السياسية

البيان الرسمي الصادر عن رئاسة الجمهورية حول استقبال قداسة البابا فرنسيس(موسع)

((وان_بغداد))
أصدرت رئاسة الجمهورية، اليوم الجمعة، بيان حول استقبال قداسة البابا فرنسيس.
فيما يلي نص البيان :
خلال استقبال رسمي واسع لقداسة البابا فرنسيس… رئيس الجمهورية: رغم عواصف العنف حافظ العراقيون على تعايشهم، مسيحيو العراق وكل الشرق أهل هذه الأرض وملحها، وهجرتهم خسارة كبيرة

استقبل رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح برفقة السيدة الأولى سرباغ صالح الحبر الأعظم قداسة بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، اليوم الجمعة 5 آذار 2021 في قصر بغداد الرئاسي، حيث جرت مراسم استقبال رسمية، أعقبتها جلسة محادثات ثنائية بين السيد الرئيس وقداسته، تناولت العلاقات المشتركة بين العراق والفاتيكان، والتأكيد على أهمية الزيارة وما تمثله من رمزية كبيرة لكل أطياف ومكونات الشعب العراقي.
وقال الرئيس برهم صالح، في حفل استقبال واسع لقداسته، حضره رئيسا مجلسي الوزراء والنواب مصطفى الكاظمي ومحمد الحلبوسي ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق الزيدان ورئيس المحكمة الاتحادية مدحت المحمود وكبار المسؤولين ورؤساء الطوائف العراقية والدبلوماسيين العاملين في البلاد، وجمع من الفنانين والأدباء وشيوخ العشائر والفعاليات الاجتماعية والشبابية، “إنها سعادة عظيمة أن يكون قداسة البابا في العراق بلاد وادي الرافدين، في بغداد، ومدينة أور موطن أبو الأنبياء إبراهيم (عليه السلام)، وفي النجف والموصل وأربيل وقرقوش”.
وأشاد السيد الرئيس بالدور الذي يقوم به قداسة البابا في دعم الحوار والتعايش، مؤكداً على البعد التاريخي والديني والإنساني المهم لهذه الزيارة، وحرص قداسته على العراق ومتابعته للمآسي التي عاشها العراقيون جراء الحروب والعنف.

وأضاف رئيس الجمهورية، أن العالم اليوم يعيش في زمن استقطابات وتقاطعات، وتفقد أجزاء واسعة منه، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، قابليات التعدد والتنوع والقبول بالرأي الآخر، ويغذي هذا المسار الإرهاب والتحريض على العنف وخطاب الكراهية، وهو ما يهدد مستقبل الجميع، مشدداً على ضرورة مواصلة العمل لمكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، وترسيخ التعايش الذي أضحى مطلباً ملّحاً للغاية في العالم اليوم.

وأشار الدكتور برهم صالح، إلى أن أمام العراق تحديات جسام تتمثل في إصلاح بنيوي لمنظومة الحكم، وتوفير فرص العمل للشباب، ومنع البلد أن يكون ساحة للصراعات، والعمل على أن يكون ساحة للتوافق والتواصل بين دول المنطقة، وأن يكون مستقلاً ذا سيادة كاملة غيرَ منقوصة، وركناً أساسياً من أركان منظومة إقليمية قائمة على أساس احترام السيادة والتكامل الاقتصادي، منوهاً إلى أن موارد العراق وموقعه الجغرافي يؤهله لان يكون محطة أمن واستقرار وسلام.

ولفت رئيس الجمهورية إلى أن مسيحيي الشرق هم أهل هذه الأرض وملحها، وتعرضوا لأزمات مختلفة دفعت بهم إلى الهجرة، محذّرا من أن استمرار هجرتهم من بلدان المنطقة ستكون له عواقب وخيمة على التعددية والتسامح، وقدرة شعوب المنطقة في العيشِ المشترك، ولا يمكن تصور الشرق بلا المسيحيين، داعيا الى عودة المهجرين والمغتربين بشكل طوعي وبلا إكراه، على أن يجري العمل لضمان استقرار المنطقة وازدهارها الاقتصادي.

ودعا الرئيس صالح بمناسبة زيارة قداسة البابا، إلى متابعة مبادرة لتأسيس “بيت إبراهيم للحوار الديني” يضم مندوبين من الفاتيكان والنجفِ والأزهر والزيتونة والمراكز الدينية الكبرى في العالم، من أجل الحوار والتلاقي ودعم التواصل الإنساني، لتعزيز الأمن والسلام والتعايش.
من جانبه عبّر قداسة البابا فرنسيس في كلمته خلال حفل الاستقبال عن سعادته لزيارة العراق، ووجه شكره لرئيس الجمهورية برهم صالح على دعوته لزيارة العراق، داعياً المجتمع الدولي أن يقوم بدور حاسم في تعزيز السلام في العراق وكل المنطقة، منوهاً إلى أن وجود المسيحيين العريق في العراق وإسهاماتهم في حياة البلد يشكّل إرثا غنيا.

و في ما يلي نص كلمة رئيس الجمهورية الدكتور برهم صالح:
“بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم
باسمي، ونيابةً عن السيداتِ والسادة الحضور..
وعن العراقيين بمختلفِ تنوّعِهم وانتماءاتِهم العريقة..
نرحبُ بكم يا “قداسةَ البابا”..

من عظيمِ سعادتِنا أن تكونَ بيننا هنا في العِراق.. في بلادِ وادي الرافدين.. في بلادِ الأنبياء وأديانِ السماء.. فمرحباً بكم في بغداد دارِ السلام.

مرحباً بكم في مدنِ العراق الأخرى، في النجفِ الأشرف، في الموصلِ الحدباء، في أربيلَ القلعة والمنارة، وفي قرقوش الايمان والكنيسة..
مرحباً بكم في أور، مدينتِنا الأولى التي ابتكرت الكتابةَ وتكرّمت بولادةِ النبي إبراهيم (عليه السلام) أبي الأنبياء، فكانت المدينةَ التي تهفو لها قلوبُ البشر من جميعِ الدياناتِ السماوية.
إن دورَكم الكبير في الدعوةِ إلى السلامِ والعدالةِ الاجتماعية ومواجهةِ الفَقر.. وسعيَكم الحثيث من أجلِ التأكيد على الحوارِ والتعايشِ والأخوّة الإنسانية، هو موضعُ اعتزازٍ وتقدير، ورسالةٌ مُلهِمة للجميع بما تنطوي عليه من مسؤوليةٍ نبيلة تجاه الحياةِ والإنسان.
شكراً جزيلاً قداسة البابا لاستجابتِكم لدعوتِنا دعوة العراقيين وتكرُّمِكم بالزيارة التي نُقدّر بُعدَها التاريخي والديني والإنساني المهم، وهي دليلُ حرصِكم على العراق.
ففي لقاءاتِنا السابقة في الفاتيكان شعرتُ بمدى اهتمامِكم ببلدِنا، وتلمستُ متابعتَكم وتألمَكم العميق للمأساةِ التي عاشها العراقيون، والمعاناةِ التي تحمّلوها جرّاءَ الحروبِ والعنف والتدخلات الخارجية.
يشعرُ العراقيون بالاعتزاز لقداستِكم حيث تحلّ بينهم ضيفاً كريماً عزيزاً رغم التوصياتِ الكثيرة لكم بتأجيلِ الزيارة بسببِ الظروف الاستثنائية التي يمرّ بها العالمُ بسبب جائحة كورونا، وبالرَغمِ أيضاً من الظروفِ الصعبة التي يمرّ بها بلدُنا الجريح، إذ إن تجاوزَ كلِّ هذه الإعتبارات يضاعفُ قيمةَ الزيارة في وجدانِ العراقيين.
على الرغم من عواصفِ العنفِ والاستبدادِ والشمولية التي اجتاحت بلادَنا في مراحلَ من تاريخِنا، يفخرُ العراقيون في أنهم عاشُوا لقرونٍ طويلة في مدنٍ متنوعةِ الانتماء، حيثُ نجدُ المسلمَ والمسيحيَّ واليهودي والصابئي والإيزيدي متجاورين ومتآخين في المدينةِ الواحدة، والحيِّ الواحد، وتتجاورُ الكنائسُ مع المساجدِ والحسينيات، حيث يلتقي قرعُ الناقوس مع صوتِ الاذان في سماءِ العراق.
وكما يعتزّ العراقيون بأنهم حُماة الكنائس، فبعد اعتداءِ الإرهابيين على كنيسةِ سيدةِ النجاة، هبَّ الشبانُ المسلمون جنباً إلى جنب مع إخوتِهم الشبانِ المسيحيين، وكان العراقيُّ المسلمُ، بهذا الموقف، يُدرك أن مسؤوليتَه الوطنية والإنسانية تُملي عليه الدفاعَ عن الكنيسة بمثلِ ما يدافعُ به عن بيتِه وأماكنِه المقدسة.
وكذلك من مشاهدِ تحرير الموصل التي لا تُنسى، ويَحضَرُ دائماً في الوجدان مشهدٌ لكنيسةٍ في الموصل عاثَ بها الدواعش الإرهابيون، في هذا المشهد الذي شاهده العالم، يظهرُ جنودٌ مسلمون، يغطّي ملامحَهم وملابسَهم ترابُ المعارك، وهم يحملون الصليبَ على أكتافِهم ليعيدوه إلى حيثُ مكانِه المقدس في الكنيسة بعد تحريرِها، بينما يقفُ ضابطُ باحترام وتوقير وهو يؤدّي التحيةَ العسكرية لتمثالِ السيدةِ مريم والسيدِ المسيح (عليهما السلام).
هذه قيمةٌ إنسانية، عميقةٌ بدلالتِها، وهي قيمة تربوية متأتية من إيمانِ عموم العراقيين بان رابطةَ التنوع والتعايشِ السلمي قيمةٌ عليا راسخة في بلدِهم كرسوخِ النخلةِ في ثرى وطنِهم عبر آلافِ السنين.
‏‎في نشأةِ الرسالةِ الإسلامية احتضنت المسيحيةُ الإسلامَ وحمت المسلمين حينما هاجروا إلى الحبشة، فقال النجاشيُّ المسيحيُّ لجعفر المسلم المستضعف: يا جعفر ليس بيننا وبينكم اكثرُ من هذا الخط. وفي بواكيرِ الدولةِ الإسلامية حينما كان الإمامُ علي (عليه السلام) يحكم من العراق نستحضرُ قولَه الإنسانيَّ البليغ: “النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ”.

هذا هو تاريخُنا الملهِمُ للتعايشِ السلمي والمحبةِ والاخاءِ الإنساني.. وهذا هو حاضرُنا المُنتج لتلك القيمِ العليا والنبيلة.

للأسف، يعيش عالمُنا اليوم في زمنِ التقاطعات والاستقطابات، حيث تفقد أجزاءٌ واسعة منه وخصوصاً في الشرق، قابلياتِ التعددِ والتنوعِ والقبول بالرأي الآخر، ويُغذّي هذا المسار، الإرهابُ والتحريضُ على العنف وخطابُ الكراهية، وارتكابُ الفظائع بذرائعَ لا تمِتُّ بصلةٍ لروحِ الرسالةِ السماويةِ السمحاء، وهذا ما يهدّدُ مستقبلَنا جميعاً.
لذلك لابد من مواصلةِ العملِ لمكافحةِ الفكرِ المتطرف واستئصالِ جذورِ الإرهاب، والانتصارِ لمفاهيمِ التعايشِ وعنصرِ التنوع الذي تزخر به أوطانُنا، وتحويلِه الى عنصرِ قوةٍ وتماسك، إذ إن ترسيخَ هذه المفاهيم أضحى مطلباً ملّحا للغاية في عالمِنا اليوم، وهو أفضلُ هِبة نمنحها لمُستقبل أجيالِنا القادمة.
لعقود من الزمن كان شعبُنا ضحيةَ حروبٍ عبثية وسياساتِ قمعٍ لم يعرف لها التاريخُ مثيلاً، جرى خلالها إعدامُ واغتيال وتغييب مصائر مئاتِ آلالافِ من العراقيين من جميعِ الانتماءات، واستخدامُ الدكتاتوريةِ للأسلحةِ الكيمياوية في حلبجة، وما رافقها من حملاتِ الإبادة في الانفالِ فی کردستان والمقابرِ الجماعية في مدنِ الجنوبِ والوسط، وما حصل من تجفيفٍ للأهوار وتدميرٍ اجرامي ورهيبٍ للبيئة.
وانتهى المآلُ بالعقدين الأخيرين حيث عشنا خلالَهما أكبرَ حربٍ ضد الإرهاب، دُمرت فيها مدنٌ وتحطم اقتصادُها وتهجرت عوائلُها وسُبيت فيها نساء، وهُدِّمت كنائس وأُحرقت حقول ونُهبت آثارٌ ثمينة، وارتُكبت أبشعُ الانتهاكات بحقّ الايزيديات والتركمانیات، وأفظعُ المجازر في سنجار وسبايكر، واُستُهدفَ المسلمون والمسيحيون والايزيديون والصابئة والكاكائيين وغيرُهم من مكونات هذا الشعب.

نترحم على أرواح ضحايا الاستبداد والإرهاب، ونستذكر شهداء الحرية ومحاربة الإرهاب من جيشنا وقواتنا المسلحة المختلفة من الشرطة والحشد والبيشمركة ومن المدنيين الذين ضحوا من أجل هذا الشعب، بل لجموع الإنسانية.
هذه مآسٍ كان كلُّ الشعب ضحيتَها، لكننا نشير بشكلٍ أخص إلى المعاناةِ الكبيرة لإخوانِنا المسيحيين ممن اضطُروا لمغادرةِ ديارِهم ووطنِهم، وكان هذا بعضاً من معاناةِ المسيحيين في أكثرَ من بلدٍ في الشرقِ الأوسط.
كانت أعواماً عصيبة مرّت على العراق، ولا تزال أمامنا تحدياتٌ جِسام في تحقيقِ مطلبِ مواطنينا في إصلاحٍ بنيوي لمنظومةِ الحكم في بلادنا، والنهوضِ للبناءِ وترسيخِ العدل الاجتماعي وتوفيرِ فرصِ العمل لشبابِنا وتأكيدِ الأمنِ والحريات وتعزيزِ سيادةِ بلدنا.

في منطقتِنا هناك بلدانٌ تخسر الدماءَ وفرص البناء، وهناك مَن يخسرُ الأموال، الكلّ خاسر في هذه الفوضى السوداء ولا حلَّ إلا في الحوارِ والتعاون من أجلِ الأمنِ المشترك وحقوقِ مواطنينا.

التئامُ الجُرحِ العميق الذي أصاب العراقَ يستدعي منا الرعايةَ والحرصَ على أن يكونَ العِراقُ ساحةً للتوافق، وجسراً للتواصلِ والتعاونِ بين دول المنطقة، لا ساحةً للصراعِ والتناحر، وأن يكون العراق مستقلاً ذا سيادةٍ كاملة غيرِ منقوصة، وركناً أساسياً من أركان منظومةٍ إقليمية، قائمة على أساسِ احترامِ السيادة وحقوقِ الإنسان والتعاونِ الاقتصادي.
سيداتي سادتي..
إن مسيحيي العراق.. مسيحيي الشرق.. أهلَ هذه الأرض وملحَها، وقفوا الى جنب إخوانِهم من كلِّ الطوائف لمواجهةِ شتى التحديات، وكانت إسهاماتُهم التاريخية والحضارية بليغةَ الأثر وعميقةَ الجذور، وانصهرت في بناءِ مجتمعاتِنا، وانتجت تلك العادات والتقاليد والقيمِ الشرقية الأصيلة.
لقد تعرّض مسيحيو الشرق خلال الفتراتِ الماضية لأزماتٍ مختلفة، عملت على تحجيمِ وجودِهم، والدفعِ بهم إلى الهجرة، وبلا شك، فإن استمرارَ هجرة المسيحيين إلى جانب مكوناتٍ دينية وقومية أخرى، من بلدان المنطقة ستكونُ له عواقبُ وخيمة على قيمِ التعددية والتسامح، بل وأيضاً على قدرةِ شعوبِ المنطقة نفسِها في العيشِ المشترك. فلا يمكن تصورُ الشرق بلا المسيحيين.
لن يتأكدَ أيُّ نجاحٍ ما لم تبدأ حركةُ عودةِ المهجّرين والمغتربين من بلدانِ اللجوء من دون قسرٍ أو إكراه، ويتطلب ذلك عملاً حثيثاً للتنميةِ الاقتصادية واستتبابِ الأمنِ في كلِّ المِنطقة، وبما يحقق بيئةً وطنية جاذبة لأبنائِها من المهاجرين والمغتربين، وفي المقدمة منهم المسيحيون والإيزيديون والصابئة.
أيضاً لنا أن نقف ونؤكد أن ظروفُ الحياة تحت تهديد كوفيد 19 أكدت أن العالمَ بحاجةٍ إلى السلام والتكاتفِ معاً، والابتعادِ عن الاستقطاباتِ والتقاطعات المختلفة، وذلك لتسخيرِ الإمكاناتِ الجماعية لصالحِ التقدّمِ بما يخدم الحياةَ والإنسان.
اليوم، وفي ما يحلُ بيننا في العراق، قداسةُ البابا ضيفاً عزيزاً كريماً، فإنها فرصةٌ تاريخية لجعلِها مناسبة لإعادةِ التأكيد على قيمِ المحبةِ والسلام والعيشِ المشترك وقبولِ الآخر ودعمِ التنوع الذي تنعمُ به بلدانُنا، عبر مبادراتٍ إنسانية يصل صداها إلى العالمِ اجمع، فهذه القيمُ الإنسانية قابلة للتعاون والعمل المشترك على تحقيقها.
نحن أحفادُ النبي إبراهيم (عليه السلام)، اتباعُ الدياناتِ السماوية، من العراقيين وغيرهم، لا يمكنُ لنا القبولُ بأن يُمارس الإرهابُ والتطرف باسم الدين، ولا يمكن ان نرضى بالظلمِ أيضاً.
يستحق العراقيون أكثرَ مما هم عليه الآن، في بلدٍ أنعم الله عليه بالخيرات وبموقع متميز يمكّنهُ ليكونَ محطةَ أمنٍ واستقرارٍ وسلام. فالعراقُ يستحقُّ الأفضل، والمستقبلَ الواعد لمواطنيه، والمنطقةُ تستحق أفضلَ بكثير. وبتعاونِ الخيرين والمخلصين سنتمكنُ من ذلك، إن شاء الله.
وأتمنى قداسة البابا بمناسبةِ هذه الزيارة المباركة أن تتمَّ متابعةُ لمبادرةٍ تأسيسِ (بيت إبراهيم للحوار الديني)، وتشكيلِ مؤتمر أو ندوة دائمة للحوارِ بإشراف مندوبين من الفاتيكان والنجفِ والأزهر والزيتونة والمراكزِ الدينية الكبرى التي تبحثُ في التاريخِ المشترك والمختلفِ فيه في ضوءِ المتونِ المقدسة والتراثِ المسماري.
قداسةَ البابا….
إننا نلملمُ جراحَنا وها أنتم يا قداسةَ البابا تضمدونَها معنا.
شكراً لكرمِ هذه الزيارةِ التاريخية.. ولما تقومون به من أجلِ خيرِ الإنسانِ على الأرض.
أتشرفُ بدعوتِكم للتحدث إلى هذا الجمعِ الكريم، ومن هنا إلى العراقيين جميعاً، قداسة البابا”.

و في ما يلي نص كلمة قداسة البابا فرنسيس:

“السيد فخامة الرئيس،
أعضاء الحكومة والسلك الدبلوماسي،
السلطات الموقرة،
ممثلي المجتمع المدني،
سيداتي وسادتي.
إني ممتن لإتاحة الفرصة لي لان أقوم بهذه الزيارة الرسولية، التي طال انتظارها والشوق إليها الى جمهورية العراق. أنا ممتن لأني استطعت أن آتي الى هذه الأرض، مهد الحضارة، والمرتبطة ارتباطا وثيقا، من خلال أبينا إبراهيم والعديد من الأنبياء، بتاريخ الخلاص والتقاليد الدينية الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام.
أشكر السيد الرئيس الدكتور برهم صالح على دعوته لي، وعلى كلمات الترحيب الطيبة التي وجهها لي، باسمه وباسم السلطات وشعبه الحبيب. أحيي أيضا أعضاء السلك الدبلوماسي، وممثلي المجتمع المدني.

أوجه تحية حارة الى الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، وجميع المؤمنين في الكنيسة الكاثوليكية. جئت حاجاً لاشجعهم في شهادتهم للايمان والرجاء والمحبة، في وسط المجتمع العراقي.أحيي أعضاء الكنائس الأخرى والجماعات الكنسية المسيحية، والمؤمنين المسلمين وممثلي سائر التقاليد الدينية. ليمنحنا الله ان نسير معاً، اخوة واخوات، في “القناعة الراسخة بان التعاليم الصحيحة للاديان تدعو الى التمسك بقيم السلام والتعارف المتبادل والأخوى الإنساني والعيش المشترك.

تأتي زيارتي في زمن يحاول فيه العالم بأسره أن يخرج من أزمة جائحة فيروس كورونا، والتي لم تؤثر فقط على صحة العديد من الناس، بل تسببت أيضا في تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعاني أصلا من الهشاشة وعدم الاستقرار. تتطلب هذه الأزمة جهودا مشتركة من كل واحد، لاتخاذ العديد من الخطوات الضرورية، بما في ذلك توزيع عادل للقاح يشمل الجميع. وهذا لا يكفي: هذه الأزمة، هي قبل كل شيء دعوة الى إعادة التفكير في أنماط حياتنا، وفي معنى وجودنا.

وهذا يعني أن نخرج من زمن المحنة هذا افضل مما كنا عليه من قبل، وان نبني المستقبل على ما يوحدنا وليس على ما يفرق بيننا.

على مدى العقود الماضية، عانى العراق من كوارث الحروب وآفة الإرهاب ومن صراعات طائفية تقوم غالبا على أصولية لاتستطيع أن تقبل العيش معا في سلام، بين مختلف الجماعات العرقية والدينية، بمختلف الأفكار والثقافات. كل هذا جلب الموت والدمار، وأنقاضا ما زالت ظاهرة للعيان، وليس فقط على المستوى المادي. فالاضرار أعمق بكثير في القلوب، إذا فكرنا في الجروح التي مست قلوب الكثير من الناس والجماعات، التي تستغرق سنوات للشفاء. وهنا من بين الكثيرين الذين عانوا وتألموا، لا يسعني إلا أن اذكر الايزيديين، الضحايا الأبرياء للهجمة المتهورة وعديمة الإنسانية، فقد تعرضوا للاضطهاد والقتل بسبب انتمائهم الديني، وتعرضت هويتهم وبقاؤهم نفسه للخطر.

لذلك إذا استطعنا نحن الآن ان ننظر بعضنا الى بعض مع اختلافاتنا، وكأعضاء في العائلة البشرية الواحدة، يمكننا ان نبدأ عملية إعادة بناء فعالة، ويمكننا تسليم عالم افضل للأجيال القادمة، اكثر عدلا واكثر إنسانية. في هذا الصدد فان الاختلاف الديني والثقافي والعرقي الذي ميز المجتمع العراقي، مدة آلاف السنين، هو عون ثمين للاستفادة منه، وليس عائقا للتخلص منه. والعراق اليوم مدعو الى أن يبين للجميع، وخاصة في الشرق الأوسط، ان الاختلافات، بدلا من ان تثير الصراعات، يجب ان تتعاون في وئام في الحياة المدنية.

يحتاج العيش الاخوي معا الى حوار صابر وصادق، يحميه العدل واحترام القانون. إنها ليست مهمة سهلة: إنها تتطلب جهدا والتزاما من الجميع للتغلب على روح العداء والمجابهات، وتتطلب أن نكلم بعضنا بعضا انطلاقا من أعمق هوية تجمعنا، وهي هوية أبناء الله الواحد والخالق. على أساس هذا المبدأ فأن الكرسي الرسولي في العراق وفي كل مكان، لا يتعب أبدا من مناشدة السلطات المختصة لمنح الاعتراف والاحترام والحقوق والحماية لكل الجماعات الدينية. إنني أقدر الجهود التي بذلت بالفعل في هذا الاتجاه، وأضم صوتي إلى صوت الرجال والنساء ذوي النوايا الحسنة، حتى يستمروا في مسعاهم لخير البلد ومنفعته.

إن المجتمع الذي يحمل سمة الوحدة الأخوية، هو مجتمع يعيش أفراده متضامنين فيما بينهم. “يساعدنا التضامن على رؤية الآخر، بمثابة قريب لنا، ورفيق للدرب”. التضامن فضيلة تحملنا على القيام بأعمال ملموسة للرعاية والخدمة، مع إيلاء اعتبار خاص لأكثر الناس ضعفا وحاجة.

أفكر في الذين فقدوا نتيجة العنف والاضطهاد والإرهاب عائلاتهم وأحبائهم وبيوتهم وممتلكاتهم الأساسية. وأفكر في جميع الذين يكافحون كل يوم بحثا عن الأمن وعن الوسائل التي تمكنهم من المضي قدما، بينما تزداد البطالة والفقر. ان معرفتنا بمسؤوليتنا تجاه ضعف الآخرين ينبغي أن تلهم كل جهد لخلق إمكانات عملية على الصعيدين الاقتصادي والتربوي وكذلك للعناية بالخليقة، بيتنا المشترك.

بعد الأزمة لا يكفي إعادة البناء بل يجب أن يتم بشكل جيد، حتى يتسنى للجميع التمتع بحياة كريمة. لا نخرج من الأزمة كما كنا من قبل، اما نخرج في حالة أفضل أو أسوأ.

بصفتكم مسؤولين سياسيين ودبلوماسيين، أنتم مدعوون إلى تعزيز روح التضامن الأخوي هذا. من الضروري التصدي لآفة الفساد، وسوء استخدام السلطة، وكل ما هو غير شرعي. ولكن هذا لا يكفي. يبنغي في الوقت نفسه تحقيق العدالة، وتنمية النزاهة والشفافية وتقوية المؤسسات المسؤولة عن ذلك بهذه الطريقة، يمكن أن يزداد الاستقرار وأن تتطور سياسة سليمة قادرة على أن تقدم للجميع وبخاصة للشباب وهم كثر في هذا البلد الأمل في مستقبل أفضل.

السيد الرئيس، والسلطات الموقرة، والأصدقاء الأعزاء، لقد أتيت بصفة تائب يطلب المغفرة من السماء ومن الأخوة، للدمار الكثير وقسوة البشر. أتيت حاجاً يحمل السلام باسم السيد المسيح أمير السلام. كم صلينا في هذه السنين من أجل السلام في العراق، لم يوفر البابا القديس يوحنا بولص الثاني المبادرات، ولا سيما الصلوات وآلالام من أجل السلام. والله يصغي، وانه يصغي دائما، علينا نحن أن نصغي اليه، وأن نسير في طريقه. لتصمت الأسلحة ولنضع حدا لانتشارها هنا وفي كل مكان، ولتتوقف المصالح الخاصة، المصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين. ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام، للصغار والفقراء والبسطاء الذين يريدون أن يعيشوا ويعملوا ويصلوا في سلام. كفى عنفاً وتطرفاً وتحزبات وعدم تسامح، لنعط المجال لكل المواطنين الذين يريدون أن يبنوا معاً هذا البلد في الحوار وفي مواجهة صريحة وصادقة وبنّاءة. لنعط المجال لمن يلتزم السعي من أجل المصالحة والخير العام، وهو مستعد أن يضع مصالحه جانبا.

حاول العراق في هذه السنوات إرساء الأسس لمجتمع ديمقراطي. من أجل هذا، من الضروري أن نضمن مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية والدينية، وأن نؤمن الحقوق الأساسية لجميع المواطنين. يجب إلا يعتبر أحد مواطنا من الدرجة الثانية. أشجع الخطوات التي تم اتخاذها حتى الآن في هذا الاتجاه، وأرجو أن تتعزز الطمأنينة والوئام.

على المجتمع الدولي أيضا أن يقوم بدور حاسم في تعزيز السلام في هذه الأرض وفي كل الشرق الأوسط. رأينا ذلك الصراع الطويل في سوريا المجاورة وقد مرت الآن عشر سنوات على بدايته، أن التحديات المتزايدة تدعو الأسرة البشرية بأكملها دعوة ملّحة. إنها تقضي تعاونا على نطاق عالمي حتى تواجه أيضا عدم المساواة في مجال الاقتصاد، والتوترات الإقليمية التي تهدد استقرار هذه البلدان.

أشكر الدول والمنظمات الدولية التي تعمل الآن في العراق لإعادة الإعمار وتقديم المساعدة إلى اللاجئين والنازحين، وللذين يصعب عليهم العودة إلى بيوتهم، ولأنها توفر الغذاء والماء والمأوى والخدمات الصحية في البلد وكذلك البرامج الهادفة الى المصالحة وبناء السلام. وهنا لا يسعني إلا أن اذكر الوكالات العديدة، ومن بينها العديد من الوكالات الكاثوليكية التي ظلت منذ سنوات تساعد السكان المدنيين بالتزام كبير. أن تلبية الاحتياجات الأساسية للعديد من الاخوة والاخوات هو عمل محبة وعدل، ويسهم في سلام دائم. أتمنى إلا تسحب الدول يد الصداقة والالتزام البنّاء الممدودة الى الشعب العراقي، بل تواصل العمل بروح المسؤولية المشتركة مع السلطات المحلية، من دون أن تفرض مصالح سياسية أو أيديولوجية.

الدين بطبيعته، يجب أن يكون في خدمة السلام والاخوة. لا يجوز استخدام اسم الله “لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش”. على العكس من ذلك، أن الله الذي خلق البشر متساوين في الكرامة والحقوق، يدعونا الى أن ننشر المحبة والإحسان والوئام. في العراق أيضا تريد الكنيسة الكاثوليكية أن تكون صديقة للجميع، وأن تتعاون من خلال الحوار بشكل بنّاء مع الأديان الأخرى، من أجل قضية السلام. ان وجود المسيحيين العريق في هذه الأرض وإسهاماتهم في حياة البلد يشكّل إرثا غنيا، ويريد أن يكون قادرا على الاستمرار في خدمة الجميع. ان مشاركتهم في الحياة العامة، كمواطنين يتمتعون بصورة كاملة بالحقوق والحريات والمسؤوليات، ستشهد على ان التعددية الدينية والعرقية والثقافية السليمة، يمكن ان تسهم في ازدهار البلد وانسجامه.

أيها الأصدقاء الأعزاء أود أن اعبر مرة أخرى عن شكري الصادق لكل ما صنعتموه وما زلتم تصنعونه من اجل بناء مجتمع مؤسس على الوحدة الأخوية والتضامن والوئام. خدمتكم للخير العام عمل نبيل. اسأل الله القدير ان يؤيدكم في مسؤولياتكم، وان يرشدكم جميعا على طريق الحكمة والعدل والحقيقة. لكل واحد منكم، ولعائلاتكم واحبائكم وللشعب العراقي بأسره، اسأل الله وافر البركات الإلهية. شكراً “.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار