الثقافية

الافق الجمالي بين التراث والمعاصرة “الاستعادة ” في رسوم التشكيلية فوزية ضيف الله

بقلم الدكتور حازم السعيدي

تبادلا المكان وتبادلا الزمان ذلكما التراث والمعاصرة خاصيتان متلازمتان في اعمال التشكيلية (فوزية ضيف الله ) راحتا بكل حين تتلازمان وترتبطان بسكنات اليقظة وسباتها بوصفهما اتجاه ذهبت الى اختباره وكشف اسراره , فكثرما تحدثت لوحاتها عن صور تونسية مغيبة , اذ اكدت مكانيتها وموضوعيتها التي تذكرنا بعتاقة واصالة ماترسمه وتوثقه ريشتها اللونية فهي تفتح الابواب امام ناظري متابعيها ومتلقيها في المعرفة النقدية بالامس المنصرم وذلك لما توليه من اهتمام بعادات وتقاليد البلد وهو يؤكد هويته الوطنية , وتعد (ضيف الله ) من التشكيليات الملتزمات اللائي حافظن على مسيرة الفن وفقا لقيمه الرصينة وهي بذلك تبحث عن مفقودات طالما بينها التباين في عالمين مختلفين من الحداثة والكلاسيكيا التي اولتهما اهمية في الانطباعية والتعبيرية وتؤكد بكل ثقة على تنمية المخيلة وتحفيزها ابان ما تشهده الحياة من ضياع لموروثها وهي تثبت بالتالي هويتها العصامية لا جل الحفاظ على الارث الحضاري لمدن تونس الخضراء والتي تخشى عليها الضياع لذا دونت بريشتها المعطاءة لوحات تحدثت عن (صانع السلال , صانعة الخبز , بائع السمك , ازقة الحارة , ربة المنزل ,نساء على البئر,المؤانسة …ونحوها ..) بوصفها نصوصا تحريرية لا شفاهية تندرس مع سباق شيخوختنا ,لقد رسمت ذكريات الطفولة في المكان لانه الحيز الاكثر تأثيرا فينا , نشاركه لغة الزمن والحقب والعصور فالذي يبقى هو الزمن المعيش وطبيعة الالفة التي كيفت المكان لتسرية الحياة “حسب ما نقله الفيلسوف باشلار”.

تأويلية اليومي ..معرض يحاكي يومياتنا البسيطة في المحلة ويؤكد حيوية الامكنة بجدارنها وهوائها وسماءها ونكهتها كونه متعلق بما ندونه ويمنحنا قوة التعامل معه ,يستعيد خصوصية المأكل والمشرب وخصوصية الازياء بل وحتى خصوصية المرويات من القصص التي رواها اسلافنا , من هنا لجأت (ضيف الله) الى الاستعادة في بنيتها فتمكنت من الابتكار في الامكنة وبحثت عن اصالتها وكينونتها المفقودة بسبب ما داهمها من طارىء افقدها لذتها انها العولمة التي طمست سلاستها وبساطتها , لذا ماكان للفن ان يخبو ولا للفنان ان يصمت تجاهها ويبتعد عن هجرة الريف الى المدينة ,لا سيما ان البيئة الاجتماعية كانت حاضرة في رسوم (ضيف الله) في اتجاه “الفكر والرؤى والشخوص” و تنوعت في وحدة الموضوع بعد استقرائها له مبينة دلالاتها في المراقبة والاستنتاج ورصدت بكل دقة ملامح الوجوه والعيون والحركات والوشم ..التي راحت الى استهدافها , حقا لقد عزفت على اوتار احاسيسنا وتنقلت بين رحبات ذلك التنوع في الموضوع الذي حمل انفرادية (التراث) وما يحسب اليها انا حركت فينا جوانب اداتية في تلقي النص التراثي الا وهو الوجدان بوصفه رديف للزمان والمكان , وبذلك احالته الى علاقة اسمتها بالممارسات اليومية كرد فعل استنطق الاحداث وساقها الى عالم الخيال ليس بالافتراضي ولا الواقعي وانما هو التجول في الامس , ورب من يتسائل عن اهمية نقل النص التراثي في الزمان فتجيبه (ضيف الله) اذا لم نحتضن التاريخ المحلي وظواهره بوعي تام نكون كمن اقتلع جذوره وترك شجرة بستانه عطشة بلا ماء .

مما تقدم ان التشكيلية (فوزية ضيف الله) لم تغفل عن شىء في تشكيل مصوراتها التعبيرية فهي اتخذت جوانب عناصر التكوين الفني وتميزت بطبيعة الحال بالانشاء التصويري والانسجام والمنظور والتوازن وغيرها حيث كانت جلها حاضرة بعد اهتمامها بالدلالة المعنوية التي تحمل بلا شك العديد من القيم الانسانية والاخلاقية المقترنة بالعناصر تحديدا , لو تأمل المتلقي بعض من جوانب لوحاتها التعبيرية وعلى سبيل المثال انموذج (فتاة) لتبين للمتلقي ان اللوحة شغلت على اساس الموديل اولا وبالوان نقية كادت تختصر على اربع (الاخضر الشذري والاحمر والاصفر والاسود ) وما يميزها زاوية النظر (الالتفاتة ) نحو يمين الناظر , اذ تشكل العمة (لباس الرأس) الزي البلدي لفافة اعتمرتها الفتاة على اساس غطاء اعلى الرأس والشعر يتدلى بعضه على مؤخرة الكتف الايمن للفتاة , نفذ الغطاء بتقنية ترجع الى اعراف وتقاليد بيئته, وهذا بحد ذاته يعد موروثا , وتظهر من اسفل اللفافة جوانب استرسال شعر الفتاة المتجدل والمكذل فوق الجبهة , ترتدي الفتاة اقراط دائرية الشكل في نهاياتها المتدلية عدد من الكرات الصغيرة في اشارة الى المصوغات الشخصية والمحببة لدى النساء , وان مايميز الوجه وجود الحاجبان السميكان والوشم فوق الوجنتين واسفل الحنك , في حين ظهر اللون الاصفر في بعض من لباس الكتف ورداء احمر اللون طرز بتشكيلات افقية لوحدات معينة .

لقد نهلت (ضيف الله) من مدارس التشكيل الا انها ركزت بشكل تام على الفعل الانطباعي التعبيري وهي بذلك تحيي الجمال في الفن ضمن المنطق العقلاني تعالج موديلاتها بادراك تعبيري استطيقي مستخدمة الالوان الطبيعية والمألوفة , لا تخرج عليها من اجل التوصل الى الاسلوب على الرغم من اتجاهها الحديث وتأثرها بالحداثة التي تؤمن بعدم ثبوت الاشياء والوانها , بمعنى انها تكسب تجربتها الفنية تلك الواقعية الموضوعية ,وبالتالي تمارس الرسم بنزعة عاطفية ذات معايير فلسفية تتجاور وحقيقة الانفعال الذي تشعر فيه مما شكل لها بلورة فكرة الارث الفني وضرورة ادامة الصلة بين عالمي الامس واليوم وبلورة العمق الحقيقي للموضوعات ونقلها من بواطنها الى وقائعها .

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار