مقالات

كتب الأستاذ محمد عبد الجبار الشبوط مقال بعنوان “اعاقة”

محمد عبد الجبار الشبوط:
تذكر الكتب ان الدولة تتألف من عدة عناصر في مقدمتها الشعب والارض، وهما المكونان اللذان يدخلان في المركب الحضاري ذي العناصر الخمسة وهي: الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل. لكن قيمة المركب الحضاري ودوره في تحديد هوية الدولة ودرجة رقيها وتحضرها تعتمد على منظومة القيم الحافة بالمركب الحضاري. ومنظومة القيم العليا هي مؤشرات السلوك التي يؤمن بها الشعب ويتخذها دليلا في العمل الذي هو العنصر الخامس في المركب الحضاري والكاشف عن فاعليته. ودرجة حضارية الدولة تعتمد على نوعية منظومتها القيمية التي تحدد مسار الحضارة في صيرورتها انطلاقا من حقيقة ان الحضارة مسار تاريخي وليست قالبا معطى و مسبق الصنع.
وبناء على هذا فان الشعب يلعب الدور الاساسي في بناء الدولة الحضارية، تبعا لمدى التزامه بمنظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري. ومن الشعب ينبثق الجهاز الحاكم في الدولة، الجهاز التنفيذي والتشريعي والقضائي. ويشكل افرده الطبقة الحاكمة في البلاد. وفي العراق لدينا ٤ ملايين مواطن يشاركون في حكم البلاد وادارتها. ومن الشعب ينبثق المجتمع السياسي، وهم الافراد الذين يشتغلون بالسياسة وينهمكون في الصراعات السياسية حول السلطة، وغالبا مايتشكل المجتمع السياسي من اعضاء الاحزاب السياسية والمتظاهرين والناشطين. وتتحدد طبيعة دور هؤلاء من خلال مدى التزامهم بمنظومة القيم الحافة بالمركب الحضاري. ويأتي بعد هؤلاء المواطنون المنصرفون عن الشأن السياسي، والمواطنون الخاملون، والاطفال.
تبدو هذه الحقيقة في افضل تجلياتها في طريقة نشوء الدولة لاول مرة في التاريخ في بلاد وادي الرافدين. في البداية نشأت “القرية”، وكانت اولى القرى في التاريخ هي “زاوي جمي”، في العصر الحجري الوسيط، في حدود الالف العاشر قبل الميلاد. لم تكن “السلطة” في هذه القرية والقرى المشابهة لها التي نشأت في العراق القديم، مثل قرية جرمو، سياسية، انما سلطة اجتماعية تمارسها وتديرها مجالس، فيما يسمى بالديمقراطية البدائية، او الديمقراطية المجلسية، ومنها تطورت السلطة الى ان تحولت الى سلطة سياسية حين نشأت اول دولة مدينة في اريدو، التي تقول قائمة الملوك السومرية انها اولى المدن الخمس التي حكمت فيها سلالات الملوك في عصر ما قبل الطوفان، فكانت اول دولة في التاريخ. ولم يكن انبثاق هذه الدول نتيجة “عقد اجتماعي” كما افترض او توهم هوبز وروسو ولوك وفيلمر، وانما كانت نتيجة التطور الطبيعي في المجتمع من السلطة الاجتماعية الى السلطة السياسية، وانما وقع هؤلاء في الخطأ لان هذه المعلومات لم تكن متاحة في وقت تفكيرهم بظاهرة نشوء الدولة في التاريخ.
يتضح من هذا ان المجتمع، وخاصة المجتمع السياسي وشريحة المواطنين الفعالين، يلعب دورا كبيرا في نشوء الدولة وتطورها واصلاحها، للحقيقة الاساسية التي ذكرتها في البداية وهي ان الشعب هو العنصر الاول من عناصر تكوين الدولة. ويقوم افراد الشعب، بما فيهم الفئة الحاكمة، بادوار متفاوتة في انشاء الدولة او اصلاحها، تبعا لدرجة فاعليتهم وموقعهم ووعيهم وثقافتهم وايجابيتهم واخلاصهم ونزاهتهم، خاصة في المرحلة الانتقالية كالتي يمر بها بلدنا منذ عام ٢٠٠٣ حتى الان. وتدل الخبرة التاريخية انه يوجد بين هؤلاء ثلة من الناس تمتاز بوعي متقدم ونشاط متميز تأخذ على عاتقها قيادة المجتمع في مرحلة التغيير والانتقال والاصلاح، وهي ما سماها توينبي “الاقلية المبدعة” التي ينطبق عليها قول القران الكريم: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”، خاصة اذا اعتبرنا ان كلمة “من” الواردة في الاية تبعيضية وليست بيانية. ويوجد الى جانب هؤلاء بطبيعة الحال الافراد السلبيون المثبطون الذين يشكلون اعاقة للمشروع الحضاري في مسيرته التاريخية.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار