مقالات

الدولة الحضارية الحديثة: هل هي مشروع سياسي ام مشروع حضاري؟ (٣)

بقلم محمد عبد الجبار الشبوط:

بينت في عدد كبير من المقالات انني ادعو الى اعادة بناء الدولة العراقية على اسس حضارية وحديثة، او اقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق. ولكي تكون الدولة بهذين الوصفين ذكرتُ انها يجب ان تقوم على خمسة اسس هي: المواطنة، والديمقراطية، والقانون، والمؤسسات، والعلم الحديث، على ان تؤطر هذه كلُّها بمنظومة متكاملة من القيم الحضارية الحديثة الحافة بالمركب الحضاري ذي العناصر الخمسة، وهي: الانسان والارض والزمن والعلم والعمل.
ويرى الاستاذ اسحاق الموسوي “ان مشروع الدولة الحضارية الحديثة لم يأتِ بجديد في هذا المشروع فمبادئ دولته وهي الديمقراطية والمواطنة والمأسسة والعلم الحديث وغيرها هي مبادئ معروفة قدمها الفكر الغربي الحديث في عملية بناء الدولة الحديثة هناك.”
وهذا صحيح، فليست فكرة الدولة الحضارية الجديدة، اذْ هي تستند الى “مبادىء معروفة” على صعيد عالمي وتاريخي وحضاري. لكن ليس من الدقيق القول ان هذه المبادىء المعروفة “قدمها الفكر الغربي الحديث”، بما يوحي انها منتجات الفكر الغربي حصريا. بل هي حصيلة المسار التطوري التراكمي للبشرية فيما يتعلق بالدولة منذ حوالي ٧ الاف سنة الى اليوم، وقد اسهمت الجماعات البشرية كل بحسبها في الكشف او التأسيس للعديد من المفردات التي نستخدمها اليوم في بناء فكرة الدولة الحضارية الحديثة، حتى بدون هذا المصطلح بالذات، او بدون جمع هذه المفردات في مدونة واحدة او مصفوفة واحدة. فمفردة القانون نشأت في وادي الرافدين على يد الملك البابلي حمورابي (١٨١٠-١٧٥٠ ق م ) صاحب المدونة القانونية المعروفة باسم “مسلة حمورابي”. ومفردة المواطنة كانت معروفة في عهد الدولة الاشورية (٢٦٠٠-٦٠٩ ق م). ومفردة العلم من المفردات الشائعة الاستخدام في القران الكريم الذي اكتمل نزوله بعد ٢٣ سنة في عام ٦٣٢ م. نعم يصح القول ان تبلور هذه الاسس الخمسة في كيان دولة واحدة هو من ثمرات العصور الحديثة. وقد لاحظنا ان الدول تقام على اساس منظومة من القيم العليا التي تحف بعناصر المركب الحضاري. وهكذا اسهمت الجماعات البشرية المختلفة في عصورها المختلفة في بلورة فكرة الدولة الحضارية الحديثة كل بحسب خبرتها وتجاربها وثقافتها الخاصة. وهذا ما جعل لفكرة الدولة الحضارية الحديثة مصاديق مختلفة تتراوح، مثلا، من اليابان الامبراطورية، الى فرنسا الجمهورية، مرورا باكثر من ٢٠ دولة ينطبق عليها بدرجات متفاوتة وصف الدولة الحضارية الحديثة رغم الخصوصيات التي تميز هذه الدول بعضها عن البعض الاخر. ذلك ان “مايصلح لمجتمعات معينة قد لايكون صالحا لمجتمعات أخرى ما لم تدخل عليه اصلاحات أو تعديلات أو تغييرات مهمة ليكون منسجما مع المجتمع المستورد لهذه المبادئ والمرتكزات”، كما قال الاستاذ اسحاق الموسوي. وقد يظهر هذا على مستوى منظومات القيم التي قد تتشابه في ماهياتها وجواهرها، لكنها تختلف في مصاديقها، وسبل تسويغها، والتشريعات المحققة لها. مع العلم ان الاستعارات والتبادلات الحضارية ظاهرة تاريخية معروفة وملموسة، فالشعوب ياخذ من بعضها البعض الافكار والمفاهيم والكلمات والمنتجات، وقد تعاظم التبادل الحضاري في العصور المتأخرة حتى صار بالامكان الحديث عن “العولمة الحضارية”.
اضحى من الواضح الان، وبعد استقراء التاريخ الحضاري للبشرية لعدة الاف من السنين، ان فكرة الدولة التي يمكن وصفها بانها “حضارية” و “حديثة” تعبر عن اتجاه تاريخي عام، تشترك فيه كل المجتمعات البشرية التي دخلت في مجرى التطور التاريخي العام، وهي تعبر عن نزوع ربما كان فطريا في الانسان نحو تحسين مستوى حياته، ولم تعد براءة اختراع هذه الفكرة مسجلة باسم مجتمع معين دون سواه.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار