مقالات

سعر الصرف وازمة الخزينة والموازنة

بقلم الدكتور عادل عبدالمهدي :
بسم الله الرحمن الرحيم
سعر الصرف وازمة الخزينة والموازنة
1- الاصل تاريخياً في العملة انها سلعة. فكان الناس يقايضون سلعهم وخدماتهم بسلع وخدمات الاخرين.
2- توسعت الاسواق وكثرت السلع والخدمات ولم يعد عملياً التعامل سلعة بسلعة. فتوجه الناس الى سلع يسهل حملها وحفظها وتجزأتها فكانت السلع المعدنية. فولدت العملة المعدنية من الذهب والفضة والنحاس وغيرها، والتي تحمل قيمتها بقيمتها.
3- كثرت المعاملات فبدأ الناس يحتفظون بذهبهم او معادنهم في بيوتات، ويصدرون وثيقة او شهادة بقيمة موجوداتهم المعدنية من الذهب والفضة، فولدت المصارف والاوراق النقدية المغطاة بالخزين او الاحتياطيات او الغطاء المعدني، فاصبحت هي “المعادل” الذي تتوازن فيه قيم السلع والخدمات والاعمال، الخ.
4- لاحظت البيوتات المالية او المصارف ان الناس الذين يودعون الذهب او الفضة لديها لا يسحبون اموالهم دفعة واحدة، بل ان القسم الاكبر يدخرها، مما سمح لها بان تصدر اورقا نقدية Banknotes بدون ان يكون لها غطاء حقيقي. اي صارت تستثمر اموال غيرها، وتحقق لنفسها ارباحاً تفوق بكثير ارباح العمولات التي تستحصلها من ايداع الاموال لديها.
5- تطورت الحياة الاقتصادية اكثر كما تطور الفهم والتجربة لدى البيوتات والمصارف والحكومات والدول، اي كل من يمثل السلطة النقدية بان العبرة ليست بالمعدن بل بالمعاملات من السلع والخدمات التي ينتجها ويتداولها الناس. وان العملة ما هي سوى “معادل” بات مقبولاً لدى الناس، لما يعادل قيمة هذه المعاملات. وان واجب السلطة النقدية هو اصدار اوراق تعادل الحاجة لانسيابية وحسن تداول السلع والخدمات. فان اصدرت اكثر فسيكون هناك تضخم وان اصدرت اقل فسيكون هناك انكماش. او ما اسماه “المقريزي” ابن القرن الخامس عشر بـ”رواج الفلوس” للاول، و”كساد الفلوس” للثاني، وذلك مع كثرة لجوء سلاطين ذلك الوقت بسد عجز خزائنهم باستخدام “الكاغد” كورقة للتعهد بالسداد، او ما نسميه اليوم بالاوراق المالية.
6- العملة السلعية او المعدنية تحمل قيمتها معها لذلك يطمئن لها الناس، اما العملة الورقية فلابد من توليد الثقة بها لتستقر وتصبح اداة اساسية للتداول. سيفرح الناس ان استيقظوا يوماً ووجدوا ان قيمة عملتهم قد ارتفعت وهذا امر قليل الحصول، لكنهم غالباً ما يصدمون ويحزنون عندما يستيقظون يوماً ويجدون ان قيمة عملتهم قد هبطت، فتراجعت بالتالي موجوداتهم وقدراتهم الشرائية الحقيقية. عدا ذلك فان الاسواق والنشاطات الاقتصادية خصوصاً المتوسطة والطويلة الامد تحتاج الى استقرار قيمة العملة ليقدم الناس للتعامل معها وليس مع غيرها.
7- خلاصة القول ان احتياطي العملة او غطاءها الذي كان قديماً شرطاً “سابقاً” لاصدار العملة الورقية تطور خلال العقود الاخيرة -خصوصاً بعد التخلي عن قاعدة الذهب وفق “بريتون ودز” بعد الحرب العالمية الثانية وكذلك في بداية السبعينات بعد ان انفك الدولار عن الذهب- الى امكانية ان يصبح حقيقة “لاحقة” لاصدار العملة او عرضها. فالاحتياطي او الغطاء تحول بالتدريج في معظمه الى حالة افتراضية والى نسب ومعادلات لتحديد حجم عرض العملة بما يجب ان يلبي الحاجة لحركة انتاج وتداول السلع والخدمات. فليس كل وحدة نقدية صادرة يقابلها بالضرورة ما يعادلها من احتياطات حقيقية. فظهرت نظريات وممارسات عديدة تذهب للتجريد والافتراضيات اكثر من البقاء ملتزمة الياً بالاحتياطيات وقيمها. واخذت البنوك والسلطات النقدية تكثر من اصدار العملة باشكالها المختلفة ومنح التسهيلات المصرفية والائتمانية بدون غطاء او احتياطيات مقابلة تطابقها، وهذه الاصدارات بعضها مبرر ومشروع وبعضها غير مبرر وغير مشروع.
8- مبرر ومشروع لانه يجلب الفوائد ان ذهب الى عالم المعاملات وانتج المزيد من السلع والخدمات التي ستسد الفجوة بين الاحتياط او الغطاء الافتراضي مع الكتلة النقدية وعرض العملة، فيعود التوازن الذي اختل بعد فترة من الزمن. انه كالدفع الاجل والعاجل اللذان محورهما قيمة العمل المقدم.
9- وغير مبرر وغير مشروع فيجلب الاضرار ان ذهب للمضاربات والاثراء والنزعات الربوية وجمع الاموال والتضخم المفرط المنفلت، بدون ان يقابل ذلك كله عمل وانتاج حقيقي للسلع والخدمات، فتزداد الفجوة بين حجم السلع والخدمات وعرض العملة، فتحصل الازمات وتنهار قيمة العملة كما انهارت قبل 2003، بل فقد الناس الثقة بها فتعاملوا مع عملات اجنبية يثقون بها اكثر. فاصبح لدينا دينار “رانك زيروكس” والدينار السويسري والدولار والليرة التركية والريال الايراني، وهلمجرا، والذي كلفنا كثيراً قبل ان نعيد الثقة للدينار وتوحيد كل المعاملات والحسابات الوطنية بموجبه.
10- وفي العراق، رغم ادعاءات مجمل نظمنا التي مررنا بها خلال القرن الحالي والسابق، باننا تحررنا وحررنا عملتنا الوطنية لكننا ما زلنا نعمل بممارسات قديمة يوم كان الدينار مرتبطاً بالجنيه الاسترليني، اي ان عملتنا لا ترتبط بانتاج كافة السلع والخدمات التي ننتجها بل ترتبط بغطاء، وهو اليوم الدولار اساساً الذي يمتلك البنك المركزي احتياطات قدرت بداية 2020 بما يقارب 67 مليار دولار، مما يضع العراق في المرتبة الثالثة عربياً، وسبائك الذهب (نمتلك منه 96،3 طناً ونحتل المرتبة 35 عالمياً والخامس عربياً). وسبب ذلك اننا دولة ريعية نفطية، وان النفط يباع بالدولار، لذلك باتت احتياطاتنا التي هي المؤشر الاساس لاصداراتنا النقدية تعتمد على ما لدينا من دولارات او قطع اجنبي اساساً او ما نشتريه ونخزنه من ذهب، يجب ان تكفي لنصف عام على الاقل من استيرادات ضرورية للبلاد حسب معادلات صندوق النقد الدولي.
11- الموازنة تعتمد على ذلك، والاقتصاد يعتمد على ذلك، والمرتبات والحقوق ومستحقات المزارعين والمقاولين كلها تعتمد على ذلك، باختصار الاسواق بمجملها تعتمد على ذلك. فعندما فرض الحصار وتوقفت الصادرات النفطية تراجع الدينار من 0،333 دينار للدولار الى 3000 دينار للدولار. وعندما تنخفض اسعار النفط او تنخفض صادراتنا يتراجع كل شيء ولا يقف امامه اقتصاد وطني معادل يستطيع عبور الازمة وتلافي تداعياتها، وحماية العملة الوطنية التي هي عنوان اساسي من عناوين السيادة والاستقلالية.
12- لهذا هيكَلنا صندوق النقد الدولي او هيكْلنا انفسنا امام صندوق النقد وفق هذه المعادلة القاتلة التي لا مخرج لها ان لم نعالج الحقيقة النقدية بالحقيقة الاقتصادية. فصارت الحقيقة النقدية خانقة بالمطلق للحقيقة الاقتصادية وحاجزاً امامها. بينما الصحيح ان الاقتصاد هو الاساس وليس العملة او النقد. وان العملة يجب ان تكون بخدمة الاقتصاد وليس العكس.
13- لهذا بقي اقتصادنا يعتمد العملة الورقية Cash Economy، مع ثروات عظيمة تقف خارج المصارف، خائفة من الاجراءات التعسفية لتصبح هذه الاموال اقرب لتفشي الفساد وللاكتناز منها للاستثمار واطلاق دورات الانتاج الموسعة وتحقيق التقدم والنمو المستدام. ولهذا بقي ما يسمى بالعملة الضيقة Narrow Money او العملة الورقية هي الاساس، فاختفت الكمبيالات والعملة الرقمية والالكترونية، بل تراجع استخدام الصكوك، وتراجعت الادخارات، وباتت معظم العملة خارج الدورة المصرفية، فتغيب معها الاليات الحقيقية للادخار والاستثمار، واختفى الدور الائتماني للمصارف كممول للمشاريع، ولم يعد همها سوى المضاربة بالعملة لتحقيق الارباح.
14- في السنوات الاخيرة، الموارد النفطية 40-60 مليار دولار سنوياً، والناتج الوطني الاجمالي 5-6 اضعاف هذا الرقم، اي هناك جزء مهم من الناتج الوطني الاجمالي، او الدخل القومي، او مجموع انتاج السلع والخدمات ينتج وطنياً سواء بالاستناد الى الموارد النفطية او غيرالنفطية.
15- هنا يمكننا ان نحدث اختراقاً لتحريك الاقتصاد ودعم العملة الوطنية وتقليل مخاطر الاعتماد المطلق على العملة الاجنبية، من خلال تشجيع الدولة، وبضماناتها المباشرة وغير المباشرة، لوسائل الدفع بما يسمى بالعملة العريضة او الواسعة Broad Money (M2, M3, M4) شبه المجمدة حالياً، وغير المستثمرة عملياً. فعند تنشيط هذه الاتجاهات ومنحها الثقة والحماية سنوفر سيولات كبيرة يحتاجها الاقتصاد والخزينة والموازنة والتي سيتم تغطيتها وتسديدها من توسع النشاطات الاقتصادية.
16- نقول المجمدة لان جزءاً من السيولة التي ستوفرها زيادة التسهيلات في “العملة العريضة” سيتأتى غطاؤه من السلع والخدمات التي تنتج خارج الموارد النفطية، وهو ما سيسد لاحقاً الفجوة بين عرض العملة وغطاءها او احتياطاتها.
17- لكن للنجاح في ذلك هناك شروط تبدو ممكنة ويمكن للسلطة الاقتصادية تبنيها بسهولة نسبية، شرط تقبل العقول لها. ففي العراق هناك “طلب فعال” مهم سببه كثرة الانفاق، يتم تلبيته الان عن طريق الاستيرادات والحاجة المتزايدة للقطع الاجنبي. وفي العراق هناك خبرة وقدرات انتاجية عطلتها الحروب والحصار والتوجهات الاقتصادية الريعية وغير الريعية الخاطئة. خصوصاً في الحاجيات التي يمثل “الميل الحدي للاستهلاك” (غلبة الانفاق الاستهلاكي الحياتي الضروري) عنصراً اساسياً لها. هذا “الطلب الفعال” الذي معظمه لاصحاب الدخل المحدود يمكن تمويله ابتداءاً عن طريق “العملة العريضة” وبضمانات سيادية مباشرة وغير مباشرة، حتى وان لم تكن لها غطاءات او احتياطات ابتدائية تقابلها. وبشروط معينة يمكن للطلب هنا ان يحرك الانتاج الوطني اللاحق الذي سيسد الفجوة ويعيد التوازن ويجعل للعملة الوطنية “العريضة” مقابل او معادل من السلع والخدمات الاضافية. وهكذا، تتحرك النشاطات والانتاج والاسواق والعمالة، وتتولد دورة انتاج موسعة جديدة ترفد الاقتصاد وتساعد على تصاعد الاحتياطيات وتمويل الخزينة والموازنة بالمزيد من العملة الوطنية والايفاء بما سعت الضمانات لتحقيقه، فتقلل من الاعتماد على القطع الاجنبي (الدولار اساساً) وتزيد نسبة ناتج القطاع غير النفطي في الناتج الوطني الاجمالي.
18- اما الشروط، فهي جعل تأسيس المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، الفردية والجماعية، الوطنية والاجنبية ومنح الاجازات والتسهيلات اولوية تتراجع امامها كل العقبات الشاذة غير المبررة لتكون الفلسفة اولوية الانطلاق وليس الكبح. معوقات كثيرة قانونية وبيروقراطية ومجتمعية وسياسية وفكرية وشكلية داخلية وخارجية، لا تنفع سوى في زيادة الابتزاز والعطل والفساد. والاهتمام بالمخرجات كاولوية ومعيار للنجاح في التعاقدات والاعمال، ولتوفير المدخلات الضرورية سواء في العقود الحكومية او المشاريع الخاصة. وحماية الانتاج والمنتجين سواء باجراءات الحماية كلما امكن ذلك، او بتشجيع المنتج وترويجه وتقديم المساعدة مادياً وفي السماحات والاعفاءات والدعم، وكل ما يتطلبه الامر للنجاح في ذلك.
عادل عبد المهدي
21/12/2020

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار