مقالات

أو تعشق.. طيور الحباري

((وان_بغداد))
بقلم جميلة الخزاعي:
ما بال طيور الحباري هائمة، واي عشقاً مجنون اعتراها فجعلها ترفرف بكلتا جناحيها بقوة حتى كادت تمزقَ، كأنها فقدت حبيباً لها، ذلك الحبيب الذي بهرها منذ اللّقاء الأول عندما ذهب لاصطيادها فأصاب الحب قلبها وتسلّل داخلها دون أن تشعر، وكأنّها فجأة تكتشف أنّه هو الهواء الذي تتنفس، فهي لا تكاد تفارق سواتر المجاهدين منذ ارتقاء حبيبها الشهيد المجاهد “حسين عطية” في قاطع سامراء مع ثلة من مجاهدي سرايا السلام، أو تعشق وتعتريها المشاعر الجياشة اسوةً بالبشر؟!
– اخي سلام، ما بالك شارد الذهن، وانت تنظر لهذه الطيور في سواترنا ؟ كم مرة ناديت باسمك، ولكن لا حياة لمن انادي، لطفاً بنا ايها المراسل الحربي الجميل.
انتاب سلام شعور بالتفاؤل والعزيمة، وقد غطى وجهة ابتسامة عريضة امتزجت بدموع عالقة تتلألأ في عيناه الطفولية البريئة، رد وهو يدقق النظر بصور كان قد التقطها منذ زمن ليس ببعيد مخزونة في كامرته العتيقة التي كان قد اشتراها بالية ومستهلكة لأنه لا يملك ثمن الجديدة منها، ومادامت تفي بالغرض فلا ضير.
– اهلا أخي المجاهد سجاد، لم اسمعك عذراً، فعندما يرحل من نحب فانه يستعمر قلوبنا الى الابد؟، انظر لهذه الطيور تحلق فوق سواترنا وهي في تزايد مستمر رغم انها في بلدان اخرى تخضع للأسر لحمايتها من الانقراض، هل تعتقد ان الطيور ممكن ان تعشق كالبشر ويكون للمجاهدين نصيباً كبيراً من هذا العشق لانهم ايضا عاشقين لوطنهم وعقيدتهم.
قال بلهجه لم تخل من أسى وتعجب!
– يا الهي، ماذا دهاك اليوم، اراك عاشقاً وهائماَ ليس كعادتك، فلو أنّ الحب كلمات تكتب لانتهت الأقلام يا صديقي، لكنّه أرواح توهب من اجل من نحب والحب لا يشمل الحبيب فقط بل الوطن والدين والاهل والاصدقاء، ثم بالله عليك ما قصة طيور الحباري هذه وتوافدها أعلى سواترنا بعد استشهاد القائد حسين عطية؟ وما رايك أن نصطاد بعضاً منها.
ابتسم سلام ابتسامة عريضة كاشفاً عن أسنانه البيضاء المتباعدة ، تأمل وجه صديقه قائلاً بصوت أجش وبلغته الدارجة
– ربك ميقبل نصيده!!
انتاب سجاد شعور غريب لم يعهده يوماً، وبدا يتمتم مع نفسه بشي من التعجب والحذر فلم يعهد صديقة يتحدث هكذا منذ عرفه، فكانا معاً على مقاعد دراسة الطفولة، ولم يفارقه يوما، كانا كالتؤام حتى لدى التحاقهم للدفاع عن المقدسات لم يفترقا ابدا ، سكت هنيهة ثم استطرد قائلاً
– ما هذا الكلام المبهم، ان لحمه لذيذ وهو طير مرتفع الثمن واصطياده يعطينا الإحساس بالفخر والنصر فهو من الطيور الجميلة والنادرة ولا اعتقد ان هناك حرمة في اصطياده ( قالها مبتسماً)، انها فرصة جيدة للصيد .
انساب سيل جارف من الدموع ملئت وجه سلام بينما جلس صديقه سجاد بجانبه مستغرباً من حال صديقه الذي عرف عنه الهدوء والصمت، نهضا ببطيء وكأنهما في خريف العمر، وبدا بإزالة الاتربة العالقة عن ملابسهم الجهادية التي طرزت بعلم العراق في موضع صدرهما ذات التماس المباشر مع قلوبهم الصغيرة النقية التي لم تعرف سوء البراءة والود، سارا بهدوء لولا صوت الحصى المنسحق تحت اقدامهم، نظر سلام نظرة جادة وحزينة في ان واحد قائلاً
– فلندع الطيور تحلق بأمان يا صديقي .
قاطعه بصوته الغليظ وبقوة
– عجباً يا صديقي، واين لهن معرفة ذلك، كلامك غير منطقي، انا في حيرة من امري، هل هناك سرا تخفيه عني، تكلم، لماذا هذه الالغاز .
رد بلهجة ملؤها الحزن ودقق النظر في وجه صديقه قائلاً
– سأقصص عليك حكاية هذه الطيور.
كانت نسائم خفيفة تهب من جهة الشمال فيتطاير معها شعرهما الناعم كما يتطاير ريش الحمام مع سعف نخيل العراق الشامخ. قاطعه بحدة
– ومنذ متى كانت للطيور قصصاً وحكايات .
نظر سلام الى صديقه نظرة عتاب واردف
– في احد الايام في هذا الساتر، وبعد ان انهينا واجبنا الجهادي كانت لدينا فسحة استراحة، فقررنا جميعاً الذهاب لاصطياد طيور الحباري برفقة الشهيد حسين عطية الساعدي رحمه الله تعالى، فهو كان على اطلاع بمكان تواجدهن وكيفية اصطيادهن، وتمنينا في ذلك اليوم ان تكون هذه الطيور وجبة عشاء لنا، فذهبنا معاً الى الصيد ووصلنا المكان المقصود .
ابتسم وتودد خجلاً فبادره بسرعة
– رحمه الله كان انسان نبيل، ومقاتل شجاع ومن يرى هيئته وبساطته لا يصدق انه كان قائدا، فقد تجسدت القيادة في بساطته وتواضعه وهذا حال معظم مجاهدينا في التواضع… وعندما ذهبتم للصيد ماذا حصل ؟
صمت قليلاً ادار عينه صوب ساتر الشهيد قائلاً
– حمل الشهيد سلاح الصيد، وكان سلاحاً مجرباً وعلى درجة كبيرة من الفعالية، بعدها بقليل وصلنا مكان تواجدها، وما ان راتنا الطيور ندنو منها حتى حلقت عاليا خائفة ومذعورة، حيث انتفضت بقوة، حاول الشهيد حسين اصابت احدها ولكن شاءت ارادة الله تعالى ان يصاب سلاحه بالعطل المفاجئ، وابت الرصاصة الخروج منه، فقد حشرت رغم انه قد اختبرها اكثر من مرة، فوضع يده على كتفي وقال مبتسماً “ربك ما يقبل”.
قاطعه سجاد برفق، وهو ينظر الى السماء التي امتلأت حينها بالغيوم المتفرقة، والتي تشكلت على هيئة طيور بيضاء تحلق في السماء بأمان، دون أي عراقيل في مسيرها وكأن السماء وجدت من اجلها فقط، وبأشكال واحجام مختلفة في منظر جذاب.
– سبحان الله .. الله تعالى لا يريد للشهيد حسين ان يقتل حتى الحيوانات، كي يبقى طاهراً بينما اهداه واجباً جهادياً ليقتص بيديه من الاعداء الخوارج والذي يعتبر قتالهم واجبا مقدساً، هنيئا له الشهادة، وماذا حصل بعد ذلك يا أخي ؟
بادره بثقة ويقين
– رحمه الله، كان يمتلك قلباَ كبيراً يحب الجميع ولا يؤذي حتى النملة التي تعترض طريقه، فقد كان الساتر منزله الذي لم يفارقه يوماً، فهو ذاق اليتم منذ كان عمره ثلاث سنوات فلا ام لديه ولا اب ولا زوجه ، فكان الله تعالى رفيقه المخلص الذي لم يخذله يوماً، والمجاهدين اهله وكل حياته والذي رفض فراقهم الى أن زف الى الشهادة مخضباً”. انتهى

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار