الثقافيةمقالات

إشكالية مفهوم المشهد المسرحي مطارحة في التجنيس والخطاب (الحلقة الأولى)

د. جبار صبري

وضعتنا ممرات صناعة المشهد المسرحي منذ اولى صناعات النص المسرحي مقابل الكيف الذي تمرّ به عناصر ذلك المشهد والوجه الفلسفي الذي سيؤشر بتعاليه لرسم قابليات اداء المشهد في محاضن النص المسرحي برمته. وهذه الممرات كانت عرضة لتبدل انموذجها من حالة إلى حالة ومن شكل الى شكل حسبما معطيات العصر من جهة، وحسبما معطيات الخطاب الفلسفي المتشاكل مع معطيات ذلك العصر من جهة ثانية.

ولمّا كانت الخطابات الفلسفية بكلياتها مجالا للمغايرة والانقلاب وتغايرا واضحا في تشكيلاتها من مرحلة الى مرحلة فقد انعكست تلكم المجالات على الحقول المتأثرة بها، مثل: الادب، الفن، السياسة، الاجتماع..وهذا الانعكاس المباشر او غير المباشر افضى الى الكيف الذي عن طريقه يتم تشكيل او بناء المشهد المسرحي بعدما يخضع الى اشتراطات فكرية تعطي الدوافع والآليات لتحقيق ذلك البناء.

ان بنية المشهد ترتبط مباشرة بصياغة المفهوم المتوفر في الزمان والمكان. هذه البنية التي تتراءى في العرض المسرحي مفادها ترسيمات قبلية قد أطرتها المفاهيم التي تأكدت كنزعة قيمية تأطر بها العصر.

من هنا يمكن التدليل ان مفهوم المشهد المسرحي يستقصى لأجل الفهم والمعرفة حينما يبلغ درجة من التجنيس المناسبة التي جاءت من فواعل الخطاب الفلسفي المتعالي. ويكون هذا التدليل قد تساوق من حيث امكانات التفكير والفهم الى حيث امكانات الاداء والفعل.

لقد زرعت الميتافيزيقا اجناسوية المشهد المسرحي بنماذج تفكيرها وانماط ادائية تلكم الافكار في تحاكي الواقع وطرائق اشتغاله فنا مسرحيا، وكذلك فعلت الحداثة فعلتها حين وضعت نفسها موضع الخطاب المتعالي الذي يتغلغل في الخطاب المسرحي وينسحب آليا في تكوينات المشهد المسرحي وتصنيع افهومه الخاص به، وأيضا جاءت مشاريع ما بعد الحداثة لتعبّد الطريق وللأسباب نفسها بما يتناسب وإشكالات التجنيس للمشهد المسرحي وتصميم الخطاب الحاضن لذلك التجنيس.

إذن، كيف يمكن أن نرصد افهوم المشهد المسرحي في المجالات الناتجة عن مغايرات الخطابات الفلسفية واستقعاد تلك الفواعل الفكرية كتجنيس يتحقق داخل فضاءات المشهد المسرحي؟ ذلك على وفق إمكانيات فضّ مشكل الافهوم المشهدي الذي ينقلب من مرحلة الى مرحلة ليضع خطوطه التجنيسية بوضوح قدّام المشتغلين بصناعته لتأطرته بوقائع فلسفية تضفي عليه قوالب المرحلة.

يهدف البحث الى:

1 – الكشف عن أفهوم المشهد المسرحي في فواعل الخطابات الفلسفية المتعالية والمتغايرة بين مرحلة واخرى.

ستراتيجية أفهوم المشهد المسرحي / انقلاب مواضعة

لم يخرج المشهد المسرحي من موضعته التي أطرها أرسطو في عناصره الستة، ذلك لأن المشهد المسرحي هو انموذج مصغّر لكلية النص/العرض على حد سواء. ان المشهد معادل شكلي او موضوعي للعرض/النص، وانه يشكل جزء من العرض المسرحي لكن هذا الجزء يمكن ان يكون كلّا من حيث بنيته وانظمة تراكيبه عن طريق الاستعاضة النموذجية.

لقد إن وجدت في صناعة المشهد المسرحي انموذجات مذهبية وتيارات فلسفية مختلفة. لكنها لم تكن الا مداخل نظرية عليا لترسيم الحدود في اطار معطيات الفلسفة المتعالية التي تقود النظام الكوني وصولا الى قيادة النظام المسرحي. وهذه الانموذجات المذهبية والتيارات لم تنقص او تزيد على المكونات الاصلية التي يعتمدها المشهد في بنائه وتركيبه. ان تكويناته بقيت كما هي محاطة بثبات التجنيس الذي انطوى عليه:النص/ العرض المسرحي.

ان الكلاسيكية، الرومانسية، الواقعية، التعبيرية، العبث، الملحمي، الصورة.. مذاهب وتيارات مختلفة. بيد انها جميعا لم تلغ عنصرا من عناصر مركبات العرض، ولم تزد بشيء اليها . بل بقيت جملة العناصر الستة هي الجملة القارة في اعتماد المجنسة التي تنتج وتحدد المشهد المسرحي. انها جملة مكونة من ستة احرف: الحبكة، الشخصية، الفكرة، اللغة، الموسيقى، المرئيات. وهي جملة معادلة لنظام الاحرف في اللغة: العربية، الفرنسية، الانكليزية.. مثلما هي معادلة لأحرف الموسيقى: دو ، ر ، مي ، فا ، صول ، لا ، سي.

اذن، جملة، نظام، مركب، كلمة، المشهد المسرحي متضامنة في احرفه الستة، وهي الضامنة التي تعرّف نظام العمل بها وتستقعده تجنيسا أو تصنيفا بالفن المسرحي، وهذا التعريف سوف يكسبه الهوية الملازمة له بحيث يكون ذكر العناصر مساويا او متطابقا لذكر المشهد او النص/العرض المسرحي.

المشهد المسرحي هو خارطة تلك العناصر التي ائتلف منها، ومثلما كانت هي اجزاؤه التي تراكب منها مثلما كانت عنوانه العام الذي ارتسم فيه جنسا متكاملا يعبر عن ذاته من خلال ذاته. هنا يأخذ افكاره ومضامينه بطريق الاستدلال مثلما يأخذها بطريق الاستنتاج، فبمقدار ما يطلبها، أي تلك المعاني، عن طريق كلية المشهد كمدخل لفهمه يطلبها عن طريق سلسلة اجزائه المكونة له.

اولا: الحبكة plot

1 -3: وضع ارسطو الحبكة موضع الغاية في النظام المسرحي، على فرض ان الحبكة هي النهر الذي تتدفق فيه الاحداث. وقد قرن تلك الغاية في لعبة التدفق باستمرار لتوافر الفعل الدرامي سواء كان ذلك الفعل مفترضا على خشبة المسرح او ( مفترضا ) على خشبة الواقع. ولقد رأى ارسطو ان الحركة الميكانيكية لجريان الافعال وتدفقها ستكون بمنزلة الروح بالنسبة للجسد الحي.

ولمّا كانت الحبكة مبدأً يعادل مبدأ الفعل في الحياة كانت ارادة التمثيل قدرا متلازما وشرطيا في استيعاب جريانها او تدفقاتها. انها سلسلة التراتب في واحة تمثل الأشياء: الرسم، الطبيعة، الصورة الاولى في غياهب الفكرة والتي اشترطت في تراتبها على الاسباب والنتائج المرتبطة بنمط او نوع الجريان فيها.

اذا كان نظام الحبكة مساويا لنظام الفعل الفني/اليومي، وكان التمثّل المبدأ العام الذي تنضوي فيه، وان التراتب سوف يكون حجة تلازم عمليات الاسباب والمنطقة الموضوعية، كانت حاجة ذلك النظام تقتضي وجود ذاكرة/مرجع يكون متماسكا في برهنة حضوره وتسلسل ذلك الحضور، وهذا سوف يكون مدعى للوحدة والانسجام.

في ضوء ذلك التراتب سيكون الديالكتيك المعتمد عموديا في خطين: ديالكتيك يقتضي صعود جريان الاحداث نحو الذروة، وديالكتيك يقتضي نزول جريان الاحداث نحو الحل.انه التعامد الذي يبرهن على نفسه من خلال نفسه بالصعود والنزول في سجل التنمامي والحركة للأحداث والأفعال. وهذا التقضي في الجدل ينبغي ان يتوافر على تقضي في التكافؤ: من حيث تناسب الصعود مع تناسب النزول ومن حيث توافر العنصر السببي causality ايضا.

ان الزمن المقتضى عند ارسطو هو الزمن الماضي في قيمومة الحبكة، ذلك لأن التمثل في مقتضيات عمله المتراتب يؤكد استدراج الأفعال واستدعائها من الماضي نحو الحاضر الفني/اليومي. من هنا استلزمت الحبكة ان تكون في وعاء الذاكرة، باعتبارهذه الذاكرة المحرك الرئيس لإعادة انتاج الفاعل بماكنتها التراتبية المتصاعدة. آنذاك يكون (الماضي اساسا والحاضر اداء).

على وفق ما تناضح أعلاه من معرفة لإفهوم الحبكة بطريقة المدرك الارسطوي الذي ينضوي تحت معطى مرحلة الميتافيزيقا والتي يمكن ان تؤشر ازاءها الخلاصات الآتية:

1 – الحبكة غاية النظام المسرحي.

2 – الحبكة هي مجرى الاحداث.

3 – تقرن الحبكة بالأفعال.

4 – منزلة الحبكة هي منزلة الروح بالنسبة للجسد.

5 – ترتبط الحبكة بمبدأ التمثيل.

6 – ارتباطها بمبدأ التمثيل جعلها متراتبة وخاضعة لشروط التضادات: أعلى/اسفل او مركز/هامش .

7 – يرتهن ذلك التراتب على الاسباب والنتائج .

8 – اقتضاء الذاكرة اصلا معينا للحبكة ، مرجعا اوليا في حضوره الفاعل .

9 – اقتضاء الذاكرة واقتضاء مبدأ التمثيل يؤصل لتزمين الماضي اصلا والحاضر اداء تقليديا للماضي .

10 – يشترط مبدأ التمثيل في الحبكة مبدأ الوحدة والانسجام .

11 – بناء الحبكة في تعامد ، ومثل ذلك جدلها صعودا ونزولا .

2 – 3 : لا تختلف موضعة الحبكة في مرحلة اخرى من حيث انموذج وجودها الذي يفرض انموذج اجنوسية المشهد المسرحي، فهي ما تزال تلعب دور النهر الذي تجري فيه مياه الافعال الدراميـة، وبالوصف الذي يكـون فيه ذلك النـهر، بناء لها، القراءة العليا التي تفرض على الحبكة بسلطة فلسفية ومعطيات فكرية خارجة عنها بالوقت الذي هي مستسلمة لها.

الحبكة في مشروع او مرحلة الحداثة قد اتسمت بأشكال في صناعة بنيتها غير الاشكال السابقة في مرحلة الميتافيزيقا وقد راهنت على تلك المعطيات التي اصبحت اطارها ومحتواها في تحقيق عنصرها داخل المشهد المسرحي. ومن هذه الاشكال:

شكل 1: راهنت الحبكة على الذات العاقلة في تمثلها للأفعال الدرامية .

شكل2 : راهنت على ان تكون افعالها الموضوعية الخارجة والمتوافرة في الواقع منعكسة مباشرة على تلك الذات العاقلة الداخلة .

شكل3 : تحمل الحبكة فنارات الحقيقة – العلمية .

شكل4 : تشترط الحبكة الانعكاس بين الذاتي والموضوعي .

شكل5 : تشترط الحبكة التطابق والوضوح في بنياتها .

شكل6 : تشترط انموذج البناء المتعامد والجدل المتعامد .

شكل 7: تشترط الوحدة والانسجام والنظام والتراتب .

شكل8 : تشترط توافر السبب والمسبب او الحتمية .

شكل9 : تشترط الحاضر لحظة الاداء اصلا ومرجعا لها لأنها تجريبية معاشة ضمن اشتراطات الآن .

شكل10 : الانتقاء بما يلزم الرابط الحقيقي – العلمي بين الذات والواقع .

شكل11 : تشترط اصلية المكان في مجرى احداثها .

3 – 3 : اذا كانت الحداثة كسلطة متعالية فرضت بعض المتغيرات العليا على انموذج الحبكة في مرتسم طريقها داخل انظومة العرض المسرحي فان مشروع او مرحلة مابعد الحداثة قد اضفت متغيرا اشد مغايرة من كل سابقاتها من مراحل . الأمر الذي جعل الحبكة الدرامية تستجيب لنوع المغايرة والانقلاب الشديد .

لاتبدو الحبكة في هذه المرتسم الجديد الا أثر حبكة، ذلك الأثر الذي ينزع نحو الشك، ويتمرغ بنصف وجوده الباحث ابدا عن نصف آخر يتمم ذلك الوجود المنقوص الذي تعالق به، فتغدوا الحبكة سلسلة من الحُبك المؤجلة قراءاتها والتي تتفرع عنها اشكالا لامتناهية تحت وطأة المزيد من التناسلات في القراءة، وكذلك المزيد من تخصيب التأويل فيها. وهكذا تفقد الحبكة في هذا المشروع او المشرط الفكري الجديد عذريتها المطلقة. الغاية الكبرى التي طرزها ارسطو بكتابه فن الشعر. تتحلل وتنحل الى حبكات متعددة.

ذلك الممر الافهومي الجديد منح الحبكة سلسلة من الاتسامات التي انطوت عليها فكانت مادتها في البناء مثلما كانت اطارها في الافهوم. ومن هذه الاتسامات:

اتسام1 :جعلت الحبكة افهوم الاختلاف اصلا يمايزها ويفردنها مع العلامات/الحبكات الأخر من جهة، ويسلبها حضورها الكامل من جهة ثانية .

اتسام2 : ان الحبكة دال يؤكد حضوره عن طريق تكرار نفسه .

اتسام3 : راهنت الحبكة على ان تكون افعالها الدرامية مجرد سلسلة من الاثار التي تظهر شيئا من علاماتها وتخفي شيئا آخر مما يستدعي القراءة والتأويل .

اتسام4 : التمظهر المكاني اصلا للحبكة بوصفه الحضور الحاضر في الزمان .

اتسام5 : تحمل الحبكة راية السلب والنقص وتبحث عن وجودها في العلامات الاخرى داخل انظومة العرض المسرحي .

اتسام6 : جريان افعال الحبكة مضطرب غير منسجم .

اتسام7 : تلغي الحبكة نظام التراتب المتمثل بفعل اعلى وفعل اسفل .

اتسام8 : لا تلتزم بالسبب والمسبب ، انما تلتزم بشرطية الاحتمالات الملازمة لها .

اتسام9 : انموذج بناء الحبكة يكون مشتتا ، فوضويا ، وهكذا يكون ايضا جدلها .

اتسام10 : تقتضي الحبكة المستقبل للقراءة والتأويل .

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار