الثقافيةتقارير وتحقيقات

د. جبار صبري – النص النقدي الكامل لمسرحية: حرب العشر دقائق

((وان_بغداد))
د. جبار صبري – النص النقدي الكامل لمسرحية: حرب العشر دقائق

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح0
في مسرحية (حرب العشر دقائق) للكاتب المسرحي علي عبد النبي الزيدي، قارئ ضمني يعمل على تحرير المعنى ويوجّه القارئ نحو تفسير النص على وفق ما يريده الكاتب من جهة، ونحو تأويل النص على ما يريده القارئ من جهة ثانية، ونحو حفريات أخرى بلغها النقد بوصفه يريد الحفر في طبقات التحول الذي يتدحرج به المعنى من مطابقة وجهة نظر الكاتب الى مباينة وجهة نظر القارئ من جهة ثالثة..
ما قبل البدء بالحرب: عنوان الحرب
في البدء كانت الحرب. كانت الحرب عندما كانت كل أرملة تشحط بثياب حزنها وقهرها سنوات عجاف من الالم والفراق والعوز والذل. كانت الحرب عندما كانت الام تلوع بين موت محتوم وأمل بعودة ونسيان وجود الموت على ولدها، وهي لا تبكي من فرط ذلك الاسى بقدر ما تبكي من فرط موت الحياة فيها بعد فقد احبتها. كانت الحرب اذ كان اولاد القتلى هم قتلى تحت عنوان التأجيل المؤقت لنهاية الموت الجسدي وبداية الموت الاعتباري والنفسي والاقتصادي… كانت الحرب اذ كلما مات الفرد فيها ماتت الدولة برمتها. كانت الحرب مطرقة تدق كل لحظة على ناقوس تفكك المجتمع وانهيار اخلاقه.. في البدء كانت الحرب..
إذن، المعادلة تبدأ من العنوان: حرب العشر دقائق. وهذا العنوان هو سابق لمتن النص. هو عتبة التمهيد الخارجة عن متن النص ولكنها الموجهة اليه في آن واحد. وفي هذا العنوان تكمن حفريات يمكن تبيانها على النحو الاتي:
1 – الحرب: حيوات الموت والفقد والترمل والتيتم وانهيار المجتمع والدولة. هي كل وقت الحياة الذي تماهى بكل وقت الموت. هي صراع بين ميت وميت لا محالة. صراع من شأنه أن يجعل كل تبعات العلاقة لكل ميت في موت داخل مصاهر الحياة وبشكل اشد ترويعا من موت اجساد المتصارعين..
2 – العشر دقائق: زمن الحرب ولكنه الزمن الذي يجعلنا نتوهم أن الحرب أخذت من حيواتنا مدة محسوبة قدرها عشر دقائق..
3 – لعبة اقتطاع مدة من الحياة تحت عنوان الحرب هي لحظة الحياة كلها بعنوان الموت كله او العذاب كله..
4 – الحرب بيت الدقائق. أي أن الحرب باتت مكان حياة لزمان مقتطع من الموت..
وفي الحرب، ومن نتائج كل حرب سنلحظ:
– الافراد مجرد أرقام في مصهر محموم بالقتل والفقد والفقر..
– غياب الاسماء وضياعها ولا يتبقى من الافراد في كل متاهات الدولة وفوضى الحرب الا علامات عامة تشير اليهم: هو.. ارملة.. سائق.. ابن…
ومن شدة وقع الحرب على الافراد او الدولة أوجد الكاتب معادلا للعشر دقائق في الحرب فجعلها ربع قرن، وقد تبين ذلك من خلال معدل أعمار شخصيات النص:
• هو + ارملة = 50 سنة
• الابن = 25 سنة
• السائق = 40 سنة بلا عائلة
إذن، نخلص مما تقدم أن الحرب كانت قد شغلت مدة من الحياة – من لحظة القتل الى لحظة تدوين النص – قدرها ربع قرن من الزمان إذ كانت تتداول في تلك المدة بين يتيم وشهيد وأرملة ومفقود وعاقر تمثل بقيادة عجلة الحياة بعد الحرب الا وهو السائق.

&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح 1: حرب الدقيقة الاولى
بدء لنتفق أن الزمن/ الدقيقة معادل مكاني يمكن أن ينعكس بصورة وطن. لكن هذا الوطن الذي التفّ عليه الزمن افترض على نفسه أن يكون سيارة نقل متهرئة ومن خواص هذه السيارة أنها أصبحت الصورة الكلية للوطن والتي تعبر عنه بصيغة احتواء شامل لكل ما يمر به وما يدون عليه تحت ضاغط معنى الوجود بالوطن والعلاقة به وما يترتب في ضوء ذلك من مواجهات وتحديات ومعاناة وأفراح..
هذا توجيه الكاتب الينا بوصفه أراد قراءة ما كتب بمعنى ما يريد ولكن اعادة توجيهنا الى النص نلحظ مما يمكن النظر اليه:
– رفع الوطن من محل اقامته فينا واستبداله بسيارة نقل، وهذا الرفع سيكون فضاء وطنيا من جهة، وفضاء يضد الوطن والمواطن من جهة ثانية..
– الوطن مجرد غرفة متحركة تشمل عائلة حالاتها النفسية والاجتماعية والاسرية والاقتصادية .. ممزقة.
– العدد الذي تستطيع السيارة/ الغرفة/ الوطن محدود جدا، وكأن في ذلك تأكيد ان الوطن معادل اعتباري وعضوي لحصار وسجن يعيد ثباته من اعادة ثبات معاناته.
– الوطن متهرئ ولكنه غير عاطل عن الحركة.. غير عاطل عن السير.. وان كان سيره لا يتجاوز محل حالته الثابتة..
– ما يمكن تبيانه على مدير ادارة الوطن او قيادة مسيره أنه ( سمين ). اي ان وزن قائد/ سائق الوطن يعاني السمنة المفرطة. وفي هذا تدليل على ان رأس الوطن مثقل باللاحركة ومثقل باللاتفكير ومثقل من بعد بالعقر.. اذن، هو يتحرك كما يبدو ظاهرا بسيارته او وطنه وبذات الوقت لا يتحرك..
– ان يافطة ( لا تسرع يا بابا نحن بانتظارك) المعلقة في الوطن/ السيارة تدل على: ان سخرية الآباء من عدم وجود ابناء يحملون حركة التغير او المستقبل الآخر للسيارة/ الغرفة/ العائلة/ الوطن. كذلك إذ نعرف من بعد أن قيادة الوطن بلا زواج. عاقر. بلا خصب. بلا ولادة جديدة فيه اشارة الى صريحة على موت الوطن، السياسة، القيادة، العائلة سريريا على الاقل.
هذا الذي ورد اعلاه يمكن اعادة النظر به بمشرط النقد وتكثيفه على نحو ما معلق من يافطة في السيارة تحت عبارة: (خط تقاعد – حي الشهداء) التي نلتمس منها الدلالات الآتية:
• ان الوطن انحسر في وجوده ومسيره بين نقطتين مظلمتين: دقيقة التقاعد وهو ما يشير الى انتهاء صلاحية الوجود والعمل والحياة. هذه الدقيقة التي انتفخ بطنها فكانت حياة من العطب والعطل وانتهاء الصلاحية في الوجود والاعتبار ودقيقة ثانية اوجدت مواطني الوطن في رفوف المدينة او قبورها المعنونة بالشهداء.
• ان دقيقة التقاعد إذ التقت مع دقيقة الحي/ حي الشهداء اوجدت وطنا لا زمن له إذ كلاهما التقاعد والشهداء قد خرجوا من معطف او مدار الزمن وقرّوا في معطف ومدار الحالة: حالتهما الميتة والعبثية والساخرة من وجودهما الوهي على خط سير معطل. وهذا من شأنه أن يرشدنا أن الوطن قد فقد مكونات زمنه: الماضي، الحاضر، المستقبل.
• ان نافذة الحياة هي نافذة وهم الموت من التقاعد ووهم الموت من حي الشهداء. هذه هي النافذة الوحيدة التي يستطيع المواطن فيها ايجاد نفسه والحركة تحت عنوانها ومدارها.
نسمع عبارة السائق وهو ينادي الى مواطني الوطن: طالع ، تقاعد – حي الشهداء.. نفران… لكنه بحقيقة الفعل انه واقف ازاء تلك الحالة والمشهد بدلا من ان تدخل فيه نسمات الحياة دخلت اليه ابخرة واتربة الموت. مع التأكيد على ان النفرين الباقيين هما بالأصل كل ما بقي من مواطني الوطن وهما على حالتين بتقدير ثبات تلك الحالتين:
حالة1: أرملة. هنا تكون حالة نساء الوطن حالة أرملة طالما تم حصر الحياة بين دقيقتين من التقاعد والشهادة.
حالة2: يتيم. هنا يكون كل ابن في هذا الوطن يعاني عدم وجود او غياب او شهادة أب.. الوطن/ السيارة/ الاسرة بلا أب..
إننا هكذا نكون قد قبلنا ان يكون كل آبائنا مجرد ملفات تفرزها دائرة التقاعد وتحت مسميات واحدة: شهداء. ذلك ما نوه به الابن وهو يصعد دائرة الوطن التي تمحورت بين دقيقتين حربيتين: دقيقة التقاعد ودقيقة الشهداء وبالتالي نلحظ ان الابن وقع في فخ الدائرتين/ الدقيقتين وانهرس تحت عجلاتهما.
سقط النفران من نداء السائق وما بقي الا صوته الذي ينادي: نفر واحد.. طالع. نفر واحد. ولكن من غير وصول ذلك النفر صعد الجميع رحلة الوطن/ حالة الموت/ ثبات الصورة التقليدية التي يتكرر فيها مصير المواطن داخل مركبة الوطن. وفي هذا مؤشر:
– دائما ما ينقص هذا الوطن من ابنائه.
– النفر الذي لم يأت من الممكن ان يكون أملا في تغيير او رفض الحالة او رفض المسير داخل عجلة الوطن المتهرئة والتي هي في حقيقتها لا تسير.
– ان ما بين دقيقة التقاعد ودقية الشهداء يسكن جرح الوطن ويزمجر بصوته وأتربته لذلك كانت العجلة وهم عجلة وصراخ عجلة تعاني شدة القهر من شدة حالات مواطنيها.

&&&&&&&&&&&&&&&&
نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح1- 2: حرب الدقيقة الاولى
بعبارة: تحرك الوطن، من خلال معادله الافتراضي الدرامي، السيارة: سيارة نقل المواطنين داخل الوطن نكون قد ألهمنا أنفسنا ان الوطن مازال على عافية بمسيره ومسير ابناءه. ولكن كما أشرنا سابقا ان ما هو موجود لا يخضع ابدا لاشتراطات الحركة التي لها قبل ولها بعد ولها متغيرات في التحولات والانتقالات انما الوطن/ السيارة/ المواطن بقي على حاله وثباته. وان هذا الثبات سوف يؤكد لنا من وجهة واقعية لا افتراضية درامية ان الوطن/ السيارة لا يتحرك ابدا بل هو يلتف حبلا شانقا بين انتهاء صلاحية/ التقاعد والقطع بشهادة ابناءه من حيث معادله الانساني – الجغرافي بحي الشهداء.
عندما نؤكد انعدام الحركة او الحياة داخل الوطن فان تأكيدنا يمكن البرهنة عليه على النحو الآتي:
– السيارة افتراض سيارة فهي رابضة بين تقاعد وبين موت ( شهادة)
– اصوات السيارة وطريقة تشغيل محركها يؤدي الى اكتشاف عطبها لا من حيث هي سيارة نقل بل من حيث هي سيارة وطن.
– الاصوات العالية التي تصدرها السيارة في طريقة ادارة محركها انما هي اصوات وجود ينازع نفسه من اجل التدليل على بقاءه ولكن هذا البقاء سيكون مرهونا بين دقيقتين على صورة مماثلة: دقيقة التقاعد ودقيقة الشهداء.
– من يقود هذه السيارة غير قادر على التخصيب والتفاعل والانجاب والتكاثر او التجدد وهو بذلك اقرب ما يمكن القول به أنه عقيم الوجود والاعتبار والحركة.
– صورة المبالغة بتشغيل محرك السيارة وزمجرة اصواته هي صورة واهمة للإعلان عن وجود خائف ومهدد بالانقراض..
– وما عبارة السائق: احتاج الى طاقة ايجابية الا ايهام فني اكثر مما هو حركي. ايهام يعمل لاحقة لا على حركة المواطنين داخل الوطن بل على كشف حالاتهم فيه. تلك الحالات التي راهنت على كشفها من رهان تكرار صورتها الثابتة بين دقيقة التقاعد في حرب وجودها وبين دقيقة الشهداء.
ان وهم السائق في مطلبه للطاقة الايجابية ( الواهمة ) تمدد في حالة الابن الذي يحمل ملفا لأبيه الشهيد او المتقاعد عن الحياة والوطن والذي كان جزء من طبخة الزمن المتهرئ في الوطن المتهرئ حتى اطلق صرخته لتمثيل دور المسرحي داخل الوطن ليوهم هو الاخر ان ما يحدث انما يحدث بدواعي التمثيل لا الحقيقة: تمثيل وجود مشدود بين زمنين غير صالحين للوجود والاعتبار والبقاء والحركة. التقاعد والموت بمسمى الشهادة. وقد تمخض عن صراخ هذا التمثيل المفاجئ داخل السيارة:
• (أجدني هاملت في حيرتهِ وارتباكهِ وبحثهِ عن كينونتهِ، لم أدَّعِ الجنون فكُلّ الأمكنةِ هنا مصحات). يتضح هنا ان الابن يعاني نقصا في وجوده ونقصا في سلامة عقله وتأكيدا ان الوطن اصبح مصحا لمواطنين مرضى بالجنون فيه ومنه واليه. وهو بذلك يؤكد صورة الحيرة التي يمر بها كل ابن ازاء مستقبل وجوده داخل هذه السيارة/ الوطن وما ستؤول اليها حالته فيها.
• (وفي لحظةٍ أخرى أراني أحد ضحايا ماكبث وهو يريدُ طعن ظهري بخنجرهِ). استمرار لعبة الضحية التي وجدت من أجل استمرار وجود الجلاد. او بعبارة ثانية ان كل ابن هو مشروع للقتل بطعنات غادرة داخل هذا الوطن/ السيارة/ الفضاء الدرامي – الحقيقي..
• (أو ضائعاً في مملكةٍ أضاعها الملك لير بعد أن قطَّع أوصالها الى أربعةِ أوجاعٍ). هنا يجرنا التأويل المفضوح الى:
– خرافة ادارة محرك الوطن السياسي الذي أضاع الوطن والمواطن بالتقسيم الاعتباري والجيو – سياسي.
– الابن، الارملة، الشهيد، السائق العاقر، هي الاوصال التي تقطع عليها الوطن وهي المعادل لكل قرار سياسي او اجتماعي او وجودي..
• (لكن عطيل ما زالَ يطاردني بانفعالاتهِ وهو يستسلمُ لدسائس ياغو). في هذا تأكيد صريح لهواجس الشك في التواصل مع حياة الوطن وحياة المواطن فيه. اذ كل ما يدور انما يدور داخل مركبة الوطن بمعطى الدسائس وان ياغو وهو محرك تلك الدسائس وشاحن الشك الاكبر مازال يقظا في عمله وتأثيره بل في مسكه زمام فعل ومكان المواطن من وطنه حتى جعله مطية لانفعالات الشك المحموم والذي لا يقين له نحو أية صورة من صور الوطن المجروحة.
• (ولا شيء يجعلني أعشقُ البقاء في هذا الكون سوى جوليت المزروعة في روحي كوردةِ ياسمين). لضرورة درامية وضع الكاتب اضداد حالة المواطن في مسير الوطن: وضع الموت والوجع والشك والقهر والغدر مقابل الامل والحب والمرأة.. لكن ذلك التحايل الدرامي سرعان ما سيصطدم بثبات حالة المواطن والوطن ووهم وجوده وحركته ازاء ما يتكشف من أحوال الجميع كنتيجة محتمة وراسخة على الجميع.
أرملة: (للابن) ما بك؟
الابن: آسف.. لم يكن سوى تمثيل.
أرملة: أأنتَ ممثل؟
الابن: أعتقد ذلك…!
سائق الكيّا: ولكن سيارتي ليست مسرحاً.

&&&&&&&&&&&&&
نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح1- 3: حرب الدقيقة الاولى
حين يصير الوطن وهما دراميا تختلط عليه الرؤية ويضيع عليه مشهد الوجود ومشهد الحركة فهل هو حقا يقبع في سيرورة الواقع ام انه منزلق من الواقع، وبعصاب ما وقع عليه، نحو تمثيل وجوده وحركته بما هو ليس من الواقع بشيء وبافتراض درامي. هنا يريد الابن ان يخرج من وهم التمثيل/ الواقع – الواقع/ التمثيل او بعبارة ثانية من الوهم الوطني الى الوهم اللاوطني او العكس من الحياة الى الموت او من الموت الى الحياة او من التقاعد الى حي الشهداء. ولكن كل ذلك يحدث في مدار الوطن/ السيارة التي لا تتحرك..
وما رغبة الابن في مغادرة واقعه وصراخه الذي يمتد داخل فضاء الوطن/ السيارة وخارج الوطن الا اجترار عقيم لوهم ثابت وقار في نفسه ولكن اقراره ذلك لا يمنه الابن ان يبوح بأمنية تجاوز ما وقع عليه نحو وطن آخر يزيح عنه الذل واليتم والفقد ومعادلة الوطن المتوقفة على: صخرة التقاعد السوداء وصخرة الشهداء المظلمة.
اننا ازاء فكرة ازاحة يعمل بها الابن ويوجهنا اليها الكاتب الزيدي من حال الى حال ثانية بدرجة من الانقلاب التي تؤرخ للابن انفعالاته بعدما اكتملت معاملة أبيه. واصبح الملف جاهزا نحو تغيير حال الابن وذلك من تغيير حال الاب التي سنتعرف عليها لاحقا:
– اقرار الابن ان البيت/ الوطن/ السيارة مجرد خراب ينبغي الانقلاب عليه وتغييره..
– الوطن/ البيت/ السيارة مفرغ من حلم الشباب او اي حلم طالما انه مقعد بتاريخ من الجوع والبرد والقتل والتشريد…
اذن الابن يريد مغادرة الحال ولكن لهذه المغادرة سلسلة من المفارقات التي سيلعب عليها الكاتب ويجعلها محورا لرسالته او دلالاته المتوخاة من كشف هذا الوطن من مبدأ كشف اسرار العلاقة بين الابن والاب والارملة والسائق.. بوصفهم مواطني هذا البلد وهذه الطريق المحصورة في الوطن بين زمنين معدمين: بين زمن تقاعد وبين زمن حي الشهداء، وعلى نحو:
مفارقة1: على مضض من الخراب العام يدعي الابن فرحه الخاص وذلك لمجرد أنه انتهى من استتباب معاملة ابيه من زمن التقاعد: ذلك الزمن المعادل لانتهاء صلاحية وجود..
مفارقة2: دقيقة الملف الخاص بالأب سرقت من عمر الابن عشرين عاما ومع ذلك يجد في تحولات تلك السرقة أملا بالتغيير.
مفارقة3: البيت/ الوطن/ السيارة تركيب منقلب على نفسه فمرة يكون فيه المواطن شهيدا ومرة يكون فيه المواطن خائنا وما نحن المواطنين فيه الا مزدوجي الاعتبار نقبل سيرورة تلك التحولات بين الشهادة والخيانة على حد سواء. هو ذاته بيت الخائن يصير بين الشهيد او العكس..
مفارقة4: هي مفارقة التمثيل بالنسبة للابن بعدما كان على حقيقة الخيانة للوطن من ابيه اصبح على وهم الشهادة من أبيه وبذلك تبلغ المفارقة ذروتها من حيث الشفرة التي زرعها الكاتب لنا من أجل اعادة السؤال علينا والينا بذات الوقت: تحت اي معيار ينقلب الشهيد خائنا والخائن شهيدا؟ وهذه التبعات التي يتحملها الوطن دهرا بعد دهر ومن خراب الى خراب ما الذي يجعلنا ندفع ضريبتها جوعا وقهرا واتهاما وذلا ومعاداة..
نحن لا نجيد تحديد هويتنا بمن نحن: نحن الخيانة من جهة، ونحن الشهادة بمسمى الوطنية من جهة ثانية. وتلك نحن تتشكل من أفراد يعانون انفصاما حادا ازاء الوطن فهم بلا زمن وطني ولا معيار وطني، ومن الممكن انزلاقهم وسيولة تلك العلامات التي يتلطخ بها كل مواطن وبالوقت نفسه هي فارغة من اعتباراتها وصدقها وحقيقتها. ومن فرط تلك المفارقات تأتي صرخة سائق الوطن/ السيارة.. تمثيل.. انه تمثيل.. هو يعني بذلك ان ما يحدث للوطن انما هو تمثيل مفرغ من كل حقيقة بينما نتائج ذلك التمثيل تكرر نفسها على اشكال من:
– القتل
– الفقر
– الذل
– خراب البيت/ الوطن
– الوجود كحالة وجود من التقاعد الحي كل وقت وعلى كل أفراد الوطن والشهيد الحي الذي لا يدري شيئا عن وهم حياته الجديدة داخل مركبة هذا الوطن.
يكتمل بدر المفارقة حينما يعلن الابن:
– – سأعيشُ حياةً جديدةً فيها الكثير من المالِ بعد أن صرتُ ابن الشهيد. التعويضُ جاء أخيراً!
– أرملة: حاول أن تتوقفَ عن تمثيلك.
– الابن: التمثيلُ هو الحقيقة!
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح1- 4: حرب الدقيقة الاولى
من هنا بدأ مشكل المسرحية الرئيس. من هنا بدأ المشكل الخطير للوطن في تحديد هوية او قيمة او اعتبار أكثر صفتين لازمتاه في نصف قرن مضى: من هو الشهيد. أيمكن ان يكون خائنا. ومن هو الخائن. أيمكن ان يكون شهيدا؟ من هنا تصاعد الجو الدرامي. من لحظة الاستفهام الذي تركته الارملة على طريق الحي – حي الشهداء وهي تسأل الابن: في أي حرب استشهد؟ نحن في وطن أضاع عن نفسه وضيع بوصلة القيم: اذ من الممكن ان يكون القاتل ضحية وبذات الوقت يعد المقتول ضحية أيضا ولكن ان نسبة تغير ايديولوجيا السلطة هي من تحدد نوع الضحية وصفتها وان متغير السلطة سيكون سببا لمتغير الصفة وهكذا ينقلب الشهيد خائنا والخائن شهيدا تبعا لبوصلة السلطة لا تبعا لمبدأ وطني معياره الوطن.
في المسرحية: (حرب العشر دقائق) نلحظ:
– الارملة تفهم ان الشهيد هو المقتول في الحرب دون تحديد لجهة الحرب وجهة العدو لكنها الحرب التي فيها رصاص وشظايا وقنابل. كذلك السائق يفهم الامر من هذه الزاوية بالتحديد.
– الابن يفهم الحرب من فهم معارضة أبيه للسلطة وقدر اعدامه لها من عدم اعدامه ومن ثم ان تغيير ما قع من صفة: صفة الاب الخائن ابان ايديولوجيا السلطة رقم 1 الى صفة الاب الشهيد ابان ايديولوجيا السلطة رقم 2.. وهكذا يمكن ان ترتد الصفة ثانية الى رقم واحد وكذلك تنقلب الى رقم اثنين في حراك يتيه فيه عنوان الضحية وحقوق ذلك العنوان مثلما تاهت عنه بوصلة الاعتبار او القيمة من الموت او الضحية..
هكذا يبدو المشهد برمته غير حقيقي مرة ويبدو مرة ثانية على حقيقة وصدق وهو اذ ينقلب على نفسه كل مرة يبدو اجمالا مشهدا ساخرا ومفزعا بذات الوقت. يبدو مشهدا (وطنيا) من تمثيلية تدور حول نفسها من أجل زعزعة نفسها كل مرة.
– أرملة: (للابن) في أيِّ حربٍ استشهد؟
– أرملة: (للابن) في أيِّ حربٍ استشهد؟
– الابن: من؟
– أرملة: أبوك.
– الابن: لالا.. لم يستشهد في حرب!
– سائق الكيّا: (من مكانه يصيح) أتسخر منا؟
– أرملة: كف عن التمثيل.
– الابن: أبي فعلاً لم يشارك في أيَّةِ حرب.
– سائق الكيّا: لم يشارك؟!
– الابن: (يضحك) بل كان هارباً منها!
– سائق الكيّا: هارباً ؟
الآن نصل الى حركة الضدية في الفهم ابتداء والتي تؤشر هذه الحركة الى بؤرة الصراع الذي ابتدعه الكاتب المسرحي الزيدي ليكون أصل المشكل الذي وقع على الوطن وقد غص الوطن به طالما انه غص بقيمته التي تحدد صفته. الان حدد لنا الكاتب حكايته مختصرا اياها في حركتين:
حركة1: الاب خائن اعدم قبل عشرين سنة
حركة2: الاب شهيد بعد عشرين سنة
ولكن من تلك الحركتين المتضاربتين اندلعت حرائق الاسئلة واحتدم الصراع الدرامي افتراضا تدوينيا من قبل الكاتب وافتراضا درامية من قبل الجنس المسرحي وحقيقة من قبل الموقف الوطني. هنا ينظر الى قائد الوطن/ السائق بوصفه محرك ضمني لأيديولوجيا السلطة اذ بيده القرار: قرار منح الصفة والرضا عليها والرضا من بعد ذلك بالتعامل مع تبعاتها ومن ضمن تلك التبعات عائلة الشهيد – الخائن او الخائن الشهيد.. وهكذا.
ولشدة تفاوت المشهد وتحولاته المتناقضة يسري الاعتقاد داخل الوطن ان ما يحدث انما يحدث بدواعي التمثيل لا بدواعي الحقيقة الواقعة، وبالتالي هو تأرجح بين وهم تفرضه الدراما المسرحية للمشهد من جهة، وحقيقة يفرضها الوطن كمصداق حي لما يحدث من جهة ثانية. ولشدة التحولات وتسارعها تنسى السلطة موقفها القيمي الاول فتنقلب عليه ثم تعود اليه في حركة من متاهات القيمة. من متاهات تحديد صفة الضحايا: قتلة او مقتولين.
سائق الكيّا: كيف يخون الوطن ويتحوّل الى شهيد؟! وكيف يمكن أن يكونَ شهيداً وبنفسِ اللحظةِ خائناً؟ وكيف يُعدم ويستشهد بعدها؟

&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح2: حرب الدقيقة الثانية
من شأن الحرب ان تترك الوطن والابناء في غليان دائم. من شأن الحرب ان تترك الروح والجسد على مرأى ومسمع من كل نار تسعر في نفوسهم وطرقاتهم كل وقت. واذا انطفأت الحرب ذات القتل والقنابل والرصاص والشظايا فان من بعد انطفاء تلك الحرب تولد حرب أخرى: حرب الارامل والايتام والفقر والفوضى والضياع.. وهذه الحرب التالية أشد قسوة من الحرب الاولى وليس من السهولة اخماد نيرانها.
هنا في بلاد ما بين حرب وحرب امتلأت حيواتنا اليومية واكتوت بين حربين تتعاقبين كل وقت علينا كتعاقب الليل والنهار: حرب القتل وحرب النفس وبالنتيجة ان مصباح الحروب أطفأ كل شيء فينا ولم يطفئ نفسه ابدا. لذلك ان الموقف الاجتماعي وكذلك الموقف السياسي على صورة واحدة من الاستشعار بتلك النيران الجاثمة على صدر الوطن وتمثل الموقفان في:
• الموقف الايديولوجي الذي يدير زمام السلطة وقيادة المشهد تزداد حمى صورته اداء واعتبارا كلما اراد الحركة او اراد التعبير عن نفسه في النظر الى نفسه. وهذا ما جعل السيارة/ الوطن/ السياسة بشكل سيارة تشمل الوطن فضاء وايديولوجيا في مكابدة مع ما يستعر منها وفيها من سلوك طائش يغلي كل وقت بالحميم والفوضى والعطب المزمن.
• الموقف الاجتماعي الذي تجسد عبر ثلاثية افراد الوطن السيارة من حيث:
– الابن: معدوم الفكرة والحضور والاقتصاد وهو يبحث بين وجودين لأب او قيادة من خلال: الاب البطل ولكن تحت عنوان المعدوم والاب البطل ولكن تحت عنون الشهيد. وكلاهما يؤديان الى لا وجود الاب في حياة الاسرة وتحديدا في حياة الابن..
– الارملة: المرأة التي لا تجيد رؤية مشهد في هذا الوطن ما لم يكن ذلك المشهد قد تلبس بسواد الصورة معنى وجسدا. المرأة الوحيدة التي لا زوج لها او لا أب لها وهكذا هي زوجة او ابنة ولكن تحت شطب وجود الاب..
– الاب: مازال يجهل نفسه أهو شهيد أم خائن – خائن أم شهيد. بطل أم جبان – جبان أم بطل. وهذه الجهالة تنعكس دائما بصورة وطبع وموقف من بعده من تبعات قاهرة تمثلتها الاسرة بشكل خاص وتمثلها الوطن بشكل عام.
ان تعثر قيادة الوطن/ السيارة لا تختلف عن تعثر وجهة تحديد هوية الاب. كلاهما عاطب وطريقه تذهب باتجاه:
1 – ارتفاع نيران الوجود الوطني كله من خلال ارتفاع نيران مواطني الوطن وهذا الارتفاع الحاد يزيد من نوبات القهر بمثل ما يزيد من نوبات الشك بالقيادة/ الاب موقفا ومصيرا واعتبارا. فالنظر الى الاب هو ذاته النظر الى القيادة ولما كان الابن مجهول الصفة والاعتبار ومتأرجح بين شهيد وخائن او بين بطل وجبان وهو في حال العدم اذن فان القيادة/ السلطة/ السيارة / الوطن حالها من حال ذلك الاب.
2 – اختل ميزان الاب مبدأ وسيرورة أسرة او وطن: هو تجارة ميت لابناء تهاني فقدان النظرة من زاوية ان الاباء مبادئ وجود الى ان الاباء مصالح وجود. وفي تلك طامة انهيار القيمة الكبرى للوطن او الاب.. اصبح مجرد بضاعة رخيصة مفرغة من قيمة الاب/ الشهيد/ القيادة/ الوطن وتحول الى سلعة بائرة ورخيصة نتداولها على فرض تحسين المعيشة او الانتقال الافتراضي والذي لا يتحقق ابدا من حال الى حال ثانية بحجة التغيير مع ان ذلك التغيير لا يتناضح علينا الا بصورة زعيق أجوف داخل متاهة ضمائرنا التي أضاعت علينا نوع وهوية القيمة والاعتبار واحالت ما هو مبدأ الى مصالحة رخيصة لا قيمة لها وان كانت تلك المصلحة تتداول: الوطن/ الاب..
انظر معي كيف يبدو المشهد غريبا داخل الوطن: اقول غريبا من حيث مطلب الكيف الذي نريد ان يكون عليه الاب:
سائق الكيّا: (متذمراً) لو كان أبي شهيداً لما كنتُ لأجلس هنا وأقودُ هذه الخردة التي ترتفع فيها الحماوة بين شارعٍ وآخر!
الابن: (يشير لسائق الكيّا) خُذ كُلّ الأموالِ وأعد لي أبي حياً، أتمنى أن أراهُ للحظةٍ واحدةٍ وبعدها أموت، أحلمُ أن يجلسَ بالقربِ مني ويعانقني بأبوتهِ، أسيرُ معه في شوارعِ حيِّ الشهداء وأصيحُ بصوتٍ عالٍ: هذا أبي الشهيد.. فخري وشرفي…
نلحظ هنا:
– السائق/ القائد لمركبة الوطن/ السلطة/ الادارة تبحث عن نقص كبير في نفسها وهو نقص الشهادة على الرغم من ان الوطن مشبع بها حد الغثيان. هذا النقص هو بالأصل تخمة قاهرة ازكمت انوف الوطن بالجوع والضياع وانعدام الوجهة..
– الابن باع اباه بملف تحولاته من ميت معدوم الى ميت شهيد من أجل تغيير الحال المعيشي. انه باع المبدأ بالمصلحة. وهذا اقسى ما يمر به الوطن.. وما تلك الاشارات والالفاظ التي نفثها من كلامه الا هواء أجوف لمبدأ لا وجود له في رأسه. لا فخر عاد لاب شهيد او مناضل او كادح بل الشرف ما كل الشرف ان تتحول تلك القيمة العليا الى رخص من المال يسد لقمة عيش.. او يسد طمع ورغبات مكبوتة وضائعة..
سائق الكيّا: (للابن) كُن في مكاني.. ستفكِّر مثلي.
الابن: (يصفق له) ممثلٌ بارع.
سائق الكيّا: ماذا أفعل؟ خطُ سيارتي يبدأ من دائرة التقاعد الى حي الشهداء
ثم يعود السؤال مرة أخرى: سؤال الوطن الغريب والذي لا يجيد لعبة التمييز بين شهيد وشهيد وبين خائن وخائن وبين خائن وشهيد وبين شهيد وخائن:
أرملة: أهناك من شهيدٍ ليس بشهيد؟
الابن: طبعاً.. ليس كُلّ شهيدٍ شهيدا
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح3: حرب الدقيقة الثالثة
هكذا وراء كل شك بقيمة عليا يهبط في الناس من داخلهم وضمن محيطهم انفجار كبير: وبدالة ان اطار السيارة انفجرت قد عاد الوطن يفجر نفسه من داخل نفسه طالما ان مقود قيمه انحرفت عن جادة المبادئ وطالما ان الافراد فيه صاروا جميعا خلاصة افراد في مصهر الحرب التي استطاعت ان تكثفهم جميعا الى ابن وارملة وشهيد مؤجل الشهادة او على الاقل مجهول النهاية: نهايته في ان يكون شهيدا حقا او شهيدا باطلا..
وهذا الانفجار الذي هو استعارة انفجار كشف لنا مدة الانفجار في الانسان مثلما كشف لنا مدة الانفجار في السلطة/ الوطن الفضاء السينوغرافي للمشهد المسرحي – الوطني على حد سواء. وقد اتضحت تلك الاستعارة من خلال:
– الارملة التي توقف عمرها في ( العشرين )مع انها لحظة وقوع الانفجار تبدو في ظاهر الافتراض الدرامي في الخمسين من العمر هي ارملة المدة التي خرجت عن الزمان والمكان الوطني وتقوقعت في الزمان والمكان الحربي. والحرب برمتها مهما طالت او قصرت هي لحظة قتل ابتلعت كل زمان ومكان. وهذه اللحظة الان تستفرغ صورها على شكل ارملة ويتيم وايديولوجيا ضائعة وقيمة مشكوك في متجهاتها ونواياها.. وشهيد او مقتول يريد عنوانا يمضي به: ذلك العنوان الذي يجري من خلاله تصنيف نتيجة مقتله: الى النار ام الى الجنة…
– الشهيد عابر حزين بين مدة التقاعد ومدة الحي السكني الذي يلم فيه تبعاته المقهورة من أسرة وبين جهالة القرار الذي يصنفه ودرجته وبين هوس ما يجري من نهاية للوطن وللشهيد وللخائن ولمسير العجلة التي تنفجر كل وقت.
– الابن الذي ابتعد عن أباه (عشرين ) سنة وهو بذلك يمثل سهم امتداد المدة الافتراضي من عشرين الارملة التي سقطت فيها بلا زمان وبلا مكان وزمنه الذي سقط عنه بعد معدم أبيه وقدره مفرغ أيضا من كل زمان ومكان.
– حركة السيارة التي تنفجر اطاراتها كل وقت هي حركة الوطن التي يتبلغ في مواطنيه على شكل نوبات من القهر اللابد فيهم والحياة التي تتحرك بصورة تدوير لحالة واحدة: حالة الترمل وحالة اليتم لا أكثر.
– كل ما يعرفه أفراد الوطن هو التقاعد..
أرملة: (تضحك بقوة) كنتُ في العشرين من عمري عندما حوّلني زوجي الشهيد الى متقاعدة!
الابن: في العشرين؟
أرملة: إي والله.
الابن: ومتقاعدة؟
لكن كل ذلك التقاعد الذي هرس المجتمع بصورته وعجلته الميتة والقاهرة لم ينفع في ايقاف اختلال توازن القيم او تحديد هوية الاب: من يكون وفي اي صورة يكون من الشهادة او الموت او الخيانة او حتى الابوة والقيادة. وبقيت التهمة تهمة الناس وان كانوا كل الناس قد اجتمعوا في صورتين: ارملة ويتيم، ان كل حرب لها تصنيفها من الضحايا فمثلا الحرب الاولى خيانة والمعدوم الاول خيانة بينما الحرب الثانية بطولة والمعدوم الثاني بطولة.. وهكذا حتى يصل الجميع الى التصنيف السلطوي الذي اذا انقلب انقلب معه تصنيفه الى الضد ووصولا الى تثبيت صورة الضحية: صورته الآخروية أهو من أهل الجنة ام هو من أهل النار. وبالتأكيد ان اوراق السلطة وحدها التي تحدد تلك النتائج حسب منقلبها.
الابن: (للأرملة) فرقٌ كبيرٌ بين أن تُقتلَ في حربٍ لا معنى لها وبين أن تُعدمَ من أجلِ الوطن!
أرملة: حربٌ بلا معنى؟
الابن: كالحربِ التي قتلَ فيها زوجك.
أرملة: (تضحك ساخرة) وهل هناك من حربٍ فيها معنى؟
الامر هنا سيجعلنا نلحظ المؤشرات الاتية:
• الشهداء قتلى حتى ترى السلطة محلهم من القتل وتصنيفهم.
• الشهداء درجات متفاوتة وبعد ذلك ستأتي حقوق تقاعدهم متفاوتة.
• ما تسميه انت شهيدا اسميه انا خائنا وما اسميه أنا شهيدا تسميه انت خائنا في تدوير وتعاقب لمسميات يفرضها الانقلاب السلطوي كل مدة.
• التقديس والتدنيس للضحايا عنوانات يفرضها البعد الايديو – ديني كيفما تتوجه دفة السلطة.
• القتلى بعين الناس صورة مؤجلة من تعويضات مالية لا أكثر.
الابن: أنا أفتخرُ بأن أبي هو شهيدٌ من الدرجة الأولى ودون حرب (يصيح) درجة أولى…
أرملة: درجةٌ أولى؟ المنتصرون هم من يكتبون الكلمة ومعناها كما يشاؤون ويجعلون من تلك الحرب مقدسة وتلك مدنسة!
مع ذلك نحن نصر على اتمام صفقة التسمية من صفقة المنتصر الايديولوجي الذي يعلن عن تلك التسمية ويضعها شرطا للتقاعد او شرطا للجريمة. وهكذا يمكن ان يكون شهيد الامس خائنا لهذا اليوم والخائن شهيدا.. هكذا كيفما اقتضى المنتصر الايديولوجي في اللعبة القاهرة.. ان تحديد معنى الضحية يؤكد لنا تحديد معنى الحرب او الوطن او السلطة.. ولا جدوى من تلك الصرخة التي تستبطن المرأة رفضها فيها بضحكة ساخرة: وهل هناك من حربٍ فيها معنى؟ وبالنتيجة لا ينفع الصراخ الاعمق الذي تنادي به الارملة: وهي تستعطف الابن الى معنى آخر. معنى يعيد اليها ثوب الحياة والوطن والاب والزوج والقيمة الاخرى: المقدسُ هو أبوك وزوجي وليست الحروب.
ثم تعاد التمثيلية مرة أخرى طالما يتكرر مشهد التمثيل الايديو – حربي في رؤوس السلطة/ الوطن/ الافراد.. تمثيلة فقدنا كذبها وصدقنا حالها ثم صدقناها لنعيد تكذيبها علينا وكأننا تدوير لها من حيث نرغب ولا نرغب. تمثيلية المعنى من التضحية: اين هو وما هي صفاته والى أية سلطة ينتمي وهل هو مبدأ معنى ام مصلحة معنى؟؟
آنذاك يتكرر الينا وعلينا ومنا صراخنا الى بعض:
الابن: لأن أبي استشهدَ واقفاً وهو يتلقى رصاص إعدامه.
أرملة: وزوجي استشهدَ في الحرب الأولى واقفاً هو الآخر.
الابن: (يصرخ بها) قلت لكِ لم يكونوا شهداء.
أرملة: (ترد على صراخه) وماذا نسمِّيهم؟
الابن: قتلى لا عنوان لقتلهم.
أرملة: وزوجي الشهيد؟
الابن: أحدهم…
أرملة: قل بأن هذا ليس سوى تمثيل.
الابن: للأسف.. هذه هي الحقيقة!
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح4 – 1: حرب الدقيقة الرابعة
في الحرب وما بعد الحرب ينظر الافراد الى انفسهم في مرآة الوطن على أنهم قد بلغوا:
– كل مقتول: كان شهيدا او خائنا – بطلا او جبانا انما هو معدوم..
– تختزل الوان الوطن كلها بلون أسود ينعكس من داخل الافراد بمثل ما يتمظهر في خارجهم.
– تصير الطرق واحدة تمر في العمر والوطن على أنها طريق من التقاعد التي تنتهي بطريق من الشهداء، دارا ووطنا ومصيرا وأسرة.. ومستقبلا لا ملامح له..
– دماء الضحايا واحدة لكن نوازع السلطة في تفريق تلك الوحدة: وحدة الدم واعادة تصنيفها هي التي تلعب دورا كبيرا في موت الاوطان..
– تختلط أوراق الوقع ومعاني الوطن بين التصديق به كواقع وبين عدم التصديق به كونه وهما تتمثله صورة الوطن وتعكسه مرآته بشكل جحيم..
ومن فرط عدم التصديق او المناورة بوهم ما يمر به الناس من حرب او دمار نستعير نحن افراد الوطن لغة التمثيل تعويضا لذلك الخلط وتصديقا به مرة وهروبا منه مرة ثانية وهكذا.. هنا يستعير الابن صورة الام المماثلة بوجهين من الاستعارة في التمثيل:
• الليدي ماكبيث: وهي شخصية من شخصيات النص المسرحي ماكبيث التي كانت مفعمة بالشر والقتل.. وهي دلالة دفعها الينا الكاتب من أجل تصديق ان الحرب كل حرب هي دواعي امرأة تدفع ابناءها اليها.. انها ادانة للمرأة التي تحرض الى الحرب من حيث انجابها لحطب الحرب: الابناء.
• نورا: في مسرحية بيت الدمية لابسن. في ذلك دلالة متضادة اذ تعمل نورا على مجابهة الحرب بالرفض والخروج من معطف الحرب بالخروج من وطنها..
تؤكد تبعات الطريق المختصرة بين حرب وحرب او كما يريدها الكاتب الزيدي بين تقاعد وحي الشهداء ان لا شيء بقي على حياء من هذه الحياة وان بوقوع الحرب وضياع الضحايا فيها سوف يسقط كل حياء من جبين الدولة كلها. يالها من سخرية ان تكون دماء الشهداء والمعدومين سبيلا لسقوط الحياء من وجه الدولة كله. وان هذا السقوط من شأنه ان يضيع الوطن والايديولوجيا والمبادئ والافراد في متاهة العهر الاسود من الحزن والفوضى والدمار.
• الابن: (لسائق الكيّا بغضب) أنت فعلا لا تستحي.
• سائق الكيّا: الدقائق العشر التي أعيشها معكم في هذه السيارة هي التي لا تستحي.
يسقط الحياء هنا عبر مؤشرات أهمها:
– جزئية القول على لسان الابن وهو يوجه غضبه الى الاب/ القيادة/ السلطة/ السائق/.. الوطن: انت لا تستحي. هي جزئية سقوط الحياء عن كل قول اوفعل صغير في مطبخ الدولة الكبير الذي اصبح طعاما عفنا من جراء حروب عفنة.
– كلية القول على لسان السائق: الدقائق العشر.. هي التي لا تستحي. اي ان الوقع كله وبكل تفاصيله بمسميات وعناوين كبرى كالوطن/ الابوة/ الشهادة/ السلطة.. هي بالإجمال مفرغة من كل حياة، وبالتالي ان عمر الوطن كله ابان الحرب وبعدها وقد امتد لأكثر من اربعين سنة افتراضا وحقيقة جعل كل شيء داخل الوطن مفرغا من الحياء.
تبدو السيار المعادل للوطن كواقع حال حقيقي او درامي. وان هذا الوطن من شأنه ان يلم العابرين في طريقه الى الحياة او طريقه الى الموت وان من العابرين الذين يلمهم من الممكن ان يكونوا ابناءه: ابناء الوطن الذين سقطوا عن الوطن في حوادث ما ومن بين تلك الحوادث الكبرى هي الحروب.
اذن، صعد الى السيارة او عاد الى الوطن احد العابرين وبمسمى: هو. هذا المسمى هو كان في صعوده ابتداء حالة وجود مضافة الى التقاعد او مضافة الى الشهداء ولكنه الان مجرد عابر وبافتراض تمثيلي اكثر مما هو كيان حقيقي.
وبالسؤال: من هو هذا العابر الذي تواطأ عليه حتى الكاتب فافرغه من اسمه لضرورة درامية او لاعتقاده بنتيجة الذين سقطوا في كل حرب انهم اول ما اضاعوا ق اضاعوا اسماءهم.. عرفنا ان العابر خمسيني وهي اشارة لمعركة الوطن التي صهرت في افرانها جيلين وبعمرين متفاوتين: جيل الاباء وجيل الابناء..
هو: (بتعب واضح) يا الله…
الابن: (للأب) تبدو متعباً…
هو: جدااااااً…
الابن: هي الحياةُ مُتعبة.
هو: جداااااً…
الابن: وهل بيتك قريب من هنا؟
هو: جداااااً…
الابن: في حي الشهداء؟
هو: جداااااً…
الابن: ما بك؟
هو: جدااااااً.
الابن: هل تشعر بالبرد؟
هو: جدااااااً.
الابن: والحر ؟
هو: جدااااااً.
الابن: تبدو غريباً ؟
هو: أنا؟ لالا، أنا هو…
الابن: ومن هو ؟
سائق الكيّا: قال لك بأنه هو.. ألا تفهم؟
أرملة: في سيارات الكيّا دائما ألتقي برجالٍ أسمائهم هو!
هو: (مؤكداً) نعم أنا هو، وكل أبناء حي الشهداء يعرفون بقصةِ هو…
الابن: ولكن لا معنى لـ هو.
هو: لهذا جئتُ للبحثِ عن معنى.

&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح4 – 2: حرب الدقيقة الرابعة
اصبح الأب مجرد ( هو ) لا معنى له الا معنى العابر الذي تجاهلته صورته الحقيقية. تجاهله الوطن والناس وصولا الى تجاهل أكبر وأخطر تحت عنوان تجاهله المبدأ: مبدأ الاب.. في عشر دقائق من حروب لازمت الوطن فأحالته رمادا لنصف قرن وضياعا لجيلين متتاليين: جيل الاباء وجيل الابناء..
مع ذلك هذا الاب هو الآن على صورته الافتراضية الدرامية يمكن أن نلحظ له وقوعه في مطبات كبيرة منها:
– فقدانه الاسم
– فقدانه معنى وجوده المرادف لفقدان وجوده الحقيقي.
– ممثل غير واقعي في واقع اقرب الى التمثيل.
– عابر ومجهول.
– أب من غير مبدأ او معنى الاب..
– معدوم في الموت كما هو معدوم في الحياة.
– طريقه ثابت ويتكرر كما يتكرر على الاحياء داخل الوطن من بعده. هو طريق التقاعد المؤدي الى نفسه عبر طريق الشهداء وجهة وسكنا.
هذا الـ هو اعلن عن مدة فقدانه: اعلن عن عشرين سنة من اللامعنى المعدوم تماما والان هو في اللامعنى المعلوم تماما وان كان عابرا، واهما، افتراضا قبل ان يتحول لاحقا الى حقيقة معنى موجود ومعلوم.
انظر ان (هو) كان:
• أبا
• زوجا
• وطنا – بيتا – أسرة – مجتمعا…
لكنه الآن عابر لا مجال له من الوجود الا قدر افتراضه الدرامي من جهة والاشكالي من جهة ثانية. وهذا ما سيجعل النص بما يفرضه الكاتب والعرض بما يفرضه المخرج مجالا للشك والصمود ازاء قيمة وجود الاب المعادل لوجود الوطن، وكلاهما قد اصبحا من فرط العدم النازل بهما اوهاما عابرة في كابوس وطني اختلت فيه كل مصاديق المبادئ واختل فيه الوجود والاعتبار على نحو واحد.
انظر الى الاشكالات الاتية:
– مشكل أن هو بلا عنوان ،بلا موت، بلا حياة حقيقية، بلا هوية بلا اسرة بلا وطن..
– مشكل المدة التي هي كل الوطن بما مرت به الحرب وكل الحرب التي لازمت الوطن. وهذا المشكل قد جعل من زمن الافراد والوطن مجرد حالة توقفت في تكرار زمنها ومصيبتها في آن واحد وكل مرة. وما تلك الحركة الدرامية التي ابتدعها الكاتب الا حركة تصوير المشكل الذي سيواجه به هو: الاب المعدوم او الشهيد طريق العودة او طريق الخروج من تلك الحالة: حالة الانسان ما بعد الحرب والتي الوجه الثاني لحالة الاوطان ما بعد الحرب.
– مشكل الابن الذي لا يريده الا صورة في ملف من ملفات التقاعد او ملف من ملفات الشهادة..
– مشكل الزوجة التي اعتادت الفقد بوصفه شكلا من اشكال الوجود او شكلا من اشكال الطريق الفاصل بين التقاعد وبين مسكن الشهداء على الرغم من نواحها وهجرانها لعمرها وامومتها..
الان بلغ العابر نفسه من بلوغ شاهد عليه الا وهو الملف الذي يحمله الابن: الملف الذي دون عليه اسم هو. ذلك الاسم العالق بين برزخ من الحياة وبين برزخ من الموت ولا يمكن كسر ذلك البرزخ الا بوسيلتين قاهرتين: التقاعد والشهادة وبالتالي يعاني هو من دهشة اسمه على الملف ومن معنى ان يعيد الى نفسه معنى وجوده.. معنى اسرته: ابنه، زوجته، بيته..
الان في السيارة ومن السيارة/ الوطن عاد البيت. عادت الاسرة كما ينبغي لها ان تعود ولكن هذه العودة مشروطة بغرائب لا يمكن قبولها ومن هذه الغرائب:
• الاب الميت هو أب حي تحت وقف التنفيذ.
• صورة الوطن من خلال السيارة تتحول الى صورة بيت وأسرة.
• تكامل الاسرة من خلال وجود الاب، الزوجة، الابن في طريق العودة من التقاعد الى مسكن الشهداء.
• الوجود الحقيق داخل ملف او كومة حبر على ورق مصفوف بهيئة ملف.
• الزوجة لا تعي او تستغرب عودة هو: ذلك الكائن الذي يمكن ان يقبل كزوج او تاريخ زوج.
• الابن الرافض للوجود العيني للاب غير المصدق به والذي يناقض الصورة الذهنية التي تشبع بها من جراء فقدانه كبطل او خائن او شهيد..
• السيارة/ الوطن هذيان متدفق بين تقاعد عمل على انهاء صلاحية افراد الوطن وبين حي سكني نقل الحياة بما فيها من عائلات الى الموت بما فيه من شهداء او قتلى..
هي تمثيلية وحسب ويعود الرفض مجددا لكل شهيد او قتيل. رفضنا ان يعود الينا. رفضنا الذي يرى بذلك العائد غريبا عنا.. رفضنا طالما ان الوطن لا يتقبل وجود الاحياء بصيغة الاموات مثلما يتقبل الاموات بصيغة الاحياء..
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح5: حرب الدقيقة الخامسة
انظر الحوار الآتي:
هو: (يصرخ به) وهل أخطأتُ عندما عدتُّ حياً ولستُ شهيداً؟ هل أخطأتُ عندما أردتُ أن أمسحَ من رأسِكم ذاكرة الرصاصِ التي اجتاحتكم؟ هل أخطأتُ لأنني انتظرتُ عشرينَ عاماً وأنا أتخيّلُ طولك وجمالك ودورة عينيك كأنك أنا، وأحلمُ بذراعيكَ وهي تعانقُني بشوقٍ ولهفةٍ دونَ أسئلةٍ؟ هل أخطأتُ حين كنتُ أراني فيك حياً…؟
الابن: (يرفع الملف) لا شيء يهمُّني الآن سوى هذا الملف!
هو: (بألم للابن) أنا أعدمُ الآن رمياً برصاصِ كلماتِكَ…
ان (هو) الذي لا معنى له ولا وجود له لم يكتف ان يجد معنى لنفسه او وجودا. بل يريد ان يكون أملا غريبا لحياة سقطت عنها عقود سابقة قد احرقت اجيالا بعد أجيال وجعلتهم بلا وجود او معنى وحياة يعيد تكوينها من جديد لتلحق بالحياة الاولى قبل وقوع الحرب وتغير بوصلتها والغاء المعنى منها والوجود. يريد هو اعادة اسمه وكينونته الضائعين في متاهات الحرب والسلطة التي اصابها العماء من الحرب فصارت دائرة تلف على نفسها بين تقاعد أجوف منبوذ داخل ملف فقير وبائس وبين سكن دائم للأحياء تحت يافطة الشهداء.
هو يريد:
– تغيير مسار الخطأ التاريخي للدولة من خلال تغيير المسار الاسري لبيته الذي تخلف عنه اكثر من عشرين سنة.
– اعادة الصورة الحقيقية لوجوده لا من خلال البطل والشهيد او الخائن بل من خلال الهارب من الحياة او الهارب من الاعدام والبطولة والشهادة او الخيانة..
– العودة الى الذات من هو هي ذاتها العودة الى الابن والزوجة والبيت والوطن بدواعي اعادة ترتيب الحياة لا بوصفها شظية من شظايا الموت بل بوصفها بيتا من بيوت الحياة والاسرة.
– التنازع المصيري بين (هو) من حيث لا معنى له و(هو) كونه ملفا تحركه ارادة السلطة وقناعة عند ابن باختلاف صورة الاب المناقض لسلسلة التصورات او الرغبات التي يريدها حلما لا يخرج به من معطف الحرب والموت ليعيده الى السلام والحياة.
– وان كانت السيارة/ الوطن.. مازالا على قيد من التقاعد والشهادة والتقوقع الاسن بمياه الحرب واجترارها الاثم بخطيئة الاجيال والسلطة الا ان الرغبة او الحلم او الامل يعقدون جميعا ثوب المغايرة. ثوب اعادة الحلم للذات والوطن من جديد لا تحت عنوان الحرب بل تحت عنوان الحياة.
لذلك هنا تعود الروح الانسانية الى الاب لا من خلال صورته في الملف او تصور الابن عنه بل من خلال تصوره لنفسه وهو يريد اعادة حياته والخروج من كل تلك الفوضى السوداء. يعود هو بوصفه الزوج الذي يبحث عن زوجته فيسأل:
هو: (للابن) وكيف هي أمك الآن؟
الابن: وما شأنك؟
هو: أنا زوجُها.
هذا السؤال سوف يرتد عليه بعدا واستهجانا لا بدواعي اختلال الصور لحال الوطن/ السيارة/ الاب/ السلطة/ البيت بل بدواعي ثبات حال الوطن/ الاب/ السيارة/ البيت من ثبات شكل الحرب كقيمة تعمل على ادارة وتوجيه كل شيء بما تفرضه من شكل عام لكل شيء. تلك الدواعي التي تؤطر كل شيء حاضرا ومستقبلا بصور ما وقع من ماضي الحرب اصلا قارا كقيمة عليا وحسب.
ويشتد الحرج أكثر حين يبلغ الحال بسؤال حاله: ايمكن ان يكون هذا وكل ما يجري تمثيلا لا حقيقة فيه ام حقيقة لا تمثيل فيها وان الوطن هو مركب حيران بين ذلك التأرجح الفنطازي الذي يبلع الحقيقة بوصفها تمثيلا مثلما يبع التمثيل بوصفه حقيقة. ولكي تنصر الحقيقة ما كان على الابن الا ان ينكر عودة الاب. ترك ملف التقاعد. كسر القيمة والمبدأ: قيمة الاب في صورته الاولى: البطل، الشهيد، الخائن، المعدوم، ثم بجبر الكسر على هيئة وصورة مفزعة تزحزح التركيب المعياري او القيمي للابن/ الوطن/ الاسرة/ الطريق/ السلطة..
هنا بقيت المسألة كلها عالقة من جهة ومتصادمة من جهة ثانية: عالقة لآن الرجوع الى الحياة من الموت بات أمرا منكرا طالما ان مبدأ ما تسمى به حياة الوطن بعد فقد الاب لعشرين سنة اصبح مصلحة يقتات عليها الابناء. ومتصادمة اذ ان صورة الاب بكل الاحوال لم تعد تلك الصورة القديمة لقد طرأ عليها المحو والتغيير في الملامح والتغيير في دواعي وجود الاب في الوطن/ البيت/ الاسرة/ السلطة..
الابن: (يرفع الملف) لا شيء يهمُّني الآن سوى هذا الملف!
هو: (بألم للابن) أنا أعدمُ الآن رمياً برصاصِ كلماتِكَ…
هكذا لا يمكن ان يكون الوطن الا دائرة لكل مواطنيه: دائرة الملف التي تجعل من كل معنى وكينونة لكل مواطن مجرد ملف على قارعة طريق محصور بين انتهاء صلاحية كل معنى او وجود وبين فاصلة الاحياء الذين يريدون بكل نسق جمعي لملم شتات الوطن ومواطنيه في بيت كبير اسمه: الشهداء..

&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح6: حرب الدقيقة السادسة
بقي (هو) لعشرين سنة يريد العودة الى (هو) الذي ازيح عنه ستار الحضور بفعل غبار الحروب والسلطة والايديولوجيا القاهرة التي عملت على تغيير وجهة الوطن من الابيض المتعدد الالوان الى الاسود الاحادي. بقي يحلم ببيته وأسرته مثلما كان يحلم بوطنه المتعدد الوانه. لكن ذلك الحلم الذي رمى نفسه اليه قيده بـ :
– سجن الخائن
– سجن المعدوم
– سجن الجبان
– سجن الشهيد
– سجن الهارب
هو دخل الحلم ولم يخرج منه: دخل حلمه الابيض فتاه في كوابيس الوطن السوداء. هو الان يريد لمعناه الحضور. يريد عودة حلمه ثانية وان كانت تلك الرحلة ما بين انطلاق فرس حلمه الاول وأمله بعودة حلمه الاخير والذي يحدث الان بدواعي مسرحية.. عودة الحلم المجروح بالموت والقهر والغربة والفقد والحزن.. ولما التقى بوطنه من حيث لقياه بالاستعارة الوطنية الكبرى: سيارة نقل الاحياء- الموتى والموتى – الاحياء وجرهم نحو منفى الشهادة.. الموت المفترض ان يكون سكنا وطنيا.
وبالمقابل يريد الابن ان يطلق صفارة حلمه: حلمه الذي صيّر الاب/ السلطة/ الوطن مجرد فايل يحمل بين طياته معادلة خطيرة: معادلة هجران المبدأ والسفر الى واحة المصالح الكبرى. ذلك الحلم الذي من شأنه لا ان يؤجل عودة الاب الى البيت بل عودة الوطن الى الوانه المتعددة وحياته المتنوعة بدلا من قرف النتيجة: نتيجة الطريق التي افضت الى حي الشهداء وبحلم ممروض جدا تديره هيئة التقاعد الوطني لكل مواطن لا حياة له في هذا الوطن.
ومن تناقض الحلمين: حلم الاب بالعودة الى بيته وحلم الابن بالخروج من بيته تظل معادلة الوطن مهجورة الوجود وتبقى ايديولوجيا السلطة شرحة بتحويل كل حلم الى كوابيس من الايتام والارامل ووحشة البيوت وطرق الموت التي ترسمها علامات الشهداء ذهابا وايابا. تظل معادلة طرد الاب قائمة عند الابناء. وتظل الارملة ارملة ويظل اللون الاسود سلطة وايديولوجيا قائمة من غير تعديل او أمل بتغيير.. ويظل الابن يحلم بنزع ثيابه من أبيه طالما ان الاب لم يكن حاضرا في حلمه داخل الملف الا بهيئة معدوم او شهيد او قتيل ومن الدرجة الاولى:
الابن: أبي الشهيد.
هو: (يصرخ بالابن) توقف أرجوك يا بني.
الابن: (لـ هو) بل توقف أنت عن هذه المهزلة ؟
هو: أنت من تريدني أن أصبحَ مهزلة وأنا ما زلتُ حياً.
الابن: عودتُكَ الى الحياةِ هي المهزلة.
هو: لم أعد لأنني أصلاً لم أرحل.
الابن: قل بأنك لست هو أرجوك!
هو: بل قل أنت.. بأن هذا ليس سوى تمثيل.
الابن: للأسف.. هذه هي الحقيقة.
هو: دعني أعانقك لدقيقة واحدة، نصف دقيقة، ربع…
الابن: لستُ مستعداً لعناقِك.
هو: أنا أبوك وحقك.
الابن: (يصيح) وعدتَ الآن بكُلِّ هذا البرود والهدوء أيها الأب…
هو: من أجل بيتي.
الابن: ميتاً.
هو: أنا حيٌّ كما ترى.
الابن: بيتُكَ هو الميت.
هو: هو أجملُ مكانٍ في الكون فكيف يموت.
الابن: إقرأ.. هذا ملفُ استشهادِك وإعدامِك أيها البطل.
هو: (يتصفح الملف، يضحك) أكاذيب.
اننا اليوم نعاني أكثر مما يعاني به وجودنا كمواطنين في وطن فقأت عينه وذاكرته الحروب، نحن نعاني من وجودنا الورقي الغبي الذي تديره ماكينة التقاعد فتضع وبطريقة الاعتباط الايديولوجي هذا الشهيد من الدرجة الاولى وذاك الشهيد من الدرجة العاشرة وهذا خائن وذاك معدوم وذاك هارب وهذا بطل وذاك جبان في مطحنة من الاحياء الشهداء ومن الشهداء الاحياء وبعناوين فارغة من كل تسمية الا اشارات الـ هو والـ هي والتي جميعها تمضي الى مهزلة وطنية كبرى.

&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح7: حرب الدقيقة السابعة
الحرب، كل حرب هي تلفاز كبير لصورة العدو الابد في النفس البشرية. تلفاز يبث كل ثانية صورا عن عدو النفس الذي يؤرق النفس وهما كان ام حقيقة وبالتالي وان انطفأت نيران الحرب الظاهرة تبقى مستعرة نيران الحرب الباطنة. تبقى تستعر ومن هول استعاراتها الداخلية ان تجعل الدول والافراد على غير اتزان من النفس او تدبر الامور.. وهذا اللا اتزان سوف يكون اشد على الدولة والافراد من كل حرب أخرى. انه تبعات ما بعد الحرب التي هي أضرى نارا واعمقها واطولها مدة واكثرها جحيما.
لا يمكن ان يرى الانسان نفسه على هيئة انسان ان لم ينزع نفسه وجه البطل الجامد والممسوح من كل ملامح ويلبس وجه الخائف. كذلك الوطن لكي يكون وطنا بلا فساد او قتلى او تدمير ودمار عليه ان يخاف. ان المدنية خوف انساني مما في الانسان من وحش قاهر ومما في الطبية من قوة متمردة. وبالتالي اننا نريد اعادة الخوف الينا لنعيد اوطاننا الينا ولنعيد اوطاننا الى جادة السلام والحياة ولفظها من بعد كل اشكال الكراهية والعزلة والتقوقع او الموت..
هو خائف: خوفه دليل انسانيته بل دليل وطنيته ولكن هذا الخوف الذي تحول لأسباب ايدولوجية الى خيانة او هروب هو ذاته الحلم الذي انكسر ومن خلال انكساره أحال الدولة والقيم الى نوازع سياسية مظلمة تؤرق حال الوطن والمواطنين كل وقت وتدمرهم على حد سواء.
انظر الحوار الآتي:
هو: أنا تعبت…
الابن: وستتعب أكثر.
هو: (للابن بهدوء) افرح، حاول أن تفرح بعودتي.
الابن: منذ صغري وأمي تحدّثني عن الجنّةِ التي تعيش فيها وأنهارُ الخمرِ التي تشرب منها، وليلاً تقصُّ عليَّ أحسن القصص عنك فأغفو على يديك ويديها، ولا أخفيك.. كانت تغارُ عليك من الحورِ العين أن تغويك وتأخذَك منها.
هو: لم أرغب أن أشربَ من أنهارِها ولبنِها دونكم، وعيناي طُبعت عليهما صورة أمك بفستانِ زفافها.. فكنت أرى الدنيا ليس فيها سوى بياضِ فستانِها.
الابن: (يرفع الملف) وهذا الملف؟ ماذا أفعل به الآن؟
هو: مزِّقهُ!
ان عودتنا الينا قد اتعبتنا كثيرا وان رحلتنا الى الحرب، الموت اتعبت اوطاننا كثيرا واستبدلت دولة الحياة بكل ما فيها ولها الى دولة الموت وبات سلوكيات الافراد و الجماعات كلها سلوكيات متشابهة وعلى لون واحد: متشابهة من حيث الرؤية ولونها واحد من حيث سواد وغشاوة الحقيقة والعيش بالموت بدلا من بياض الحقيقة والعيش بالحياة.
الفارق يتجلى أكثر من المقارنة بين دولتين او وجودين او حياتين او موتين يؤكد عليها الحوار الفائت من خلال:
– فرح الأب بالعودة الى الحياة / الوطن/ البيت يقابله انزعاج وحزن الابن بتلك العودة.
– رفض عودة الاب حيا وعلى قيد الحياة هو رفض لدولة ترى في الحياة وجودا انسانيا وابدالها بدولة الابن وهي على قيد الموت والتقاعد وجودا وسيرورة بقاء..
– الوهم البطولي الذي افقد الصدق من الخوف الانساني او الوطني. ذلك الوهم الذي جرّد الوطن واختزله بالموت او الشهادة او التقاعد..
– النظر الى الحياة بشكل غيبي: الجنة التي ينظر الى الاب ان يكون فيها بدلا من ان يكون في بيته والذكرى هي كل ما تجده الذاكرة الاسرية او الذاكرة الوطنية على حد واحد وبالتالي لا وجود للواقع بقدر ما يتمثل الواقع وهما اسود من الموت والعزلة والاختزال المقرف حد السواد والغثيان.
– الوطن/ الشهادة/ الاب/ البيت/… وصولا الى مبادئ تلك العناوين قد اصبحت مجرد ملف يباع ويشترى به ايديولوجيا وحسبما متغيرات السلطة.
وبسؤال الحلم الانساني والعودة الى الحياة يطلب الاب من الابن تمزيق ذلك الملف. تمزيق وطن الملفات والعودة الى وطن الامنيات والخوف والبيت.. العودة الى الوطن من غير موت بل العودة الى الحياة وحسب.. بسؤال: مزق الملف يخرج النداء من قعر الدقيقة الميتة والتي ركبها القرف من اختيار طريق الموت بدلا من طريق الحياة. يخرج نداء الأب وهو يدفع جيل ما بعد الحرب الى تمزيق ملف الحرب: ملف شكل وصورة الوطن التي رسمتها انياب الحرب وجعلتها مفرمة او طاحونة لئيمة تجتر حيوات الابناء بالموت والتقاعد المصيري.
انظر:
هو: أترغبني مقتولاً يا بني؟!
الابن: أرغبك شهيداً من الدرجة الأولى يا أبي حتى يكتمل هذا الملف (يشير الى الملف) وأستلم حقوق استشهادك، وأسكنُ بيتاً أفضل من هذا الخراب، وأحلمُ بأحلامٍ ورديةٍ أشتهيها وتأتي أنت في الوقتِ الضائع لتخرّب أحلامي بحجة أنك لم تستشهد!
هو: وتبيعني…؟
الابن: لا أعرفك.
هو: (يصيح) أنا أبوك.
الابن: الشهيد (يشير للملف) في هذا الملف فقط.
اعلنت النتائج هنا:
• الدولة للاموات لا للاحياء.
• الوطن مقبرة لا يعيش فيها الا ملفات الشهداء.
• الاب لا وجوده له في البيت او في الوطن انما الوطن هكذا يريد ان يكون خاليا من كل أب.
• طريق الدولة لا ينبغي ان تغير نفسها. تريد ان تبقى خطا يجتر عفنه المقيت بين هيئة التقاعد ومسكن الشهداء.

&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح8: حرب الدقيقة الثامنة
ولكي تأخذ المعادلة الغريبة صديقها في الواقع الدرامي او او الواقع الحقيقي لزم اعادة تنظيم الاسرة من حيث:
– هو يبقى هو لا معنى له ولا وجود له الا عبر دالة الملف.
– السيارة تبقى تتحرك ولكن من غير حركة مغايرة الا حركتها الاسنة بين التقاعد والشهادة.
– تبقى الارملة ارملة ولو تزوجت من بعد ذلك الف رجل طالما ان الرجل/ الاب لا معنى له بقدر ما لا وجود له في الدقائق العشر من الحرب التي كانت حالة وجود دائمة لا دقائق متغيرة ومندثرة..
– لما بقي هو على ما هو عليه وبقيت الارملة ارملة كما هي في كل دقائق من دقائق الحرب كان الافتراض الدرامي مثله مثل الافتراض الحقيقي لدولة او وطن الموتى والمقهورين حد التلاشي من الحياة ان تتزوج من هو بدواعي الافتراض واللعب الفني اكثر منه بدواعي تغيير الاحوال..
ومن متابعة الحدث التمثيلي في السيارة وعبر اللقاء الافتراضي بين الزوج/ الشهيد – الغائب مع الزوجة – الارملة الحاضرة عبر الحوار الاتي:
– الزوجة: أنت أم ظلّك هنا يا زوجي الشهيد ويا خيمةَ البيت.
– هو: أنا هنا بكاملِ خيمتي حياً.
– الزوجة: وأنا هنا بكاملِ خيبتي.
– هو: جئت من أجلِ دفئِك.
– الزوجة: أنا باررررررردة، باردة ، باردةٌ جداً، البردُ ينثرُ روحهُ في بيتنِا، في السريرُ، الكلماتُ، الستائر، النوافذ، الأبوابُ، الجداران، الأحلامُ، الانتظاراتُ، فساتيني التي كنتُ أرتديها من أجلك.. باردة، علبة ماكياجي تيبست من البرد…
– هو: أحملُ بقايا دفء من أجلك.
– الزوجة: لا يكفينا.. فدرجة برودة غيابك جعلتنا تحت الصفر.
سوف نلحظ حركة المصير الذي بدى عليه الوطن جراء ما ذهب اليه طريقا وحياة بوسيلة الحرب وذلك ما أراده نتيجة لهيكلة وطن جديد لا يمكن رؤيته والنظر اليه الا من خلال مسبار الموتى وانتهاء صلاحية وجود الاحياء، والاحياء/ الاوطان ( المساكن ) التي عنواناتها اموات: حي الشهداء. سوف ينكشف وجود البيت من خلال:
• الاب وهم أب ولا وجود له الا بصفة شهيد او مقتول..
• الابن يرفض وجود الاب الذي يمتلك معنى وحضورا ووجودا..
• الزوجة تداعب الزوج بوصفها ارملته وبوصفه شهيدا او قتيلا لا اكثر.
• البيت وهم بيت بل هو قبر مؤجل الكشف عنه لضرورة درامية لا أكثر.
• الاموات بالحروب والتعذيب او القهر الوطني اكثر دفئا من الاحياء بالحروب والتعذيب الوطني.
• ما الغزل بين الزوجين الا سخرية ميت من حي او حي من ميت في وطن لا حياة فيه..
• وراء كل حقيقة حرب حياة من التمثيل البائس والمخيف لأحياء واموات الوطن.
حتى هنا تلوح المفارقة المؤلمة لحبيبين غريبي وقريبين في آن واحد: غريبين ذلك لتفاوت الوجود بينهما فالحبيب من عالم السماء والحبيبة من عالم الارض. بل وبشكل اكثر تداول يمكننا ان نسمي الحبيب ابن الجنة والحبيبة ابنة وطن النار.. انظر
هو: أنا حبيبك…
(يتعانقان بقوة، ولكن الزوجة سرعان ما تدفعه صارخة به)
الزوجة: حبيبي؟ وماذا يفعل الحبيب في الدركِ الأسفلِ من عالمِنا وهو هناك في علِّيين مع الشهداء؟
هو: الدركُ الأسفلُ كان يسمّى عِشَّنا.
الزوجة: لم تجبْ على سؤالي.
هو: جئتُ من أجلِنا معاً.
الزوجة: معاً؟ زوجي الشهيد هنا؟!
هو: لست شهيداً ولا أريد إعادة هذا الشريط مرةً أخرى.
الزوجة: لا أفهمُ ما معنى أن تعود!
اذن، ما ذا يفعل الشهيد/ الحبيب في وطن كالجحيم وقد ترك وطنا من الجنة وماذا تفعل الحبيبة/ الارملة في وطن من الجحيم مع رجل من الجنة؟ هي سخرية الدقيقة الثامنة من كل حرب. سخرية الجنون التمثيلي الذي يوهم الحي بحبيب ميت ويوهم الميت بحبيب حي في لعبة يراد منها افشاء صورة الوطن بعد مرور بضعة دقائق من الحرب هي بضع عقود من التمثيل والوهم والضياع.
كل شيء يدفعنا الى تصديق: ان لا حقيقة بعد الحرب الا حقيقة التمثيل والغضب المر. كل شيء يدفعنا الى رؤية ما نمر به كأنه مسرحيتنا او امتدادنا المسرحي من الرفض والهجر والغياب والقهر والبيت المعدم من كل زوج.. لكن هذه المرة نورا في بيت الدمية لا تغلق الباب من أجل الحياة بل هي تغلقها من أجل التأسن في وطن الموت او بيت الموت والخراب..
انظر:
الزوجة: أعرفك شهيداً، دون ذلك لا أعرفك.
هو: (يصرخ بها) ماذا يجري هنا؟ كأنكِ ابنك…
الزوجة: هو لا يعرفك.
هو: لكنك حبيبتي؟
الزوجة: نورا الدميةُ التي تركتها في بيت الدمية وهربت دون أن تلتفت لها.
هو: إياك أن تصفقي الباب بوجهي، أو بوجهِ هذا العالم…
الزوجة: سأغلق الباب ورائي بغضب.

&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح9: حرب الدقيقة التاسعة
في الحرب ينتقل الناس ومعنى وجودهم من تمثيل وجود بدواعي الوهم من جهة الى اقتراح وجود ولعبة تبادل اوهام من جهة ثانية. وذلك الانتقال لا يمنع سواء كان التمثيل غير الموفق لمواطني الوطن احياء وامواتا ان يكون في لعبة من التمثيل ذاتها. لعبة قد تجعل الوطن مجرد ملف في محكمة المسرح الكبرى وأن أدوار المواطنين في ذلك المسرح والمسرحية مجرد هذاء لموتى يحتضرون في الحياة او أحياء يحتضرون في موات الوطن.
هنا تجري التحولات او الانتقالات ضمن اطار اللعبة: لعبة التمثيل المسرحي الذي ينعكس عبر تلك الانتقالات الى لعبة التمثيل الوطني. الامر الذي يجعلنا نلحظ حركة الملف في مؤشرات:
– لم يجد الشهيد وطنه بل لم يجد أسرته، بيته، عائلته، ولمّا تعب من تحقيق الوصل بهم شهيدا من غير شهادة. او أبا من غير أسرة او حيا من غير شهود حياة.. او مواطنا من غير وطن.. تعب من غيابه او انتقاله لعالم غير عالم وطنه الان. غير ما اتفقت عليه السلطة، سياسة او مجتمعا، في صياغة شكل الوطن بعد الحرب التي لم يخرجوا منها الا بدالة المكوث فيها..
– حلم الاب العائد الى وطنه او سلطته او أسرته يعد انتهاكا لقضية الوطن الان وطريقة ادارته. وبالتالي ان هذا الانتهاك يترتب عليه محاكمة كل حلم عائد او كل شهيد رافض لشهادته او معدوم هرب من مقصلة اعدامه رغبة منه بالعودة الى الوطن واحضان أسرته واحضان انسانيته التي طالما رغبة بالسلام بديلا عن كل حرب.
– ولكي يتم اثبات وجود الاحياء في وطن الاموات: الاحياء الذين يحلمون بوطن عوائلهم، الابناء والزيجات والبيوت ودفء العلاقة المترعة بحميم تلك اليوميات من الحب والعيش.. اقول لكي يتم ذلك ينبغي ان تحضر المحكمة ويحضر القاضي والخصوم والشهود وهنا كانت المحكمة على نحو:
• السلطة هي المحكمة وهي الشهود. الامر الذي جعل من السائق/ الايديولوجيا ان يكون بسيارته/ الوطن شاهدا على وقوع الموت: الشهادة/ الاعدام..
• الابن يتهم أباه بالخروج عن ملف الدولة/ الوطن الذي يؤكد موت الاب وبصفة شهيد لتلقي تعويضات مناسبة اجورا مالية تفيد مستقبله. وان كان هذا المستقبل على حساب وجود الاب وحياته.
• الزوجة لا تريد الا ان تبقى أرملة على قارعة طريق يختزل الوطن والبيت بشكل محصور بين تقاعد غبي وحي للشهداء أغبى.
• الكذب والتلفيق صورة المجتمع الكبرى التي من شأنها ان تؤرخ لوجوده في هذه الحرب المستعرة: حرب العشر دقائق. والتي تمتد حقيقة وتمثيلا الى خراب كل بيت او وطن في آن واحد.
انظر الحوار الاتي:
شاهد: أقسمُ لك بأنك أعدمت رمياً بالرصاص!
هو: وبعد ذلك؟
شاهد: استشهدت رحمك الله.
هو: وأين ذهبتُ بعدها.
شاهد: دفنوك في مكانٍ مجهولٍ كالعادة.
هو: وكيف خرجتُ من قبري؟
شاهد: ومن قال لك بأنك خرجت؟
هو: أنا هو…
شاهد: بل أنت لا شيء!
قضت المحكمة هنا: محكمة وطن الحرب لا السلام ان يكون هو/ الاب/ المعدوم الحي او الحي المعدوم بلا معنى وبلا شيء وبلا أسرة وبلا وجود وبلا حياة.. وعادت التهمة عليه مجددا: تهمة الحياة في ظل بيت وعائلة وهذه المرة بدلا من ان يرمى بالرصاص لغرض قتله رموه بالعدمية المفرطة من الوجود لغرض قتله.. هو لا شيء..
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
نقد العشر دقائق من الحرب المسرحية
ح10: حرب الدقيقة العاشرة ( الاخيرة )
تتجلى صور العقوق على مراتب:
– الابناء يعقون الاباء
– المواطنون يعقون اوطانهم
– الاحياء يعقون أمواتهم
لكن ان يعق الابن الحي أباه الشهيد/ الميت ذلك ما لم يألفه الوجود البشري تاريخا واجتماعا وأسرة.. بيد ان في الحرب وما بعدها تتناضح نشازات العقوق وصور الاستثناءات العجيبة ومن تلك الصور: الابن في الحياة ومن أجل الحياة: تلك الحياة المؤجلة لدواعي سياسية عن كل حياة ان يعق أباه الشهيد لا لشيء الا لكونه شهيدا من الدرجة الاخيرة التي من الممكن ان تتيح له تلك الدرجة العودة الى الحياة من بعد طريق أمضاها في الموت فيعق الابن ولا يريد من أبيه حياة بل يريد منه فقط مماتا ليمنحه تقاعدا من استثمار تلك الفرصة على بضع دنانير بلا وطن او كرامة وجود.. هي بضعة دنانير لا أكثر بيع فيها الشهداء الاباء بثمن تقاعد موتى لا أكثر..
انظر:
الابن: (بحزم) والآن.. ماذا تريد؟
هو: وماذا يمكن أن يريدَه الشهداء؟!
الابن: لا شيء…
هو: (بخيبة) نعم.. لا شيء لا شيء لا شيء…
هنا انقلبت الطريق: الشهداء الذين منحو الحياة كل شيء وليكون الوطن عامرا بكل شيء تم منحهم اكراما عن كل تلك التضحيات بالنفس والعمر والمصير بلا شيء. لا وجود او أسرة او وطن او حتى مقبرة او طريق يدركوا به نهايتهم وان كانت تلك النهاية فاجعة موقف يدين الشهداء لا يكرمهم. يدينهم لانهم لم يكونوا من درجة مثلى ينتفع بها الابناء عن تقاعد بخس بضع دنانير ممزقة الوجه والوطن..
هنا اشتد العقوق أكثر اذ نزلت الزوجة بوصفها ارملة ولم تنزل الزوجة بوصفها الحبيبة لذلك الشهيد الحي. نزلت وهي تمثل دور المرأة التي نسيت شريكها في الحياة، في البيت، في العائلة، في الوطن. نسيت الخيمة. نسيت الفراش والحب. نسيت نفسها اذ نسيت قيمة الشهيد زوجا من اجل الحياة لا زوجا من أجل الممات. نسيت ذلك ولم تكن ممثلة تماهت في دور نورا كما في مسرحية ابسن: بيت الدمية ولم تصفق بابا او تلعن طريق او حياة بل نزلت وهي مستلبة تماما لسلطة الواقع: الميتا واقع والذي انكسر فيه نصل القيم وتحول ما هو مبدأ عال الى منفعة رخيصة تلتف بعباءة الاحزان والموت.
انظر الحوار الاتي:
سائق الكيّا (للابن) متى تنزل أنت من سيارتي فقد مللتُ من تمثِيلك!
الابن: (يصيح) للأسف.. هذه هي الحقيقة.
هو: (مع نفسه) هل يمكن أن أكونَ قد استشهدت فعلا؟ (يتحسس جسده) واخترقت جسدي الرصاصات؟ أيمكن أن أكونَ رحمهُ الله؟ لا أدري أين أنا الآن؟ في أيَّةِ حياةٍ؟ أيَّةِ محطّةٍ؟ ولا أدري أين يمكنُ أن أنزلَ وقد أخذتني هذه السيارة بمحركِها العاطلِ عن الحياة الى مكانٍ لا أعرِفُني فيه؟ (يتحسس جسمه، يصرخ) الشهيدُ الذي يعيشُ في داخلي يدعوني أن أظلَّ هكذا بعيداً عن القلبِ الذي ما زالَ ينبضُ ويصرخُ أن أكونَ، الشهيدُ في روحي يدعوني الدخول الى جنّتهِ، ويريدني أن أعيشَ شهيداً في حي الشهداء وحياً متقاعداً مع نفسي (يخرج رأسه من نافذة السيارة، يصيح في فضاء الشارع) سأظل حياً أنبض بالحب لتلك الأمكنة التي أعشق كُلّ شبرٍ منها، وسأظلُّ وفياً رُغم الجفاء الذي يحيط بي، أنا حيٌّ من الدرجة الأولى، أنا حيٌّ، حي.. والشهيدُ العاشقُ في تفاصيلي سيأخذني الى وطنٍ جميلٍ أحبُّ كُلّ ذكرياتي فيه، الوطن الذي يغفو في ذاكرتي، وسأبتعد عن هذا الزيف أو المهزلة، نعم إنها المهزلة…
تجلت الان الحقيقة: ان طرد الابناء الاحياء للآباء الشهداء يعد طردا في الدقائق العشر وهي تدور حول نفسها من أجل شنق قيمتها في الحياة والوطن والمبدأ. شنق مصير القتلى من الحروب مرة بعد مرة من قبل الاسرة والوطن على حد سواء. ولن يكون الشك بوجودهم الا يقينا بهجرهم وطردهم ثانية وثالثة من وجود وطني ابدل قيمه كلها بما يضادد حياته وسلامه كله.
انتهى كل شيء رحلت الارملة/ الزوجة الحبيبة. رحل الابن الحبيب. رحلوا غير معترفين بحياة الشهيد. كلاهما لم يتقبل عودة الحياة. عودة الاب. عودة البيت.. وصولا الى عودة الوطن لا بدواعي موت الوطن لكن بدواعي حياة الوطن. انتهى كل شيء وما على السائق الا ان يعلن انتها المراد بالوصول الى حي الشهداء وما على الشهيد الراكب تحت عنوان: هو، الزوج، الاب الا ان ينزل ويسكن في حي الشهداء كما نزل الجميع احياء وامواتا ليسكنوا فيه لكنه رفض ذلك. رفض النزول واختار ان يبقى هو مجهول المعنى والشهادة ولكن معلوم الحلم بوطن يستقبل اباءه ولم من بعد قتل او موت..
انظر:
سائق الكيّا: (يصرخ) أين ستنزل………….. أيها الشهيد ؟!
هو: (يغلق باب السيارة) لن أنزل في حي الشهداء! أعدني لنفسِ المكان الذي صعدتُ منه…!

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار