مقالات

الطريق الى الدولة الحضارية الحديثة

محمد عبد الجبار الشبوط؛
يبحث هذا المقال في الجانب العملي الموصل الى قيام الدولة الحضارية الحديثة . وبالتالي فهو ليس مقالا نظريا انما هو بحث تطبيقي في السبل او الطرق العملية الموصلة الى الدولة الحضارية الحديثة بوصفها بناءً سياسيا-اجتماعيا- اقتصاديا يقوم على اساس القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري ذي العناصر الخمسة (الانسان، الطبيعة، الزمن، العلم، العمل) المنتج لحياة تتسم بالعدالة والرفاهية والانتاجية العالية للمجتمع.
وسبق مني التأكيد على ان هذه الدولة تمثل اتجاها تاريخيا عاما، اي سنة تاريخية من النوع الثالث، باعتبار ان السنن الحتمية هي النوع الاول، والسنن الشرطية هي النوع الثاني.
ولأن الدولة الحضارية الحديثة هي ظاهرة تاريخية، فهي تقوم عبر سيرورة تاريخية طويلة وتراكمية تستبطن عملية متعددة الاوجه للتغيير الاجتماعي. والتغيير الاجتماعي عملية ذات وجهين (هدم وبناء) مرتبطة برؤية مستقبلية تتمثل بنموذج الدولة الحضارية الحديثة.
ويشهد عصرنا الراهن (خاصة بعد الحرب العالمية الثانية) ظهور العديد من نماذج الدولة الحضارية الحديثة بدرجات متفاوتة، تختلف من مجتمع الى اخر. وليس من الصحيح افتراض نموذج واحد يتعين تحقيقه نفسه في كل المجتمعات؛ انما يقوم كل مجتمع ببلورة نموذجه الخاص بناء على خصائص ذلك المجتمع. لكن ينبغي ان يتم تحقق المؤشرات الاساسية للدولة الحضارية الحديثة وهي: المواطنة والديمقراطية وحكم القانون والمؤسسات والعلم الحديث، اذ بدون هذه المؤشرات لانتصور تحقق الثمرات المأمولة من قيام هذه الدولة.
وعلى الصعيد العملي يمكننا تشخيص ثلاثة طرق او مسالك تؤدي الى قيام الدولة الحضارية الحديثة.
الطريق الاول: تمكن قوة سياسية-اجتماعية مؤمنة بنموذج الدولة الحضارية الحديثة من مسك زمام القيادة والحكم في المجتمع، واستخدام القدرات التي توفرها الدولة، كالتشريعات والتربية المدرسية، في البناء التدريجي للدولة الحضارية الحديثة.
وكان بالامكان سلوك هذا الطريق في السنوات الاولى لقيام الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي، او بعد قيام الجمهورية في عام ١٩٥٨، او بعد سقوط النظام الدكتاتوري البعثي المتخلف في عام ٢٠٠٣. لكن ذلك لم يتحقق لاسباب متعلقة بكل حالة من الحالات المذكورة ليس من وظيفة هذا المقال التعرض لها.
لكن الفرصة مازالت قائمة الان لو قامت جماعة سياسية تؤمن بنموذج الدولة الحضارية الحديثة.
الطريق الثاني: ظهور زعيم او قائد جماهيري مؤمن بنموذج الدولة الحضارية الحديثة قادر على مسك زمام الامور وقيادة الدولة والمجتمع نحو هذا النموذج.
ولم يتحقق هذا الامر في العراق في المحطات المذكورة في الفقرة السابقة. حاول الملك فيصل ان يقوم بذلك ولم يتمكن. وكان بمقدور عبد الكريم قاسم القيام بذلك. ولم تبرز مرحلة ما بعد ٢٠٠٣ زعيما سياسيا اصلا.
نعم لدينا في العراق مرجعية دينية عليا ممثلة في الامام السيد علي السيستاني الذي تشكل اطروحاته في الفقه السياسي رافدا مهما من روافد نموذج الدولة الحضارية الحديثة. ويمكن ان تعوض هذه المرجعية عن غياب الزعيم السياسي المؤمن بهذا النموذج.
الطريق الثالث: ان يقوم الناس بالامر. والناس هم الجمهور العام الذي يشكل الجسم الاساسي للدولة. وقد استلهمت هذا الطريق من عدد من الايات القرانية مثل قوله تعالى:”لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”، وقوله: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”.
ويمكن دراسة تجارب المجتمعات التي تمكنت من اقامة دولها الحضارية الحديثة بدرجات مختلفة، ومعرفة الطرق التي سلكتها لتحقيق هذا الهدف، مثل النرويج وايسلندا والسويد والدانمارك وفنلندا وكندا وسنغافورة وماليزيا ورواندا وغيرها، وبلورة ستراتيجية عليا للوصول الى الدولة الحضارية الحديثة في العراق.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار