المحلية

طلال العامري يكتب : كلمات من دفتر صحفي..ج3.. أحداث واقعية

بلا مزاد.. مدينة للبيع..
سقط الأيمن.. لم يسقط الأيمن!
سيطر التنظيم.. إنهزم التنظيم!
كبار القادة في الموصل بأمر من المالكي والغراوي يقول هزمناهم..! 
لو كان الإمام علي (ع) موصلياً لترك ذو الفقار يلعب بهم
الشرطة المحلية تُركت لوحدها والبقيّة تبخروا أو تحوّلوا لسراب..!
كم رغبنا لو عاش المالكي ما عشناه ورأيناه لكفر ومن سبقوه بالحكم بالعراق..!
في بدايتها.. أغلب عناصر مجلس المحافظة والحكومة المحلية نحروا صوب الاقليم..!
النجيفي والغراوي والصراع على مكانة القائد الأعلى في المحافظة..!
حتى كرة نادي الموصل ذاقت الأمرين من الجميع..!
بين “جنّة” أربيل الموعودة و”جحيم” الموصل خطوات ولكن..!
علناً.. عجلات “العذاري” الحديثة تتقدم برتل طويل من الجزيرة ولا أحد يوقفها أو يتصدى لها..!
هكذا هربت أنا وعائلتي وعبدالله الجايجي وهكذا عدنا!
عقب سقوط الأيسر.. التنظيم يقيم استعراضاً مهولاً والطائرات الحكومية تجوب السماء.

سقط الساحل الأيمن بيد التنظيم.. لم يسقط بعد، هكذا كانت الأحاديث في الجانب الأيسر من المدينة.. كل شيء مبهم لا أحد يدري أو يعلم بالذي يجري على أرض الواقع..!
لم نعد نصدّق الأخبار التي يتم تناقلها عبر القنوات الفضائية المحلية والعربية والعالمية.. كان لابد من استجلاء الموقف بأنفسنا..!
عزمت على الخروج من الدار صوب الساحل الأيمن والذي لا يفصله عن منزلي سوى مسافة قطع الجسر الرابع فقط ومن تحته يسير دجلة الخير مناغياً “الجواهري” 
(حييت سفحك عن بعد فحيّيني   
يا دجلة الخير يا أمّ البساتين)..
وسط إلحاح مني وتوسّلٌ من الأهلِ، أن لا أفعل وأذهب إلى التهلكة بقدمي، خرجت تاركاً كل التحذيرات.. 
قُدت سيارتي بعد التوكّل على الله حاملاً معي (باجي) الصحفي، لأنه كان أحد المفاتيح التي ألجأ إليها في “الملمّات” لعبور طوابير السيرات، إضافة لكُتب تسهيل المهمة لي، الصادرة من الجهات الأمنية وأبرزها من قيادة شرطة نينوى والعمليات..!
حملتُ سلاحي الشخصي معي (مسدس نوع طارق تسعة ملّم منقوش على قبضته صورة تجسّد القائد العربي طارق بن زياد) وضعته تحت المقعد، لأني تذكرت ساعتها بأن هوية حَمل السلاح الخاصة بي، سبق وسلّمتها في مبنى المحافظة للزميلين “علي محمود حسن مسؤول إعلام المحافظة” حينها و”جمال البدراني يعمل بالمكتب إضافة لعمله كمراسلٍ ومزوّد للأخبار لعديد القنوات” .. 

أجل سلّمتُ الهوية لغرض التجديد وبقيتْ هناك متروكة فوق طاولة أحدهما، يعني لم أستلم الجديدة ولم تبقَ عندي القديمة وبإمكان أي “شرطي” محاسبتي وتجريدي من “سلاحي” حال معرفته بحملي له في الشارع، وإن حصل، لن يشفع لي لا باج أو غيره، لأن تعليمات مجلس الوزراء تقول: يتم الاحتفاظ بقطعة واحدةٍ من السلاح الشخصي “فقط” في كل منزل ويُمنع حمله خارج البيت من دون هويّة تجيز حمله رسمياً..!

اسرعت بعجلتي مستخدماً (المخرج) الوحيد في المنطقة وهو الذي تم تخصيصه “للدخول والخروج” .. والذي سبق وخصص لنا “نحن أهالي المنطقة” لاستخدامه والإلتزام به من سنوات وبأوامر أمنية “مشدّدة” لا يمكن كسرها من أعلى القيادات الأمنية في المحافظة وكانت تقضي أيضاً بغلق جميع الأفرع الأخرى في الأحياء مترامية الأطراف داخل مركز المحافظة “الموصل”..!

وصلت نُقطة السيطرة التي كان أمامها تحديداً، أي في منتصف الشارع “على رصيفه في الجزرة الوسطية” نُصبٌ (برجٍ عالٍ للمراقبة)..!! يراقبون من لا نعلم ومن وسط سوقٍ وحيّ شعبي يكدح أهله ليل نهار لتوفير لقمة العيش..! 
لا ينكر أحد حدوث بعض التفجيرات في ذلك الشارع سابقاً، وكم من الضحايا دفعوا الثمن عن شيء لا يعرفوه، مات من مات وأصيب من أصيب، بإعاقة ظاهرةٍ أو جروح طرّزت جسده كأوشام لا تُزال بأيدي أمهر جرّاحي التجميل في الكرة الأرضية..!  
كان هناك (شرطي واحد فقط) يحمي “ديار الحي” والشارع..! 
سألني: (وين رايح.. ومنين جاي..” أين ذاهب ومن أين أتيت”)..! أجبته: من البيت.. أريد التسوّق..! قال: أنت من المنطقة.. رددت: نعم.. 
طلب مني فتح صندوق السيارة.. ترجلت بصعوبة وقبل أن أفتحه.. قال: “يالله روح”..! يعني بلا تفتيش.. فقط “قف وإمسي”..! 
خرجت من هناك وأنا أشاهد نوعاً من الزُحام تسبب به من كانوا ينزحون من الساحل الأيمن..! 
بحيث وجدتُ صعوبة للحركة بسيارتي.. واصلت المسير ومن الطريق السريع حاولت الوصول إلى الساحل الأيمن أو بداية الجسر الرابع على الأقل لأستطلع الموقف بنفسي..!

وصلت مدخل الجسر بعد عناءٍ.. صرخ بوجهي العشرات من القوات الأمنية وهم يرددون..قف.. قف.. ترجل..! 
انصعت لأمرهم على الفور.. “سألوني: إلى أين أنت ذاهب”..؟ 
قلت: إلى منطقة الدواسة، أريد الاطمئنان على أصدقائي وأقاربي..! 
ضحك بعضهم “مني” و(عليّ) وقال أحدهم: يا دواسة “عمي” الدنيا (خربانة)..! ثم أنت (ما تشوف) الجسر (مگطوع “مقطوع”).. 
كانت هناك عوارض مُعرقلة يتم استخدامها واللجوء إليها كلما رغبوا استعراض العضلات برؤوس الفقراء وهي موجودة دائماً، ترفع وتوضع حسب المزاج..! 
ثم أكمل.. من يصدّق كلامك.. هنا كان لابد لي أن أستعين بهويتي الصحفية.. فأخرجتها على الفور وقلت لهم: أنا صُحفي وأقوم بعملي..! تغيرت نبرة الحديث من استهزاء إلى خوفٍ جدي..! تَبِعَها نصيحة وهي: أن لا أفعل رغم وجود أمر بتسهيل حركة الصحفيين، لتغطية ما يحدث..

كانت رغبتي الشديدة تكمن بالذهاب، ولكن جحافل من يهربون من الأيمن جعلتني أغيّر رأييّ وبدلاً من الذهاب للأيمن أخذت جولة في مناطق الساحل الأيسر..! 
كان كل شيء يسير بشكل طبيعي رغم انحسار أعداد القوات الأمنية التي تبخّر أغلبها باستثناء (نفرات “قلّة”) من الشرطة المحلية..!
عدت بالقرب من “دورة الحمام” التي سبق ورفعت من سنين وهي التي كانت حديقة غنّاء نقضي فيها أوقات راحتنا ونحن نلعب ونتسامر ونشمّ زُهورها وما ينتج عن الحاجز الطبيعي المحيط بها والمكوّن من أشجار الآس ذات النكهة الزكية، مضيت باتجاه “كراج ” مرآب الشمال هكذا اسمه، لإنه اختص باستقبال ومغادرة الحافلات وسيارات الأجرة التي تأتي وتذهب صوب محافظات شمال العراق كما كانت تسمّى سابقاً قبل اعتماد تسمية “اقليم كردستان العراق” والشارع المؤدي إلى بوابة آثار باب شمس والتلال الباقية كشواهد لحضارة “نينوى” وإن أكملت المسير بشكل مستقيم بذات الشارع “أصل إلى أربيل بظرف “40 دقيقة”.. بقيت في الشارع قبل الولوج إلى الحيّ..

 
كانت هناك عجلات عسكرية وناقلات أشخاص “جُند” كلها حديثة، تَزحفُ من هناك وسط أصوات تصدر من مكبرات للصوت.. أفتح الطريق.. افتح الطريق “اطبگ” أركن على صفحة “جانب”.. مع شتائم مختلفة منها “طاح حظّك أثوّل افتح الطريق”..! وأنا أحاول إكمال مسيري.. كان أحد الأرتال يسير خلفي وأيضاً أصوات ترتفع.. “افتح الطريق أنت أبو التويوتا الخضراء”..! 
كان يقصدني وردد “صير عالجانب”..! 
بقيت أبحثُ عن الجانب ولم أجده لشدّة الزحام..! 
ترجّل أحد أفراد الرتل وراح بأسفل “أخمص” بندقيته يركل سيارتي من الخلف، ثم وصل بالقرب مني وقال انت لا تسمع.. افتح الطريق يالله..! 
الحركة (جامدة) ليس هناك أحد أمامي يتحرّك وهو خلفي ويطلب مني فتح الطريق..! 
جاء آخر وراح يركُل سيارتي “المسكينة” بقدمه ويضرب مقدمتها بيديه وهو يصرخ بإنفعالٍ.. امشي لك، لا أرميك “يقصد قتلي برصاص سلاحه” ..! 
هنا انفجرت بوجهه وقلت له: بدل أن ترميني أنا المحصور في الشارع بين العجلات وتصبح بطلاً برأسي، إذهب وقاتل في الأيمن إن كنت رجلاً..! تركني ومشى “بلا تعليق” ..! 
أكثر من نصف ساعة وتحرك مسير  العجلات، لأجد نفسي أمام ذات نقطة السيطرة التي خرجت منها كي أدلف وأعود للمنزل..! 
أيضاً ذات الشرطي.. أخذ يسألني من جديد: (من وين جاي ووين كنت رايح وافتح الصندوق ووووو).. أسئلة روتينية لا يعرفون غيرها.. فقط لغرض المضايقة لا أكثر..!

دخلت الحيّ واتجهت إلى البيت والأهل الذين استغربوا غير مصدقين أني عدت..! 
أبدلت ثيابي وخرجت لأقف أمام باب البيت، كان الجيران يسألوني (شلون الأوضاع وشنو الصار وهل حقاً سقط الأيمن وأمور كثيرة)..!

حملت هاتفي واتصلت بأخي وصديقي “محمد فتحي“ وكان بيته يقع هناك بأقصى الأيمن تقريباً..
سألته: كيف الأوضاع عندكم..؟ أجابني: (هدوء تام ولا وجود لأحد)..! 
كررت عليه: يقولون سقط الأيمن..! 
يردّ: هذا ما نسمعه نحن أيضاً ولكن لم نتأكد منه بعد..! 
تعجبتُ وقلت: طيب ما هي الحقيقة إذن أخي”أبو نور”..؟ 
ردّ: كل الذي أعرفه، أن الشرطة الإتحادية تركت مواقعها ولم نعد نرى أحداً من القوات الأمنية هنا، زادني الفضول لأعرف أكثر..! 
فقلت: و”تنظيم الدولة” الذي يحكُون عنه.. هل وصلكم..؟ 
رددّها بصدق: يا أخي والله (ماكو أحد وأنا “گاعد” بالباب مع “قالها هو” لو “هاشم” أو “أبو هاشم” الآن.. 
وكل شيء طبيعي.. نسمع رمي إطلاقات خفيف من بعيد ولكن ليس قربنا.! 
يجوز “يم” قرب فندق الموصل أو منطقة الهرمات أو حي الاصلاح الزراعي..!
شكرت أبو نور وطلبت منه أن نبقى على تواصلٍ مهما حصل..! 
” محمد فتحي” هو لاعب نادي الموصل الأسبق ولقبه ثعلب الكرة الموصلية يمتلك بسجّله أكثر من “400” هدف سجلها في البطولات العراقية المحلية التي كان يقيمها الاتحاد العراقي المركزي كلاعب للموصل ومنتخب محافظتها أو الفرق العسكرية التي مثّلها وكانت أقوى من الأندية العراقية أو عندما مثّل أندية غير الموصل.. وكان قبل هذه الأحداث التي نرويها “مدرّب فريق كرة نادي الموصل” والفريق تحت قيادته وبعد مؤآمرة دنيئة (أخرجوه من مسابقة الدوري الممتاز “تلاعب بمباريات الدوري”).. 
وكل ذلك موثّق في الصحف والبرامج التلفازية والوكالات ومنها صحيفة رياضة وشباب العراقية والمواقع الإلكترونية وغيرها.. وكان الفريق قبل سقوط الموصل قاب قوسين أو أدنى للصعود والعودة للأضواء وهو من كان يتصدّر مجموعته الشمالية بفارق سبع نقاط عن صاحب المركز الثاني وبقيت له مباراتان فقط وإن خسرهما فهو الأول أيضاً وإن فاز الثاني بمباراتيه المتبقيتين لأنه (تبقى نقطة واحدة كفارق)..

اتصلت بأصدقاء ومعارف آخرين في مناطق أخرى، قسم منهم ردد نفس كلام “محمد فتحي” والقسم الآخر أعلن عن تواجدٍ قليلٍ جداً لأفراد (متفرقة) من “التنظيم” يستخدمون سيارات عادية (اوبل “باله” دخلت العراق من أوربا مستعملة ولموديلات قديمة بداية من سنة 2003 وغيرها من أنواع السيارات الأخرى)..! 

إلى هنا لم تدخل السيارات الحديثة المسمّات بـ(العذاريات) التابعة لهم “تنظيم الدولة أو فصائل المسلّحون الإسلاميون” ..! 
كانت صورهم مع السيارات، تنتشر عبر مواقع التواصل وهي تسير من الصحراء بإتجاه الموصل بصورة علنية..! 
والسؤال.. ألم ترها الطائرات وعيون الرصد العسكرية لتدمّرها..؟ 
ثم أين كانت العمليات الاستباقية التي كنّا نسمع عنها يومياً ولماذا لم يتم القبض سوى على البريء ويهان، بينما المسيء والقاتل والمجرم يُطلق سراحه بالمال أو التوسّط من مسؤولي المحافظة أو خارجها..؟

بقيّ الصراع بين المحافظ “النجيفي” وقائد العمليات “حديث” المنصب “الغراوي” على من يكون القائد الفعلي في المحافظة، باعتبار أنّ النجيفي هو رئيس اللجنة الأمنية..! 
والثاني قائداً للعمليات (فقط)..! 
هذان الاثنان كانا يتناسيان الكثير بوجود قوات أخرى في المحافظة، كل واحدة تتلقى أوامرها من مصادرها وقياداتها، أي لا تخضع لأحد منهما..! 

كانت الأمور الأمنية وتوابعها من دوائر ومؤسسات كل واحدة تعمل على حدى ولا تلتزم بما يتمّ تعميمه والا لكان الجميع استغل ما صدر عن الاستخبارات العسكرية والمخابرات العراقية والعالمية حول وجود معلومات مؤكدة تفيد وتكشف عن نية “التنظيم” لغزو الموصل قبل أو مطلع رمضان أي في الشهر السادس من العام (2014) تحديداً..! 
كل تلك التقارير أهملت أو أغفلوها عن عمدٍ..! 
كيف لا وكثير من التابعين “للتنظيم” كانوا يتحرّكون قبل سقوط الموصل في كل دوائر ومفاصل المحافظة وأقضيتها ونواحيها..! 
بل كانت هناك أحاديث ليست (سرية) تفيد بأن من يرغب بالترشيح للانتخابات المحلية أو البرلمانية، كان عليه أن يأخذ التزكية من “الجماعات المسلحة” بمختلف مسمّياتها..! 
قيادات كثيرة “للتنظيم” ممن سيطرت لاحقاً، شوهدت في السابق وهي تجالس عدداً من مسؤولي المحافظة وداخل أروقة مبنى المحافظة..!
لم يكذب من قال أن الموصل كانت مجهّزة للبيع أو جهّزوها للقتل والدمار والتخريب، وهنا لا يستثنى أحد من قولنا هذا ولولا الملامة لقلت فيهم ما قاله الشاعر العراقي مظفّر النواب حين قال… أولاد ألـ…….. لا أستثني منهم أحدا..!

كلهم كانوا يجرحون نينوى ويلعقون دماءها ويمصّون “بلازما” أهلها، ليعيشوا “هم” في نعيم مصطنع ويبقى المواطن البسيط ذليلاً..!

وصل القائدان (كمبر وغيدان) إلى المحافظة بأمرٍ من قائد القوّات المسلّحة العراقية “نوري المالكي”، توقعنا بالمجيء، سيكون خيراً بعد أن كلفهما “المالكي” بالتوجه نحوَ الموصل وحلِّ مشاكلها الأمنية..! 
نزلت الطائرات وقيل أنهما سمتيتان عسكرية، لأنهما أي الطائرتان رأيناهما في الأجواء ساعة الوصول ولم نرَ أي واحدة منهما تقلع لاحقاً، عرفنا وليتنا لم نعرف بأن القادة استخدموا الهروب بسيارات رباعية الدفع صوب الإقليم..!

اجتماعات منقولة عبر وسائل الإعلام وتطمينات وكلماتٍ إنشائية جاهزة تردد ونحن نصغي وليس أمامنا غير الإصغاء وحقيقة لا نصدّق ما يقولوه، لأن الواقع ينافي الأكاذيب التي نسمعها من أفواه القادة ومن تطوّعوا للظهور في الشاشات كأبطال…!

من خلال ما نحصل عليه من معلوماتٍ بحكم عملنا.. 
عرفنا أن الاحتدام وصل إلى أشدّه بين “النجيفي والغراوي” حتى تسرّب عن تبادلٍ بالألفاظ الجارة بينهما وبقي كل واحد منهما مصراً على رأيه الذي لا نعلمه نحن..! 
يعني كما قال المثل.. (واحد يجرّ بالطول وآخر يجرّ بالعرض)..! 
لم يمضِ كثيراً من الوقت حتى وجدتُ صديقي عبد الله الجايجي (الدهوكي) يطرق باب بيتي..! 
سألته: مابك يا عبدالله..؟ 
بعد أن سحب “نفساً عميقاً” أخبرني وهو يلهث، أنه ترك (مقهاه) النوارس الخاص بالرياضيين والفندق الذي يسكنه (بغداد) الواقع مقابل سينما حمورابي وهرب تاركاً كل حاجياته الشخصية، بعد أن سقطت الدواسة، وعلى حدّ وصفه “هو” كانت أصوات الأسلحة الخفيفة والرباعيات “تسمع” قريبة منه فهرب ولم يجد سواي ليحتمي عنده، كيف لا يفعل وكان الصديق القريب مني وأجالسه لساعات خلال راحتي أو تجمهر عشاق الرياضة عنده والذين يتابعون وينصتون لأحاديثنا وذكرياتنا الرياضية أو الخوض بالأحداث الآنية أو التي تبقى مثاراً للجدل.. مباريات ونجوم .. ميسي ورونالدو.. الريال والبرشا.. الكرة العراقية والتزوير، أي موضوع يخطر على البال، المهم عندنا هو الابتعاد عن الخوض بالسياسة ودهاليزها المظلمة القذرة..!

استقبلت عبدالله كما يفعل الأخ مع أخيه وخصصت له مكان للنوم معي “وقتها كان داري مؤلّف من (غرفتين فقط مع مطبخ صغير وهو قريب من التهاوي، آيل للسقوط)..!  
طلبت من الأهل تجهيز الطعام له وأعطيته علبتي سجائر ردّهما لي وأخرج من جيبه بحدود تِسعُ علبٍ نوع (كنت)..! 
قدّم لي سيجارة وراح يحكي ما شاهد وكيف هرب أفراد الشرطة وغيرهم..!

لم تسقط الدواسة حقاً ونام عبدالله ليلته بفزز وهو يطالبني بين الحين والآخر أن نهرب ونترك الموصل.. 
انتظرنا اليوم التالي..!
كنت وأولادي نجلس على دكّة باب الدار، مرّت مجاميع من عناصر الجيش راجلة تمشي فرادى..! وهي تبحث عن ملابس مدنية..! 
قدمنا لها مع الجيران ما استطعنا وهناك من أعطيناه مالاً، بل وجدنا من عرض سلاحه الخفيف (مسدس أو أم كي “أمريكية أو كلاشنكوف روسي”) للبيع بمبلغ تراوح بين (خمسة وعشرة) آلاف دينار يعني من دولارين اثنين إلى أربعة دولارات حسب سعر الصرف للدينار العراقي..!

 
صورة بائسة تدمي القلب، كان أغلبهم يقسمون بأنهم لا يعرفون ما يجري وأن ضباطهم هربوا وتركوهم وأن هناك من أعطاهم أمراً بالانسحاب مع أنهم لم “يتقاتلوا” يتحاربوا مع “أفراد التنظيم” أو يرونهم حتى بأم العين..!

كثير من أفراد الشرطة عبروا باتجاه شارع أربيل من بوابة باب شمس  الأثرية مروراً بأحياء التأميم والكرامة وشقق الخضراء والقدس وكوكجلي وبرطلة فالخازر… 
هناك كانت دائرة منح الإقامة للوافدين وهي من أوجدتها حكومة إقليم كردستان العراق بحدودٍ تتغيّر حسب المزاج وقوّة القوي..!

الانهيار كان متوقعاً ونقسم بالله لو كان “نوري المالكي” (مصلاوياً) وعانى ما عاناه أهل الموصل لكفرَ بالعراق من أقصاه إلى أقصاه، بل لو كان جدّنا الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه الكريم (مصلاوياً) وعاش ما عشناه، لترك لسيفه ذو الفقار أن يفعل ما لم يفعله في معارك بدر وأحد وقينقاع والفتوحات الاسلامية، إن لم يكن أشد من ذلك..! 

بدأت الأصوات تصلنا.. 
تبادل النيران يُسمع عندنا في الساحل الأيسر مع بداية الساعة الأولى لما بعد منتصف الليل، حيث أعلن بشكل غير رسمي عن سقوط الساحل الأيمن وقطع الجسور ومنع الحركة عليها نهائياً..! 
طبعاً هذا لا يشمل الهاربون والنازحون وعلى رأسهم من دون علمنا من كانوا في خانة المسؤولين والقاعدة “علينا” ..! 

القصة التراجيديا باتت حقيقية وها هو “التنظيم” يتوجّه نحو الساحل الأيسر وفعلاً سمعنا أصوات اطلاقات الأعيرة النارية على مقربة منا..! 
خرجنا لنستطلع الأمر، كان أهالي المنطقة يهربون بسياراتهم وهناك من هرب راجلاً..!

كان عبدالله الجايجي نائماً.. سمع أصوات الجيران وهم يتبادلون الكلام 
“بيتي متداخل مع الجيران ومبنيّ طراز شرقي، أي مفتوح للسماء” والكل يعلم أن البيوت الشرقية تتداخل فيما بينها فتسمع كل ما يدور عند جارك وبالعكس..!

أفلتت أعصاب عبدالله ووصل حدّ الانهيار الكامل، كان يركض تجاه باب المنزل ويعود وهو يمسك جورابه معتقداً أنه (حذاءه)..! 
يصرخ بي “أبو وفاء” خلصني الله يخليك..! راح نموت..! 
لبس حذاءه وكان يرتدي (تكْ”فردة” جوراب) والآخر مفقود وهو لا يدري بذلك لشدّة خوفه وانفعاله الذي خشيت عليه منه..!
انهار أفراد أسرتي بالكامل وهم يرونَ عبدالله يبكي خوفاً مما ينتظرنا من مصير مجهول محتوم..!

كُنتُ أمتلكُ أكثرَ من (30) لتراً من البنزين، غالباً أحتفظ به تحوّطاً، كإحتياطيٍ في سطح المنزل، بسبب الأزمات الدائمة لشحّ الوقود المفتعلة، كي يتكسّب تُجار السوق السوداء..!
طلبت من ابني الكبير ثاني أولادي بعد شقيقته البكر جلب البنزين.. لم يجلبه ألنورس وبقي يرتجف وكأن “حمّى البرد” أصابته مطلع حزيران أي يوم التاسع منه..! 
كان المسكين النورس أكثر انهياراً من عبدالله..!! 
خرج ابني الآخر ثالث الترتيب بين إخوته “عُمر” مع شقيقته الكبيرة وجلبا البنزين وكان خزّان السيارة هو الآخر مًمتلئ وقتها..! 
وضعته في الصندوق وطلبت من زوجتي حمل كل ما خفَ وزنه وغلا ثمنه مع أخذِ قدر ما تستطيع من كميات الطعام الجاف وعبوات المياه “تعبئة بيت يدوية من الإسالة” وبعض الأغطية و(الفرشات) الخفيفة وأن لا تنسى كل الأوراق الرسمية والثبوتية لنا وأهم شيء سند ملكية بيتنا الصغير الذي حاول أحدهم سلبه “مني” في العام “2003” بسبب، أني وعلى حدّ قوله “بعثي” وأعمل بجريدة “البعث الرياضي” وأن البيت على حدّ زعمه “هو” أني “شريته بالمزاد الحكومي للدور المصادرة مع أني اشتريت الدار من شخصٍ وتم تحويله بإسمي أصولياً عن طريق دائرة التسجيل العقاري حضورياً أنا والبائع لي” واتضح أن الرجل سبقَ له السكن به مستأجراً ورغب الحصول عليه كـ”فرهود” في أيام “الحواسم” الشهيرة..!

كان الصغير “حمودي” احمد يبكي هو الآخر.. أسكتناه بأخذ “كرته” معنا..! 
جلس عبدالله والنورس بالقرب مني في المقعد الأمامي وبقيّة الأسرة حشروا بالمقعد الخلفي..! 
كانت الساعة تشير للثانية إلّا قليلاً من فجر صبيحة اليوم التالي..! 
حال غلق الباب من قبل ابني “عمر”  ووسط تجمهر أهالي المنطقة من الهاربين هم أيضاً بالتتابع، انطلقت بسرعةٍ جنونية، لأن عبدالله أفقدني صوابي أنا الآخر بالكامل ساعتها، إضافة لسماع صوت ألـ”عيارات النارية” القريب وكأنه في آذاننا..!
خرجت من أول فرع واجهني ثم مررت من المدخل الوحيد، لم نجد أحداً يسألنا هذه المرّة، الكل هربوا..! 

في طريقي.. رأيت كثير من الأفرع، تم فتحها والناس تسير زرافات زرافات..! 
عبرنا سور نينوى بالدموع وكنت أقول لزوجتي: هل سنرى الموصل مجدداً؟ هل سنرى بيتنا ثانية؟ والدموع تنهمر كشلالات غمرت قميصي..! 
واصلت المسير بسرعةٍ فائقةٍ..! 
ما أن وصلنا حي الكرامة والتلفزيون، حيث مبنى الإذاعة والتلفزيون.. يجمع بين قناتي العراقية نينوى الأرضية وهي فرع لشبكة الإعلام العراقي وتحتوي على أجهزة البث والنقل المباشر والإذاعة، أما الموصلّية فهي أهلية مستقلّة وكنت أعمل في القناتين حتى خيّروني بالعمل إما بالعراقية نينوى والرياضية العراقية أو الموصلية فاخترت موجوعاً “شبكة الإعلام العراقي” لكوني من الأوائل بالموصلية، بل عددت من مؤسسيها ولي الفخر أن شعارها “كلماته” أنا من اقترحه على مديرها العام الزميل صديق العمر غازي فيصل أحد أبرز المخرجين التلفازيين في العراق فاعتمده (موصلية المنبع عراقية التوجّه)..! 
مقر البث التلفازي مواجه للمقبرة الكبيرة للمتوفين من أهل المدينة والتي حملت اسم “مقبرة التلفزيون” تيمّناً بالجار ..! 
واصلنا المسير لمسافةٍ قصيرة حتى حُشرنا بين الطوابير التي لا تعدُّ ولا تُحصى من السيارات بأنواعها وكلها هاربة باتجاه أربيل..!
أقل من ساعة وبدأت الحركة مجدداً..! 

عبرنا منطقة “كوكجلي” مكان شهير بأطراف الموصل مختص ببيع وشراء وتربية المواشي والأغنام.. كل همنا انحصر بكيفية الوصول إلى برطلة “27 كلم) عن الموصل.. 

كنت أستمع للأخبار.. 
“الغراوي والنجيفي يرددان”.. الوضع مُسيطرٌ عليه وأن قطعات الجيش ستشنّ قريباً هجوماً على الساحل الأيمن وتقوم بتحرير، وأنها شكّلت خطوطاً للصدّ وتُعد العدّة للمعركة الحاسمة وتطهير أيمن الموصل..
كدت أصدق ومن معي ذلك الكلام، تلك “الكذبة”..! 
حتى رأيت أن حبل الكذب قصير جداً وأن الله سيفضحهم ويرينا فيهم “يوم” لم نكن نتوقّعه بتلك السرعة، بُث تسجيلهما الصوتي..!

كنت أسير ببطٍ في طريق برطلة نتيجة الزحام المتزايد وإذا بي أسمع من جديدٍ نغمة توقّعت أن لا أسمعها بعد ما رأيت من أحداثٍ بأم العين، وإذ هي.. “افتح الطريق افتح الطريق”..!! 
تعجبت وقلت حتى ساعة الهزيمة هناك من ينافسنا نحن البسطاء بالهرب وأقصد المسؤولين..!

لم أمتثل للصوت متحدّياً، في ساعة الحشر كلنا بالهوا سوا..! 
لحظات ورأيت الموكب الذي كان يسير خلفي ويزعجني، يتحوّل على الكتف الترابي ليجتازني ببطء هو الآخر متحدّيا الحُفر التي تدمّر أي سيارة “مصفّحة” وليست كسيارتي البائسة..!
هالني حين رأيت أن الهارب الذي يزاحمني: هو قائد العمليات “مهدي الغراوي” برفقة “أفراد حمايته” الذين كانوا يصرخون علينا ويقولون لنا بعباراتٍ خادشة ومسيئة تخرج عن أغلبهم.. (جبناء ليش تنهزمون.. أنتم عار أنتم خونة.. ليش تنهزمون “گوا…..و……د.. يعني.. قوا…..و…… د”).. 
هنا أفلتت أعصابي منيّ بالكامل ورحت أتبادل الشتائم معهم وأقول لهم أنتم الجبناء الذين باعونا..! 
أنتم وهذا القذر الخائن بعتم الموصل..! 
كانت حركة السيارات بطيئة جداً، لذا كان تبادل الكلام مسموعاً من الطرفين..! 
وجدت “عبدالله” يتوسّل بي أن “أسكت” كي لا يؤذونا وهم كما رأيناهم مدججون بالسلاح وأغلبه من النوع الحديث مع عجلاتهم وناقلات الأشخاص المدرّعة بعددها الوفير..!
إجتازنا “رتل” الغراوي الذي لا نعلم كيف سيصفه التاريخ مستقبلاً، عقب صدور الحكم البائس عليه وهو من حُكّم بالاعدام ثم تمّ تخفيفه ليفرج عنه..!

دقائق وإذا برتلٍ آخر لم اتبيّنه ولكن كنّا نسمع من الجالسين في العجلات التي كانت تسير ببطء قربنا، أنه موكّب المحافظ “النجيفي” وهلمّ جرّ لبقية المواكب لقادتنا “العظام” من جعلوا أبي رغال يترحّم عليه الناس مع ابن العلمي رغم شدّة ما نسب إليهما من أفعال صدق الناقل أم كذب.. نحن لم نرٌ بأمّ العين كما رأينا من سابقونا الهروب..!

إجتزنا “برطلة” ناحية تابعة لقضاء الحمدانية إحدى الوحدات الإدارية لنينوى.. ووقفنا في ساعة المحشر..!
لم يكن لطوابير السيارات أي مجال لتسير وبهذه الأثناء كنّا ننظرُ خلفنا.. 
كانت الجموع الغفيرة بين حافلات صغيرة وكبيرة “لوريات نقل بضائع” وصالونات وتراكتورات محمّلة عن آخرها بالبشر وأناس غيرهم راجلين، كلهم ينتظرون الفرج للعبور نحو “جنّة” أربيل هرباً من جحيم الموصل..!

كانت هناك حالة نزوح أخرى عن طريق دهوك وغيرها عبر طريق كركوك وسعيد الحظ من أفلت تجاه بغداد قبل انتشار قوات “التنظيم” بسرعة لم يتوقّعها أحد..!

كنت أحاول الاتصال بمعارفي وكثير منهم ضبّاط ولهم مكانة هناك في أربيل..
حاولت مع جميع الأرقام التي معي. 
لم يأتِ أي ردّ.. 
وصلت “الإقامة” هكذا أسموها ومفروض عليك أن تأخذ بطاقة تشابه “جواز مرور” وبقاء لمدّة محدودة ما أن تنتهي إلّا وتجددها بمقابل دفع مبلغٍ من المال..!! 
هناك وقفنا بالطابور الطويل، كي ننجز أوراقنا الجديدة وأقصد “أفراد عائلتي” لأني شخصياً وابني الكبير نمتلك إقامة وورقة دخول سيارتي، إذ سبق للملا عبد الخالق مسعود رئيس اتحاد الكرة العراقي وقتها، أن استخرجها لي مشكوراً وكلما كانت تنتهي، كان الرجل يجددها لي بالشهور وليس الأيام..!
وكذا الحال بالنسبة من جهة دخولي من دهوك لتأدية عملي الصحفي.. أي يسمح بدخولي لوحدي وسيارتي..! 
أما عبد الله فهو لا يحتاج ورقة الإقامة، كونه من القومية الكردية ومسقط رأسه دهوك أحد أقضية نينوى سابقاً..!

تعبنا كثيراً لنقرر ترك السيارة في مكان بعيدٍ جداً وسرنا لأكثر من خمس كيلو مترات، كي نحصل على بقية الإقامات حسب التوجيهات والأوامر السابقة أي من قبل دخول المسلحين للموصل بسنوات.. هكذا كانت التوجيهات لحكومة الإقليم..! 
زرعت أولادي بالطوابير وبقيت أنتظر إتصلت بأحد المدربين من أربيل وهو (…… ) اسمه مشابه للرجل الذي جاء معي (هارباً).. كان يحمل رتبة عسكرية حينها..!
ردّ عليّ بعد عناءٍ، لأن رقميّ “مخزون” لديه ويعرفني جيداً..! 
قلت له: أنا فلان.. قال: أعرف.. أكملت: وأحتاج لتقف معي بهذا الظرف العصيب وأنا حالياً بالإقامة وتعرررررر…… وقبل أن أكمل باقي كلامي.. قالها لي بالحرف:
(مو عيب عليك تخابر “عليّ” بهذا الوقت يالله روح بعد لا تخابرني افتهمت)..! ثم أغلق الهاتف بوجهي..!!

حاولت أن أجد غيره ليسهّل أمر دخول عائلتي.. 
كان “الملا” خارج العراق حينها وهذه الحقيقة أذكرها للتاريخ، لأن الرجل حال عودته، هو من إتصل بي متفداً حاليَّ ولكن متى..؟ بعد خراب مالطا…! 
كذلك صديقي الضابط طارق عبد الرحمن نجم الكرة العراقية والأربيلية والقيثارة الشرطة العراقي، كان قد غيّر رقمه كما أعتقد وإلّا لكان ردّ عليّ لأن هاتفه كان يقول ردّاً على محاولاتي: “الهاتف الذي طلبته مقفل أو خارج نطاق الخدمة وينفصل الخط”..! 
كررت الاتصال بكل معارفي وكان (لا جواب) أو أمل بغيره..! 
عدنا إلى السيارة المحشورة بين الآلاف من أشباهها حجماً لا نوعاً..! 
حدثت مشاجرات واطلاقات نارية فوق رؤوسنا..! 
اعتقدنا أن “التنظيم” لحقَ “بنا” ولكن لم يكن كذلك، حيث بات الأمر في أو قرب الإقامة خارج عن السيطرة على قوات حماية أمن الإقليم وكان اللجوء لإطلاق النار بالهواء لتفريق المتجمّعين أو فرض النظام عليهم لا أكثر..!

كان هناك أعداد كبيرة من إخوتنا الأكراد يوزعون الماء والطعام على النازحين وهذه الحقيقة يجب أن تذكر للتاريخ وتؤطّر بالذهب، لكنهم “مساكين” لا يقدروا أن يتخطّوا القانون وَ يُدخلونا بلا تدقيقٍ وتمحيصٍ، ثم هم مدنيون بسطاء مثلنا..!!

إرتفعتْ حرارة الشمس ونحن في السيارة.. فجأة سمعتُ صوت لانفجارٍ هائلٍ “مصدره” داخل السيارة، ظننا قيام أحدهم برمي إطلاقة نارية أو قنبلة صوتية يدوية تجاهنا..! 
إثر ذلك: أغشي على زوجتي وتجمهر الناس حولنا وكادوا يتجاوزون على البيشمركة المنتشرين هناك وهم يعتقدون أنهم السبب أو هم من أطلقوا علينا الرصاص..! 
ليتضح لنا لاحقاً أن عبدالله (الهارب معنا) ترك قداحته (ولاعته الغازية) أمامي على ألـ”دشبول” وبسبب الحرارة انفجرت وتهشم جزء من زجاج السيارة..!

كم رغبت أن أعبر وأهلي صوب أربيل ولكنيّ لم أفلح.!
عندها قلت لنفسي لأترك أهلي عند الإقامة وأعبر أنا وعبدالله ويمكن أجد من يعينني.. نفّذت ذلك وأوصلت عبدالله إلى منطقة تسمّى “الكلك” داخل حدود محافظة أربيل..!
قال لي عبد الله: اتركني هنا، أنا وصلت.. مدّ يده إلى جيب بنطاله ليخرج سيجارة وهو المعروف عنه “سحب نفسٍ منها ثم يلقيها أرضاً”، وبدلاً عن “باكيت السجائر” أخرج القطعة الثانية لجورابه، فضحك وقال(بلكنته الكردية المتموصِلة): والله دوّخونا أولاد ألـ(قح…..ي) وخلونا نلبس (تكّ وتك)..!.. رحل عبدالله وأخذ قلبي معه..! 

اتصلت بمعارفي من جديد ولا جديد..! 
كلهم باتوا خارج نطاق الخدمة أو مغلق أو يرنّ بلا ردّ..!
تعجبت من جوالي الذي ما كان ليهدأ أو يسكت يوماً وهو يستقبل اتصالاتهم وقضاء أشغالهم أو حتى للمجاملة كي يخبروني أنهم غالباً يتواصلون معي هنا قلت: ألم يأتِ بالأمثال “كل شيء ديّنٌ حتى دموع العين..؟!
عدت إلى عائلتي وكانت حالة زوجتي سيئة جداً.. جداً.. طلبت منهم “الحرس” توفير سيارة إسعاف لها، كي تْنقل وحدها كـ”حالة طارئة” لم نلق استجابة أو اصغاءاً أو استماعاً ولا انتباهاً من أحد “نكرات نحن ولا ندري أو ندري ونقاوم كي نعيش”..!
بَكَتْ زوجتي التي كنت أراها تعاني سكرات الموت وقتها، وراحت تردّد بانفعالٍ وبصوتٍ مخنوقٍ وكأنّها تنازِع، كي يخرج منها السرُّ الأخير ولا يعود.. 
قالتها: 
(أرجعني للموصل وأُتركني أموت هناك في بيتي).. ألا ترى لا أحد يريدنا..!
حبيبتي تموتُ أمامي وأنا عاجزٌ.. نعم هي كانت وستبقى حبيبة وليست زوجة.. بسببها ضاع اسمي الذي بدأت به الكتابة كقاصٍ هاوٍ صغيرٍ وتحوّل بعد معرفتي بها بـ”العامري” وظلّ يلازمني عقب زواجنا.. لم أخنها حتى بخيالي حبّاً وتيهاً بها..! 
اليوم تموت أمامي وأنا عاجزٌ حتى على مداواتها..! 
والله بَكيتُ معها أنا وأولادي ونحن نراها شبه جثة قبل “الهمود” ساعتها..!
وضعتها في المقعد الأمامي بمساعدة أولادي وطلبتُ من رجال السيطرة، أن أعبر جسر الخازر كي أتجنب الزحام لأني سأعود إلى الموصل وأرى ما كتبه الله لنا..!
وافق رجل الأمن على طلبي مع العِلم كان بإمكاني عبور الجسر وإكمال طريقي، ولكني ما أن عبرت الجسر ووصلت الاستدارة، رجعنا وسط إستغرابٍ شديدٍ ممن يقفون عند مقدمة الجِسر في الجهة الأخرى.. حتى وصفونا بالمجانين..! 
لشدّة الإزدحام “زحامٌ لا يوصف”، رُحْتُ أسير على الُطرقِ الترابية غير النيسمية.. تلول.. وديان.. حُفرٌ.. أرض رخوة أو صلبة.. لم أميّز أو أهتم، حتى بانَتْ مَلامح “برطلة” من جديد، وهناك سلكنا الشارع العام..! 
ونحن في الطريق وإذا بانفجار مُدوٍّ يحدث أمامي ولنرى “سيارة للبيشمركة ” قوات رسمية ” تابعة لـ”حرس إقليم كردستان العراق” تطير بالهواء بشكل لولبيٍّ وتسقطُ على مقربةٍ مِنّا، حمدنا الله على نجاتنا ورُحتُ أزيد سرعة السيارة بجنونٍ وافق عليه رفقائي “عائلتي” الذين كانوا يستحلفوني سابقاً عدم تخطِيّ ألأربعين كيلو متر بالساعة..! 
الانفجار كان بسبب عبوة زُرعتْ في الطريق العام..!
وصلنا “كوكجلي”.. هناك رأيت أحد أفراد حماية المحافظ مرتدياً (دشداشة بيضاء) ! 
يُوزّع الماء على المارين قربه ذهاباً أو إياباً والعائدون لا يذكرون كعدد..! 
عرفني وعرفته وسألته قائلاً: ماذا حصل…؟ ردّ: كل شيء انتهى الكل باعوا الموصل… باعوها.. باعوها..!
تركته ومضيت وأنا أتذكّر معالمه يوم كان يخيف من يقتربوا من المحافظ للسلام عليه لا لغاياتٍ أخرى.. كان مليح الوجه، أبيض محمّر قليلاً، عيناه واسعتان تحمل أحد الألوان غير الأسود أو العسلي، شاربه كثّ متعوب على “هندسته” مرسوم وكأنه يريد أن يقلّد من كانوا يعملون بحماية الرئيس الراحل “صدام حسين” على شكل حرف (n) باللغة الإنكليزية..! 
وصلنا مبنى الإذاعة والتلفزيون الحكومي من سبعينيات القرن العشرين حتى الحاقه بشبكة الإعلام بعد ما نتج عن التاسع من نيسان 2003، رأينا بعض الجثث المتناثرة هنا وهناك، لم نتبيّنها لمن تعود..! 
سيارات للشرطة محروقة ومثلها للجيش وكثيراً منها بحالة ممتازة لكنها متروكة..! 
كانت هناك مجاميع تخرج من مبنى تلفزيون نينوى والذي كان يضمّ قناة الموصلية الفضائية المحلية أيضاً وأقسم أنهم من المناطق القريبة.. كانوا يسرقون كل ما وجدوه أمامهم ليذكّرونا بأيام (“الحواسم” يوم أحتلال العراق من قبل الأمريكان 2003) وما تلاه لفترةٍ، بل وجدنا من يفكِك السيارات ويأخذ منها البطاريات والإطارات وغيرها…!

عبرنا المكان… 
كان الشارع عند العودة خالياً الا مِنّا نحن وأولئك اللصوص..!
قبل أن نصِل إلى تقاطع حيّ التأميم، رأينا الجثث، بعضها مرميٌّ في صناديق السيارات الخلفية.. كانت بثيابٍ (مدنية) لمدنيين وغيرها لم نميّزها تتفرّق على قارعة الطريق في الجانبين..!

أوقفنا شخصٌ “ملتحي” ، كاشفاً وجهه، يحمل سلاح من نوع (كلاشنكوف)، هنا قمت بتأدية الشهادتين لإستقبال الموت تحسُّباً لأي موقف وأهلي يقلّدوني بترديدها “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمّد رسول الله”.. أخبرت الأولاد أن لا يتكلموا بأي حرفٍ إن أوقفنا أو سألنا..! 
أقسم بالواحد الأحد كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها “داعشياً” وجهاً لوجه وكانت لكنته من خارج مدينة الموصل “الأطراف”..! 

قال لنا: من أين أتيتم؟ رددّت وأنا أرتجف بداخلي؟ كنّا في بيت أقاربنا وعدنا..! 
كان يقف شخص آخر (مدني) عابر سبيل، أوقف “الملتي” له سيارة أخرى وطلب من صاحبها أن يوصله إلى منطقة النبي يونس (ع) وتقع بجامعها الشهير الذي فيه قبر سيدنا يونس (ع) على بعد دقيقتين أو ثلاث بالسيارة..!
لم نرَ سوى ذلك الملتحيّ من لحظة دخولنا حُدود الموصل كـ”ممثلين للتنظيم داعش” باستثناء ذاك الفرد..! 
يعني الأيسر “الساحل” نصف المدينة، لم يَسيطر عليه، سوى بالإشاعة! والسؤال لماذا هربوا وتركوها للموصل وتركونا…! 
وصلنا إلى حيّنا وكانت كل الأفرع مفتوحة بلا عوارض اسمنتية أو كان هناك من أزاحها وفتح الطرق..! 
دَلفنا من أحدها وكان السكون يَعِم المكان وكأن أهل الحي سلموا دورهم لأشباح خفية..!
فَتح ابني باب الدار، دخلنا وأدخلت السيارة وأغلقناه على أنفسنا ولم نفتحه لثلاثة أيام متواصلة..!
-يتبع- 

ملاحظة: ما ترونه في العناوين ربما يأتي في أي جزءٍ حالي أو لاحق.. ووضعناها “العناوين” لمعرفة ما “سيأتي” ليبقى الترقّب والتشويق حاضرين..


ترقبوا.. ترقبوا.. 
“زميل” صحافي كاد يتسبب بقتلي بحسن أو سوء نيّة..!

الاستعراض في منصة الاحتفالات بحماية الطائراتألـ…….. !

خطبة البغدادي وقطع الاتصالات في عموم المحافظة..!

أحاديث القادة وكيف برّروا..؟

الجثث الملقاة في الوديان أو قرب معمل البطاطا

أين هم الدواعش ومن كان يسيّر المدينة في أيام احتلالها الأولى..؟

اشتعال الحرب الإعلامية والمواطن الموصلي كان الضحية..؟

فخٌّ نصب باحكام.. وغرائب وعجائب ستجدونها لأول مرة..! 

يرجى عدم الاقتباس لحماية حقوق المؤسسة #النهارنيوز والناشر كاتب الموضوع #طلالالعامري لأنه سلسلة من كتاب سيطبع حال إكتماله

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار