مقالات

لماذا فشلت الدولة العراقية؟ (٥)

محمد عبد الجبار الشبوط..
فشلت الدولة العراقية، اذا، خلال المئة عام من عمرها في ان تكون دولة حضارية حديثة. ولا مناص من الاصلاح او اعادة البناء قيميا وسياسيا واقتصاديا وتربويا وفق نموذج الدولة الحضارية الحديثة.
وهذا يتطلب انطلاق عملية البناء او الاصلاح من نموذج المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا الحافة به. لا يمكن الحديث عن الاصلاح او البناء او النهوض دون المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا اللازمة لبناء الدولة الحضارية الحديثة.
لا اعرف شخصا في العراق نص على هذه الامر قبل السيد محمد باقر الصدر، فقد دعا الى ان تنطلق المعركة ضد التخلف ومن اجل البناء والتنمية والتقدم من مركب حضاري قادر على تحقيق ذلك.
وللاسف لم تلق هذه الدعوة الاهتمام الكافي، بل كان رد فعل الدولة العراقية في عهدها البعثي الصدامي ان اعدمت الصدر، لان دعوته شكلت المعادل الحضاري التقدمي للطرح البعثي الرجعي المتخلف.
واذْ اعيد طرح فكرة المركب الحضاري بصيغة الدولة الحضارية الحديثة، فاني ارى ان اي مشروع لاصلاح الدولة العراقية واعادة تأهيلها وبنائها ينبغي ان يجعل من فكرة الدولة الحضارية الحديثة معيارا ومنطلقا وانموذجا يجري العمل على تحقيقه في العراق.
ولتحقيق ذلك لابد من اصلاح منظومة القيم الحافة بعناصر المركب الحضاري. فقد عرفنا ان كل المشكلات الفوقية للمجتمع العراقي، بما في ذلك الفئوية والطائفية والفقر والبطالة والفساد وسوء الاداء والادارة الخ، انما هي نتائج مباشرة او غير مباشرة للاختلالات الحادة في المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا الحافة به، وهو ما يمكن تسميته بالتخلف الحضاري. ولمعالجة هذه الظواهر السلبية او المشكلات الفوقية لابد من معالجة الاختلالات في المركب الحضاري، اي معالجة التخلف الحضاري. فالعمل من اجل اصلاح الدولة العراقية او اعادة بنائها هو العمل من اجل القضاء على التخلف الحضاري. ان كل الحلول للمشكلات التي يعاني منها المجتمع تنطوي، في المقام الاول، في انخراط الانسان في رسم الحلول والتخطيط لها وتنفيذها وادارتها ومراقبتها وتقييمها. واذا كان الانسان ضحية الخلل في المركب الحضاري ومنظومة قيمه العليا فلن يكون باستطاعته ان يكون الاداة الصالحة لمعالجة تلك المشكلات والظواهر السلبية. ومن هنا وجب ان يتوجه الاصلاح واعادة البناء الى الانسان اولا، فتربية الانسان التربية الحضارية الحديثة هو الخطوة الاساسية المطلوبة لتحقيق الاصلاح واعادة البناء والقضاء على التخلف والسير في الطريق الحضاري الصحيح. ولا اعني بذلك اصلاح الناس فردا فردا، وانما اعني اصلاح الروح الجماعية او النفسية الجماعية او التربية الجماعية للمجتمع. وهذا ما يسميه محمد باقر الصدر “المحتوى الداخلي” للمجتمع او الامة، الذي يمثل البنية التحتية للدولة والمجتمع، انطلاقا من قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”، باعتبار ان عبارة “ما بقوم” تشير الى البنى الفوقية للمجتمع بما في ذلك النظام السياسي والاقتصادي والتربوي والثقافي، وان عبارة “ما بانفسهم” تشير الى البنى التحتية للمجتمع المؤلفة من النظرة المستقبلية التي يؤمن بها المجتمع لنفسه، اولا، وارادة التحرك نحو تحقيق هذه الرؤية المستقبلية في الواقع، ثانيا. وهنا يأتي اقتراحي لفكرة الدولة الحضارية الحديثة وجعلها مضمون المحتوى الداخلي للمجتمع، وتشجيع الناس على التحرك من اجل اقامتها في العراق بوصفها الاطار الدستوري للمركب الحضاري وقيمه العليا. اني اطرح الدولة الحضارية الحديثة بوصفها فكرة مستقبلية تشكل المضمون الاساسي للعقد الاجتماعي الوطني العراقي، و معيارا اعلى للحراك الاجتماعي والمناهج الحكومية والدعوات الاصلاحية والبرامج الحزبية، واطارا عاما قادرا على احتواء التنوع الفكري والسياسي في المجتمع ويحميه من خطر الوقوع في الاستقطابات الثنائية المدمرة.
يتبع

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار