العربي والدوليمقالات

حسن إسميك يكتب: “زايد” البدوي الذي أحبه الجميع

بقلم حسن إسميك:
خلافاً لرجال عُرفوا بدولهم لأنهم قادوها ونهضوا بها، وآخرون عُرفوا بدولهم أيضاً لأنها دعمتهم وقدمتهم للعالم، ثمة قادة انتشر في الأفاق طيب ذكرهم بسبب نزوعهم الإنساني الذي يتجاوز حدود السياسات والدول، واستشهد دائماً على ذلك بشخصية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، فقد عرفته أول ما عرفته منذ أكثر من عشرين سنة كقائد عربي ملهم، وشخصية إنسانية عظيمة، قبل أن أعيش في الإمارات العربية المتحدة وأعرفها عن قرب، وأتعرف بشكل ملموس على مآثر هذا الرجل وذكره الطيب على ألسنة الجميع من مواطني الدولة والمقيمين فيها، وعلى رأس هذه المآثر حضوره العالمي في تكريس السلام الدولي، وعلاقاته الحسنة مع شرق العالم وغربه، ودفاعه عن قضايا العرب عموماً والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص.
وقد حباني الله بحضور مجلسه ثلاث مرات، ليتأكد لي في كل مرة استحقاق هذا الرجل لما ناله من سمعة طيبة ومكانة بين العظماء، فقد كان ودوداً سمحاً قريباً من الناس، متواضعاً في تعامله مع الآخرين، كريماً في عطفه ورعايته، ومستحقاً لتحمل مسؤوليات شعبه ورئاسة دولته.
ومع أنه لا يكاد يوم يمرّ على الإمارات العربية المتحدة إلا وله في تاريخها المعاصر ذكرى حدثٍ مهم، أو مناسبة كريمة، أو إنجاز كبير من الإنجازات التي تحققت خلال السنوات الخمسين الماضية، غير أن للثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) مكانته الخاصة في نفوس جميع من يعيش على هذه الأرض الطيبة، من مواطنين ومقيمين وزوّار، فهو اليوم الذي انتقل فيه الشيخ زايد إلى جوار ربه، العام 2004 بعدما قاد شعبه على امتداد قرابة ستة عقود في مسيرة حافلة نقل خلالها بلاده من أطراف الصحراء إلى رحاب العالمية، و بدأها حاكماً لمدينة العين في العام 1946، قبل أن ينتقل إلى أبو ظبي، حيث تسلم مقاليد الحكم في الإمارة في السادس من أغسطس (آب) 1966، ويقود جهود إقامة دولة الاتحاد التي أبصرت النور في ديسمبر (كانون الأول) 1971، فصارت الغلال أوفر على المستويات كافة، داخل الإمارات وخارجها وارتفع علم الإمارات خفاقاً ولايزال.
ومنذ دخوله مضمار الإدارة العامة، التزم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، المولود في 1918 ،منهجية واضحة عبّرت عنها رؤيته للحكم الرشيد وفلسفته الأصيلة في إدارة الشأن العام حتى وفاته رحمه الله، فكان بحق رجل الدولة القوي الذي أصبح نموذجاً يُحتذى في العمل السياسي القائم على الجمع بين الأصالة والمعاصرة في إدارة عملية التغيير الشاملة والجذرية من دون القطيعة مع التراث، خلافاً لقادة كثر انطلقوا إلى الحداثة فارّين من ماضيهم، فبقيت مشاريعهم عرجاء لم يُكتب لها النجاح، ولم تنل ما ابتغته من التميز والابتكار.
استمرت فترة حكم زايد في العين عشرين عاماً تبلورت أثناءها سماته الشخصية كقائد مسؤول، وصُقلت تجربته السياسية الأولى حتى اكتملت أركانها. ورغم أنه وُلد مفطورا على القيادة، فقد مثلت الفترة بين 1946 و 1966 الأساس العملي لتكوين الخبرات وتشذيب المهارات واكتشاف قوانين إدارة المجتمع وسياسة الناس. وقد حفلت كتب الرحالة والمستكشفين والمؤرخين الغربيين الذين زاروا إمارة أبوظبي بالكثير من أخبار زايد وآثاره، بل إن بعض المستكشفين غيّروا خط سير رحلاتهم، ليقصدوا العين ويلتقوا حاكمها الذي ذاع سيطه في عموم الإمارة، فباتت ذكراه خالدة منذ ذلك الحين كنموذج للحاكم العربي الذي كان يعمل مع رعيته يداً بيد، فيصلح أفجاج المياه، ويشرف على شؤون الزراعة، ويعاون في العمران وشق الطرقات، ويشارك الناس أحوالهم ومعيشتهم، ويهتم بالصغائر والكبائر من شؤونهم. أما في وضع التشريعات والقوانين واتخاذ القرارات الكبرى، فكان يأخذ رأي الجميع، ويشاور في الأمر، حتى إذا ما عزم على القرار تحمل المسؤولية كاملة، مؤمناً أن الجميع شركاء النجاح، أما التقصير فمسؤوليته هو وحده.
كانت أهم إنجازات الفترة الأولى من حياة زايد السياسية (1946 – 1966) إصلاح قانون ملكية المياه الخاصة بالري، وإشراك جميع السكان في حق التملك، والعمل على توسيع رقعة المناطق الزراعية واستصلاح الأراضي عبر تخديمها بشبكة vd واسعة، حتى غدت المنطقة جنة خضراء في وسط الصحراء ,أسس أول مدرسة في منطقة العين عرفت باسم (المدرسة النهيانية)، وأول مستشفى وسوق تجاري، وربط قرى المنطقة بشبكة طرق واسعة ساهمت في سهولة الحركة والتنقل. ولعل القارئ اليوم لا يرى في هذه الإنجازات الشيء الكثير إزاء ما تشهده الإمارات من تطور مذهل في الوقت الحاضر، لكن المتمعّن قادر على تلمس الصلة الوثيقة بين تلك المرحلة و اليوم، فقد مثلت إنجازات زايد في حينها اللبنة الأولى في مسيرة الحداثة التي ستقودها دولة الاتحاد، تلك اللبنة التي وضعها الرئيس المؤسس ليعلّم الأجيال من بعده أن فلسفة الحكم واحدة، وأن مسؤوليات الحاكم لا تصغر أو تكبر بصغر أو كبر الأرض التي يحكمها، سواء كانت منطقة محدودة تضم مدينة صغيرة وتسع قرى، أو كانت دولة اتحادية مؤلفة من سبع إمارات تحت راية واحدة، علماً انه لم يكن مستبعداً في حينه أن تكون كل إمارة منها دولة صغيرة مستقلة.
تجربة جديدة
كان لاكتشاف النفط نهاية خمسينيات القرن الماضي أثره البالغ على أبو ظبي بالدرجة الأولى، ثم على بقية الإمارات التي ستصبح أبو ظبي عاصمة اتحادها ومقر رئاسته. فقد دشّنت بدايات النفط مرحلة جديدة تتطلب التركيز على العلاقات الدولية، وإدارة عمليات التجارة النفطية مع الدول الغربية، والاستعداد لمتطلبات الظرف الاقتصادي الجديد الذي سيدخل البلاد في مرحلة الانفتاح على العالم، وإطلاق التنمية الشاملة، وتغيير أنظمة الإدارة والعمل على عصرنتها.
أمام هذه المهام الجديدة كلياً كان لا بد من اختيار الشيخ زايد في مايو (آيار) 1962 ليساعد شقيقه الأكبر الشيخ شخبوط في إدارة البلاد وتهيئتها للمرحلة المقبلة، خاصة أنه كان قد زار أوروبا والولايات المتحدة، وبعض الدول العربية كمصر وسورية ولبنان والعراق، وتوجه شرقاً نحو الهند والباكستان، فاطلع على التجربتين الغرب

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار