مقالات

رؤية تحليلية لمكونات الدولة (٢)

محمد عبد الجبار الشبوط

الارض هي العنصر الثاني في الدولة، وهي ايضا المكون الثاني في المركب الحضاري. وكما قلت، فانه لا يمكن تصور قيام الدولة بلا ارض يستقر عليها الناس.
و الاصل في ملكية الارض انها لله، اي مباحة، لكن الله حوّل هذه الملكية الى الانسان، كما في قوله تعالى:”وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”. اي الجماعة البشرية كلها. فالجماعة البشرية بمجموعها، وعلى طول امتدادها التاريخي، هي مالكة الارض، بتخويل من الله. وهذا هو اول اشكال الملكية، ويصح ان نطلق عليه اسم “الملكية الجماعية”. وحينما انتقل الانسان الى الزراعة ظهرت “الملكية الخاصة” للارض المزروعة، وحينما قامت الدول ظهرت “ملكية الدولة”، او “الاستحقاق السياسي” للارض، ومعه ظهرت فكرة الوطن، ومن ثم الوطنية لتكون عنوان العلاقة بين الانسان والارض. والوطن في النظام العالمي هو الارض ذات الحدود السياسية المعترف بها من قبل المجتمع الدولي. واي خلاف او نزاع حدودي يجب حله وتسويته وفق القانون الدولي وفي اطار الامم المتحدة.
وفي الدولة الحضارية الحديثة من الضروري ان يكون تعريف الوطن واضحا وحاسما، في وعي المواطن وثقافته السياسية، بسبب دوره الكبير في تماسك الدولة، وقوتها، وديمومتها. اما تجزئة الارض الى اوطان فرعية او محلية بموجب الهوية الدينية او المذهبية او القومية لسكانها فهذا هو مقدمة لتحلل الدولة وانقسامها الى دويلات اصغر. وهذا من الاخطار التي تهدد الدولة العراقية، الامر الذي جعل العراق يحتل موقعا متقدما في قائمة الدول الهشة.
وهذا لا يتعارض مع شكل الدولة الفيدرالية اذا كان الوطن في وعي المواطن يعني ارض الدولة كلها وليس فقط ارض الاقليم الفيدرالي. واما اذا حصل العكس، فهذا يعني تقليص الوطنية واختزالها بالاقليم فقط.
“العلاقة المعنوية”-والمصطلح للسيد الصدر- بين الانسان واخيه الانسان من جهة. والانسان والارض او الطبيعة بصورة عامة من جهة ثانية، هي العنصر الثالث في تكوين الدولة. ويطلق القران على هذه العلاقة مصطلح “الاستخلاف” المشتق من قوله تعالى:”وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”. ولم اجد افضل مما كتبه السيد محمد باقر الصدر في تفسير هذه الاية، حيث قال: “ان الله سبحانه وتعالى اناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون واعماره اجتماعيا وطبيعيا. وعلى هذا الاساس تقوم نظرية حكم الناس لانفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بنفسها بوصفها خليفة عن الله.”
وانطلاقا من هذا الموقع المتميز للانسان تتحدد طبيعة علاقة الانسان بالانسان (العلاقة الاجتماعية)، وعلاقة الانسان بالطبيعة (العلاقة الطبيعية).
تقوم العلاقة الاجتماعية على اساس المساواة المطلقة وولاية الانسان على نفسه، حيث لا سلطة لاحد على احد الا بسبب متفق عليه.
وهذا يحدد اساس العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، حيث لا يحق للفئة الاولى ممارسة سلطة الحكم الا بتخويل وانابة من الفئة الثانية. ويتحقق هذا من خلال الانتخابات.
ورضا المحكومين عن هذه العلاقة هو الاساس في شرعية الحكم، بالمعنى السياسي. وهذا هو جوهر الديمقراطية، او الحكم القائم على مبدأ الاستخلاف.
وتحدد منظومةُ القيم العليا الحافة بعناصر المركب الحضاري ضوابطَ واحكامَ تفاصيل هذه العلاقة كما سوف يتضح في المقال المقبل.
اما العلاقة بين الانسان والطبيعة فتقوم على اساس الاستثمار والاستمتاع بالخيرات والثروات التي تقدمها الارض للانسان. ولا يتحقق ذلك الا بالعلم والعمل. وبذلك تتكامل عناصر المركب الحضاري الخمسة وهي: الانسان والطبيعة والعلم والعمل.
وتشتغل هذه العناصر وتتفاعل فيما بينها في ضوء منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري التي تشكل العنصر الرابع في تكوين الدولة.
يتبع

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار