مقالات

رؤية تحليلية لمكونات الدولة (٣)

محمد عبد الجبار الشبوط:

منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري هي العنصر الرابع في تكوين الدولة. يتألف المركَّب الحضاري من خمسة عناصر هي: الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل.
اما منظومة القيم فهي مؤشرات السلوك والقواعد العامة والمعايير والانظمة والقوانين والاعراف والتقاليد التي تتحكم بالمفردات الاولية لبناء الدولة، اي الناس والارض والعلاقة الاجتماعية بين الناس انفسهم والعلاقة الطبيعية بين الناس والطبيعة، كما تتحكم بسلوك الفرد والمجتمع والدولة ازاء عناصر المركب الحضاري الخمسة.
الحضارة نتاج تفاعل هذه العناصر مع بعضها البعض ضمن منظومة القيم العليا المذكورة، وكذا الدولة التي تستمد هويتها وطبيعتها من منظومة القيم.
وتتنوع القيم تبعا لعناصر المركب الحضاري، فهناك القيم المتعلقة بالانسان، والقيم المتعلقة بالطبيعة، واخرى متعلقة بالزمن، وكذا الحال بالنسبة للعلم والعمل. ونستطيع ان نتحدث عن منظومات قيم فرعية لكل واحدة من هذه المفردات. وهناك بالتالي قيم فرعية تتحكم بعلاقة الانسان باخيه الانسان، مثل القبول والاحترام المتبادلين، وحفظ الحقوق ورعايتها وصيانتها، وعلاقة الحاكمين بالمحكومين. وهناك قيم فرعية تتحكم بعلاقة الانسان بالطبيعة. ومجموع هذه القيم الفرعية يشكل النظام القيمي للدولة، وهو المعيار الاعلى للانظمة الفرعية كالنظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والنظام التربوي والنظام الاداري الخ.
ولدراسة القيم نحتاج الى تفكيك المسألة الى عدة مفردات. فهناك مفهوم القيم الذي تحدده دلالات اسمائها مثل قيمة العدل والتسامح والايثار والتعاون والكرم والشجاعة .. الخ. وهذه ثابتة عبر الزمان والمكان. فكل المجتمعات تؤمن بهذه المفردات.
وهناك المصاديق العملية التي تجسد معنى القيم. وهذه متنوعة بحسب الزمان والمكان. فما يعتبر شجاعة او شرفا او كرما قد لا يعتبر كذلك في مجتمع اخر.
وهناك القوانين والتشريعات والاعراف التي يتم من خلالها تجسيد القيم وتنفيذها وتطبيقها في الواقع المعاش. وهذه ايضا تتنوع بحسب المجتمعات والازمنة حيث يمكن لكل مجتمع ان يشرّع من القوانين اللازمة وفقا لدرجة رقيه وتطوره وتعقده.
ولهذا يمكن القول ان كل دولة تتبنى منظومة من القيم، قد تختلف عن تلك التي تتبناها دولة اخرى. ومن هنا امكن القول بالقيم الديمقراطية، والقيم الاسلامية، والقيم الرأسمالية والقيم المسيحية، وحتى القيم الاسيوية.
كلمة قيم ذات حمولة او دلالة ايجابية، لكنني سوف استخدم مجازا مصطلح “القيم السلبية”، مقابل مصطلح “القيم الايجابية”. وما بين القيم السلبية والقيم الايجابية سلسلة طويلة من التدرج في سلم القيم. وتختلف الدول والمجتمعات في موقعها في هذا السلم.
اذا سادت “القيم السلبية” في المجتمع والدولة فسدا، والعكس يصح، بمعنى اذا سادت القيم الايجابية صلح المجتمع وتقدمت الدولة. وهذا هو الفرق بين الدولة الحضارية والدولة غير الحضارية. فالدول الحضارية تحتل مواقع عالية او متقدمة في سلم القيم، فيما تبقى الدول غير الحضارية في الدرجات الدنيا من هذا السلم، وتكون اقرب الى “القيم السلبية”.وهذا ما نجده في المجتمعات المتخلفة، والانظمة الدكتاتورية.
بل ان ان الدولة الحضارية هو الاطار الافضل الذي يتكفل تشغيل عناصر المركب الحضاري في ضوء منظومة القيم العليا، الايجابية، الحافة بهذه العناصر. وهذا هو الطريق المؤدي الى وفرة الانتاج المجتمعي المتعدد المجالات، والى العدالة في التوزيع، وبالتالي تحقيق السعادة والامن للانسان وكرامته.
تتاخر الدول والمجتمعات اذا حصل خلل حاد في منظومة القيم العليا، واذا حصل خلل حاد في اي من المكونات الاربعة للدولة، وهي: الناس، والارض، والعلاقة بين الناس والناس والناس والارض، ومنظومة القيم العليا. وهذا الخلل الحاد هو عينه ما نطلق عليه عنوان التخلف الحضاري. وحينما يحصل هذا الخلل تأخذ اوضاع المجتمع السياسية والاقتصادية بالاضطراب والتدهور وتظهر المشكلات المختلفة التي تعاني منها المجتمعات المتخلفة مثل تدهور الانتاجية، والتمايز الطبقي، والانقسامات المجتمعية الحادة، والاستبداد، والعنف، والبطالة، والفقر، والفساد، الخ.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار