الثقافية

سيكولوجيه انتاج الصورة الجمالية في الإخراج المسرحي

الأستاذ الدكتور حسين التكمه جي:

. تعتبر الصورة بجل تصانيفها هي موضوع الحدس الجمالي , يستدعي الفنان المبدع على وفقها صياغة آليات التعبير , بوصفها أما انعكاس للواقع وإما انعكاس سيكولوجي للذات المبدعة داخليا إذ أنها وسيلة التعبير القصدية عن مكنونات الأرق السيكولوجي لاستنهاض الفكرة , ويعد التعبير في علم النفس مدخلا للدلالة عن الجمال لأي مسرحي وفني , حينما تنشأ تلك العلاقة وجدانيا بين الذات المبدعة والموضوع المؤرق للذات إذ ذاك يعد مظهرا من مظاهر التحكم في طرح الفنان لعمله .
فالذات بطبيعتها الحسية تكشف عن مكنوناتها على وفق ذلك التفرد الذي يستدعي قيام وتفسير المنجز الإبداعي , منطلقا من الحافز الجمالي المساهم والمكتنز في اللاشعور بوصفه الدافع الذي يثري بدوره ثراء الصورة , وعليه فإن الصورة الجمالية للعرض المسرحي تستدعي العديد من المرجعيات الساندة للمخرج للولوج نحو انتاجها الفني بعيدا عن نكوصها وضبابيتها مستنبطا الفكرة من بين طياتها , انما يلزم الأمر بالضرورة ان تكون مكتنزة بمرجعيات الذهن المنفذ لماهياتها وارتباطاتها التشكيلية والبنائية والفنية والفلسفية والدلالية والعلاماتية ايغالا في بناء افعالها الحركية والسمعية والبصرية في نسق منسجم يدفع بها نحو الابتداع الجمالي , فصناعة الجمال يندرج في ملكة التعبير والاحساس السيكولوجي لكل من المبدع والمتلقي على حد سواء

وتشير الدراسات السيكولوجية بأن مركز تكوين الصورة للمخرج ولأي فنان هو الذاكرة ,كونها تستقبل المعلومات من البيئة المحيطة بوساطة مستقبلات الفرد الحسية كمدخلات تسري بها نحو المخ, وتعد الذاكرة المسؤولة عن تسجيل الانطباعات والصور والأحاسيس فضلا عن حفظها ثم إعادة استرجاعها , وعلى وفق تراكم الخبرات والخزين المعرفي المحض في الذاكرة طويلة الأمد بما تحيط به وتنزوي عليه من أفكار وميول واتجاهات وسلوك وتصورات وصور تراكمت في ذهن المبدع طيلة حياته , وعن طريق الأعصاب الحسية شديدة الانعكاس التي تقوم بدور سريان وتدفق تلكم المعلومات والصور الى المخ بصيغة عقلية متعالية بحسب نظرية ( التكوين العرضي ) والتي تنهض على ثلاث محاور .
-:الترميز ( encoding) . الذي يفسر المعلومات ويرمزها بوصفها نتائج معرفية للخبرة ويهيئها الى التخزين .
التخزين -: (storages ) أي حفظها في مخزن الذاكرة طويلة الأمد وتلك هي استراتيجية الدماغ او الذاكرة .
الاستعداد والاسترداد -: وهي لحظة الإبداع الفكري لإيضاح الصورة البصرية بعد استردادها وفحصها وتمحيصها واتخاذ قرار بشأنها معتمدة على شروط الرؤية الجمالية
ولا يقوم هذا الامر إلا عن طريق المنبه الحسي للفكرة لكونه يترك انطباع شديد الحساسية
( خيال خصب ) يتلاطم مع مخرجات التخزين متمما تفكيكها وتركيبها مستظهرا منه الخزين غير المرئي مستغرقا مقدارا طويلا من الزمن لا يستهان به , فالعملية برمتها تبدأ بالأدراك الحسي وتنتهي بالأدراك الذهني ( العقل ) وهو ما يؤكده ( كانت ) في كتابة ( نقد العقل المحض ) .
فالاستدعاء هنا هو استحضار الماضي والحاضر في صور متعددة ( الفاظ ,حركات , صور دلالية ) كما نسترجع بيت من قصيدة أو حادثة قديمة , اذ يمكن القول انها بمثابة جهاز تسجيل او شريط سينمائي يتحرك داخلنا تكتنفه المناظر والأصوات والأضواء والأفكار والرؤى . وإن الخيال المولد كما يقدم له ( كانت وكولد رج ) حينما يعرفه بالتصور بوصفه الرابط بين الأدراك الحسي والفهم في عملية تفكير طويل ومتسلسل لحيثيات الصورة مثله كمثل الجسر الذي يربط عالم الفكر بعالم الأشياء .
مما يدفعنا للقول بان تجليات الصورة تكتنفها الصعوبة من حيث أن الجمال الصوري يسعى جاهدا لجعلها تسمو نحو المقولات المتسامية . فهي حين إذ توصف بأنها ( صورة مجردة ) في ذاكرة المخرج , يسعى المخرج لمداولة إنتاجها ماديا على الخشبة من حيث انها تعد خلاصة مضمون التجربة سعيا لتحقق الجمال , ويرى ( فرويد ) أن هذا الاستدعاء ثم الاستدعاء ما هو سوى صراع داخلي يتجلى في المصالحة بين الذاتين العليا والسفلى لدى الفنان , ذلك لأنها تستجمع قدر كبير من المادة المجسدة لجميع عناصر العرض حتى لتبدو شاخصة للعيان , كون الذي يساهم في انتاجها هي قوى الدافعية بدءا من ظهور شحنة انفعالية ( شرارة , قدحة , صفر جمالي ) وصولا حتى اكتمالها المادي , وذلك ما يعرف بالاستبصار بوصفه استراتيجية المواجهة مع المادة والأدوات لتنفيذ العمل الأبداع , وربما تتأتى على وفق نظرية الألهام الأفلاطوني حينما يدنو المخرج من الفكرة والتيمة والتي تشعره بالوصول الى غايته لمرحلة الاكتمال .
وذلك ما توفره العناصر الأساسية الساندة للموضوع والفكرة معا , المؤدي بأدواته المعرفية وحركاته التفعيلية وازياءه الدلالية وعلاماته المعرفية واضاءته الرمزية وموسيقاه ومؤثراته التعبيرية ومناظره البيئية , وكأن المخرج يستجمع قدراته الحسية والذهنية لصبها في قالب تكويني مماثل للفكرة , مستنبطا المعنى ومعرفا بالدلالة والعلامة وساعيا لخلق الدهشة في هذا الجمال , انه في الحقيقة فعل حيوي يتم من خلاله انتقاء الصورة من بين ملاين الصور الراكدة في المخيلة بحيث يستدعيها بعملية انتقاء دقيقة تستوفي حضور المعنى وتوكيد الجمال والسمو والرفعة , ذلك ان الجميل حقا هو كل ما ينطوي علية الشكل والمضمون دفعة واحدة , فالصورة في كينونتها باعثة على مبدأ اللذة أو مثيرة في مرآها . وهو ما يدفع ( جورج سانتيانا ) للقول بان الصورة تنسيق من الطاقة المخزونة لا افتعال فيها ولا تصنع, وترى الدراسات الفلسفية بانه عندما تترجم الفكرة الى صورة في حالتي الاستعارة والرمز ستنفجر الفكرة بكل بساطة , فإذا كان لسلسلة من الكلمات لها معنى فإن مقطعا من الصورة له الف معنى .

المصادر
اميرة حلمي مطر ,فلسفة الجمال و القاهرة ,دار المعارف , 1974.
جيروم ستونليتز , النقد الفني ,تر , فؤاد زكريا , جامعة عين شمس و 1974.
جورج سانتيانا , الاحساس بالجمال , تر محمد مصطفى , القاهرة , الانجلو المصرية , ب ت .
جعفر الشكرجي , الفن والخلاق في علم الجمال , عمان , دار حوران , ب ت .
فاضل الأزيرجاوي , أسس علم النفس التربوي , جامعة الموصل , 1991 .
هيجل , المدخل الى علم الجمال , تر جورج طرابيشي , دار الطليعة , بت .

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار