المحلية

الحلقة المفقودة

محمد عبد الجبار الشبوط:

في ٩ حزيران من عام ١٩٦٠ كتب السيد محمد باقر الصدر افتتاحية العدد الاول لمجلة “الاضواء” التي كانت تصدرها جماعة العلماء في العراق.
في تلك الافتتاحية قال الصدر”ان الشرط الاساس لنهضة الامة-اية امة كانت- ان يتوفر لديها (المبدأ) الصالح الذي يحدد لها اهدافها وغاياتها ويضع لها مثلها العليا ويرسم اتجاهاتها في الحياة”. وبين ان ذلك يتطلب “وجود المبدأ اولا، وفهم الامة له ثانيا، وايمانها به ثالثا”. فاذا استجمعت الامة هذه العناصر “اصبح بامكانها ان تحقق لنفسها نهضة حقيقية وان توجد التغيير الشامل الكامل في حياتها على اساس ذلك المبدأ”.
وحين عالج الصدر مشكلة التخلف الاقتصادي في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب “اقتصادنا”، قال:”لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف ان تؤدي دورها المطلوب الا اذا اكتسبت اطارا يستطيع ان يدمج الامة ضمنه، وقامت على اساس يتفاعل معها”، و قال انه يجب في ضوء ذلك ان نفتش عن “مركَّب حضاري قادر على تحريك الامة وتعبئة مل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف”، او “لبناء الامة واستئصال جدور التخلف”،كما قال في كراس “منابع القدرة في الدولة الاسلامية”، في عام ١٩٧٩.
ويظهر من كتابات الصدر المبكرة والمتأخرة على السواء انه انطلق في تفكيره لمعالجة الشأن السياسي في العراق (المد الشيوعي اولا، والدكتاتورية البعثية تاليا) من رؤية حضارية اعتبرت ان اساس المشكلة هي التخلف الحضاري، وان حلها وعلاجها ينبغي ان يتم وفق مشروع حضاري، لا نشك انه كان يختزن تفاصيله في عقله الكبير، وان مفتاح الحل واطاره هو “المركَّب الحضاري”، بتشديد الكاف وفتحها. والمركب الحضاري هو عبارة عن العناصر الخمسة للعملية الحضارية (الانسان والارض والزمن والعلم والعمل) ومنظومة القيم العليا الحافة بهذه العناصر، والذي تتم على اساس العلاقة المزدوجة بين الانسان واخيه الانسان من جهة، وبين الانسان والطبيعة من جهة ثانية.
منذ ذلك العام، اي ١٩٦٠، والى اليوم، لم تطرح القوى التي تصدت لقيادة الدولة والمجتمع المركب الحضاري القادر على اخراج المجتمع والدولة من حالة التخلف الحضاري. ويعرف المعاصرون لتلك الفترة نوعية انشغالات المجتمع بامور بعيدة عن هذه المسألة، وكانت الحقبة البعثية ابعد ما تكون عن طرح مركب حضاري لمعالجة التخلف بسبب سيطرة فئة ريفية/بدوية متخلفة على مقدرات الدولة. ولم يكن الوضع بافضل حالا بعد سقوط النظام الدكتاتوري في نيسان من عام ٢٠٠٣ حيث تولت زمام الامور جماعات انشغلت بتقاسم مكاسب السلطة، الامر الذي فاقم من تدهور الاوضاع حتى آلت السلطة الى فريق شعبوي اعجز ما يكون عن امكانية طرح المركب الحضاري المطلوب. وبقي المجتمع العراقي ودولته يعانيان من مشكلة التخلف الحضاري التي اثرت على مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها. وبقيت الحلقة المركزية في معالجة هذه المشكلة، وهي المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا الحافة به، مفقودة في الخطاب والممارسة.
ومن هذا المنطلق، طرحتُ فكرة الدولة الحضارية الحديثة لسد هذه الثغرة الكبيرة، باعتبار ان هذا العنوان العريض يشكل وصفة تاريخية للمركب الحضاري ومنظومة القيم الحافة به، الكفيل بمعالجة التخلف الحضاري للمجتمع العراقي، ومعه معالجة كل المشكلات الناتجة عن التخلف الحضاري، كالفساد والبطالة وسوء الادارة والاقتصاد الاحادي وتدني انتاجية المجتمع وغير ذلك.
ان تركيزي على عنوان الدولة الحضارية الحديثة لا يعني اهمال المشكلات الاخرى التي يعاني منها المجتمع، وانما سببه القناعة بان معالجة تلك المشكلات، بما في ذلك التخلف الاقتصادي، لا يمكن ان تتم دون اطار كبير هو المركب الحضاري الذي تمثله الدولة الحضارية الحديثة.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار