إن وراء الحسن خيولا جيادا، وأذرعا شدادا، وسيوفا حدادا”. وفي هذا دليل على ان معاوية شرع بالتحرك لاخذ الولاية لابنه يزيد قبل وفاة الحسن، كما اخذ البيعة لنفسه بالخلافة من اهل الشام قبل وفاة علي.

(١٠)

كنت قد رويت طرفا من خطة معاوية لتولية ابنه يزيد الملك من بعده، وقد رأيت انه من المفيد ان اروي القصة اليوم بتفصيل اكثر كما رواها المؤرخ ابن الاثير الموصلي (٥٥٥-٦٣٠ هجري) في كتابه “الكامل في التاريخ” ضمن احداث سنة ٥٦ هجرية حين بَايَعَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ بِوِلَايَةِ عَهْدِ أَبِيهِ. فقد ذكر ابن الاثير ان “ابْتِدَاءُ ذَلِكَ وَأَوَّلُهُ كان مِنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ” الذي ولد في عام ٢٣ قبل الهجرة، واسلم في عام معركة الخندق الخامس للهجرة، ومات في عام ٥٠ للهجرة. ذلك ان مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: الرَّأْيُ أَنْ أَشْخَصَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأَسْتَعْفِيَهُ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ كَرَاهَتِي لِلْوِلَايَةِ.
وكان ذلك قبل عام ٥٠ للهجرة، لان المغيرة توفي في ذلك العام، وقبل وفاة الامام الحسن الذي كان قد تصالح مع معاوية على شروط ان تعود الخلافة اليه ان مات معاوية قبله.
ذهب المغيرة الى دمشق. في البداية التقى يزيد وقال له ما مضمونه إِنَّهُ بعد ذهاب أَعْيَانُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وكبراء قُرَيْشٍ وَذَوُي أَسْنَانِهِمْ، “بَقِيَ أَبْنَاؤُهُمْ وَأَنْتَ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَأَحْسَنِهِمْ رَأْيًا وَأَعْلَمِهِمْ (بِالسُّنَّةِ) وَالسِّيَاسَةِ، وَلَا أَدْرِي مَا يَمْنَعُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْقِدَ لَكَ الْبَيْعَةَ”. ولابد ان يزيد تفاجأ بهذا الاقتراح، فسأل المغيرة: أَوَتَرَى ذَلِكَ يَتِمُّ؟ قَالَ نَعَمْ.
فَدَخَلَ يَزِيدُ عَلَى أَبِيهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْمُغِيرَةُ، فَأَحْضَرَ الْمُغِيرَةَ وَقَالَ لَهُ مَا يَقُولُ يَزِيدُ، فَقَالَ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَأَيْتَ مَا كَانَ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالِاخْتِلَافِ بَعْدَ عُثْمَانَ، وَفِي يَزِيدَ مِنْكَ خَلَفٌ، فَاعْقِدْ لَهُ، فَإِنْ حَدَثَ بِكَ حَادِثٌ كَانَ كَهْفًا لِلنَّاسِ وَخَلَفًا مِنْكَ، وَلَا تُسْفَكُ دِمَاءٌ وَلَا تَكُونُ فِتْنَةٌ”. وكما قلت سابقا، فان معاوية لم يتفاجأ بهذا الاقتراح، لانه ربما راود نفسه من قبل بعد ان اشاد الملك لنفسه، كما فعل كل الحكام الطامعين بالسلطة من بعده. ولهذا سارع الى طرح السؤال العملي والاجرائي: وَمَنْ لِي بِهَذَا؟ فاجابه المغيرة: أَكْفِيكَ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَيَكْفِيكَ زِيَادٌ أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَيْنِ الْمِصْرَيْنِ أَحَدٌ يُخَالِفُكَ.
قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ وَتَحَدَّثْ مَعَ مَنْ تَثِقُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَتَرَى وَنَرَى. وبذا ضمن المغيرة بقاءه في منصبه! وعلّق على ما فعله بمعاوية قائلا: “لَقَدْ وَضَعْتَ رِجْلَ مُعَاوِيَةَ فِي غَرْزٍ بَعِيدِ الْغَايَةِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَفَتَقْتَ عَلَيْهِمْ فَتْقًا لَا يُرْتَقُ أَبَدًا.” وصدق المغيرة فيما قال.
وَفي الْكُوفَةَ طرح المغيرة “امر يزيد” على مَنْ يَثِقُ بهم، وَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ شِيعَةٌ لِبَنِي أُمَيَّةَ، مستخدما المال السياسي في اقناعهم، فَأَجَابُوا إِلَى بَيْعَتِهِ، فَأَوْفَدَ مِنْهُمْ عَشَرَةً، وَيُقَالُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ، وَأَعْطَاهُمْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ مُوسَى بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَقَدِمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ فَزَيَّنُوا لَهُ بَيْعَةَ يَزِيدَ وَدَعَوْهُ إِلَى عَقْدِهَا: فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا تُعَجِّلُوا بِإِظْهَارِ هَذَا وَكُونُوا عَلَى رَأْيِكُمْ.
وَقِيلَ: أَرْسَلَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ عُرْوَةَ، ودفع لكل واحد منهم ٤٠٠ دينار. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ قَامُوا خُطَبَاءَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَبِرَتْ سِنُّكَ وَخِفْنَا انْتِشَارَ الْحَبْلِ، فَانْصِبْ لَنَا عَلَمًا وَحُدَّ لَنَا حَدًّا نَنْتَهِي إِلَيْهِ.
فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلِيَّ.
فَقَالُوا: نُشِيرُ بِيَزِيدَ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَوَقَدَ رَضِيتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ:
قَالَ: وَذَلِكَ رَأْيُكُمْ؟ قَالُوا نَعَمْ، وَرَأْيُ مَنْ وَرَاءَنَا:
وَقَالَ لَهُمْ: نَنْظُرُ مَا قَدِمْتُمْ لَهُ، وَيَقْضِي اللَّهُ مَا أَرَادَ، وَالْأَنَاةُ خَيْرٌ مِنَ الْعَجَلَةِ. فَرَجَعُوا.
الى هنا من القصة، يكشف هذا المقطع عن عدة امور منها:
اولا، غياب مفهوم خلافة الامة وحقها في تقرير مصيرها واختيار حكامها.
ثانيا، موافقة بعض الناس منح الملك الحالي سلطة تعيين الملك اللاحق.
ثالثا، تقبل ان يكون الابن وريثا للحكم، الامر الذي لم يفعله الخلفاء الراشدون الاربعة.
رابعا، غلبة “الغنيمة”، او المال السياسي، على “العقيدة”، في تكوين العقل السياسي العربي/الاسلامي انذاك، اذا اردنا الاخذ بثلاثية محمد عابد الجابري: القبيلة والغنيمة والعقيدة. وهذا ما سجله معاوية على هؤلاء الرهط حين سأل عروة بن المغيرة سِرًّا عَنْهُمْ: بِكَمُ اشْتَرَى أَبُوكَ مِنْ هَؤُلَاءِ دِينَهُمْ؟ قَالَ: بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ: قَالَ: لَقَدْ وَجَدَ دِينَهُمْ عِنْدَهُمْ رَخِيصًا!
خامسا واخيرا، دور العامل الفردي (هنا المغيرة بن شعبة) في صناعة بعض احداث التاريخ، حين تكون العوامل الموضوعية متوفرة.
(١١)

يواصل ابن الاثير، ونحن معه، رواية قصة تولية يزيد الملك عن طريق الوراثة، فيقول ان مُعَاوِيَةَ قرر، بعزم قوي، المضي قدما في تحقيق الامر. فَأَرْسَلَ إِلَى زِيَادٍ يَسْتَشِيرُهُ، الذي استشار بدوره عُبَيْدَ بْنَ كَعْبٍ النُّمَيْرِيَّ، وذكر له ما طلبه معاوية، وقال له انه يَتَخَوَّفُ نَفْرَةَ النَّاسِ وَيَرْجُو طَاعَتَهُمْ (لكن) يزيد صَاحِبُ رَسْلَةٍ وَتَهَاوُنٍ مَعَ مَا قَدْ أُولِعَ بِهِ مِنَ الصَّيْدِ، فَالْقَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَدِّ إِلَيْهِ فَعْلَاتِ يَزِيدَ وَقُلْ رُوَيْدَكَ بِالْأَمْرِ، فَأَحْرَى أَنْ يَتِمَّ لَكَ مَا تُرِيدُ ، لَا تَعْجَلْ فَإِنَّ دَرَكًا فِي تَأْخِيرٍ خَيْرٌ مِنْ فَوْتٍ فِي عَجَلَةٍ. لكن عُبَيْدٌ قال له: لَا تُفْسِدْ عَلَى مُعَاوِيَةَ رَأْيَهُ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَيْهِ ابْنَهُ، و اقترح ان يحدث هو يزيد ويخبره بان معاوية و كَتَبَ إِلَى زياد يَسْتَشِيره فِي الْبَيْعَةِ لَهُ، وَأَنَّه يتخوف من اختلاف النَّاسِ عَلَيْهِ لِهَنَاتٍ يَنْقِمُونَهَا عَلَيْهِ، وَأَنَّ زياد برى ان على يزيد ان يترك مَا يُنْقَمُ عَلَيْهِ لِتَسْتَحْكِمَ لَهُ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ وَيَتِمَّ مَا يريد معاوية، فوافقه زياد على ذلك، فَقَدِمَ عَلَى يَزِيدَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَتَبَ زِيَادٌ مَعَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُشِيرُ بِالتُّؤَدَةِ وَأَنْ لَا يَعْجَلَ، فَقَبِلَ مِنْهُ. فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ عَزَمَ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْبَيْعَةِ لِابْنِهِ يَزِيدَ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَبِلَهَا، فَلَمَّا ذَكَرَ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: هَذَا أَرَادَ أَنَّ دِينِي عِنْدِي إِذَنْ لَرَخِيصٌ. وَامْتَنَعَ.
ثُمَّ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمَ: “إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَتَخَيَّرَ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بَعْدِي، وَكَرِهْتُ أَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا دُونَ مَشُورَةِ مَنْ عِنْدِكَ، فَاعْرِضْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَعْلِمْنِي بِالَّذِي يَرُدُّونَ عَلَيْكَ”. فَقَامَ مَرْوَانُ فِي النَّاسِ فَأَخْبَرَهُمْ بِهِ، فَقَالَ النَّاسُ: أَصَابَ وَوُفِّقَ، وَقَدْ أَحْبَبْنَا أَنْ يَتَخَيَّرَ لَنَا فَلَا يَأْلُو. فَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ، فَأَعَادَ إِلَيْهِ الْجَوَابَ يَذْكُرُ يَزِيدَ، فَقَامَ مَرْوَانُ فِيهِمْ وَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ اخْتَارَ لَكُمْ فَلَمْ يَأْلُ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ ابْنَهُ يَزِيدَ بَعْدَهُ. فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا مَرْوَانُ وَكَذَبَ مُعَاوِيَةُ! مَا الْخِيَارُ أَرَدْتُمَا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَلَكِنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوهَا هِرَقْلِيَّةً كُلَّمَا مَاتَ هِرَقْلُ قَامَ هِرَقْلُ.
وَقَامَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَفَعَلَ مِثْلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ مَرْوَانُ بِذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ بِتَقْرِيظِ يَزِيدَ وَوَصْفِهِ وَأَنْ يُوفِدُوا إِلَيْهِ الْوُفُودَ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَكَانَ فِيمَنْ أَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فِي وَفْدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ كُلَّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَانْظُرْ مَنْ تُوَلِّي أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.
فلما اطمئن معاوية الى الامر، دبر اللقاء الذي تحدثنا عنه في حلقة سابقة في دمشق بالاتفاق مع الضحاك بْنِ قَيْسٍ الْفِهْرِيِّ، حين قال للضحاك: “إِنِّي مُتَكَلِّمٌ فَإِذَا سَكَتُّ فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تَدْعُو إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ وَتَحُثُّنِي عَلَيْهَا”. فَلَمَّا جَلَسَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ ذَكَرَ يَزِيدَ وَفَضْلَهُ وَعِلْمَهُ بِالسِّيَاسَةِ وَعَرَّضَ بِبَيْعَتِهِ. فقال الضَّحَّاكُ: ان يزيد ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حُسْنِ هَدْيِهِ وَقَصْدِ سِيرَتِهِ عَلَى مَا عَلِمْتُ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِنَا عِلْمًا وَحِلْمًا، وَأَبْعَدِنَا رَأْيًا، فَوَلِّهِ عَهْدَكَ وَاجْعَلْهُ لَنَا عَلَمًا بَعْدَكَ وَمَفْزَعًا نَلْجَأُ إِلَيْهِ وَنَسْكُنُ فِي ظِلِّهِ. وَتَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ: ثُمَّ قَامَ يَزِيدُ بْنُ الْمُقَنَّعِ الْعُذْرِيُّ فَقَالَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَإِنْ هَلَكَ فَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى يَزِيدَ، وَمَنْ أَبَى فَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى سَيْفِهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ فَأَنْتَ سَيِّدُ الْخُطَبَاءِ. وَتَكَلَّمَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْوُفُودِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْأَحْنَفِ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا بَحْرٍ؟ فَقَالَ: نَخَافُكُمْ إِنْ صَدَقْنَا، وَنَخَافُ اللَّهَ إِنْ كَذَبْنَا، وَأَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِيَزِيدَ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْأُمَّةِ رِضًى فَلَا تُشَاوِرِ [النَّاسَ] فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا تُزَوِّدْهُ وَأَنْتَ صَائِرٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
يتبع

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار