الثقافيةمقالات

هجرة الأدمغة العربية.. “الأسباب – النتائج – التوصيات”

هجرة الأدمغة العربية .
الأسباب – النتائج – التوصيات .
_______________________________________________________________________
الكاتب الدكتور أنور ساطع أصفري .
_______________________________________________________________________
معاناة المثقف العربي ليست وليدة اللحظة ، بل تمتدُّ إلى سنواتٍ طوال ، لكنها توسّعت فترة بعد أُخرى ، وأخذت حيّزاً وزخماً أوسع وأكبر ، وأصبحت الأدمغة العربية المعطاءة إلى دول الغرب لتلقى مكاناً لائقاً بها وبعلمها وبعطائها . حيث أن الأدمغة العربية تعيش غربتها في وطنها ، فليس هناك إهتمام أو تقدير أو مجالاً رحباً ونزيهاً ليعطوا من خلاله .
مع الأسف الساحة العربية تفتقر إلى التخطيط السليم ، وتفتقر إلى الإدارة الحكيمة ، وتكافؤ الفرص ، لذا ينتشر الفقر والجهل والبطالة ، كما يطلّ الفساد المتفشي في كل مكان لينهش كل شيء ، وليكون سيد الموقف .
نعم هناك كمٌ من الشباب ذكوراُ وإناثاً يحملون المؤهلات الغليا وبإختصاصات مختلفة ، ولكن هذا لا يكفي ، بمعنى يجب أن تتوفر لهم مناخات معيّنة للإستفادة منها بالشكل الأمثل . ولكن الدول لا توفّر لهم هكذا مناخات ، ولا توفر لهم الفرص المناسبة لعملهم ، لذلك تلجأ هذه الأدمغة إلى الهجرة ، لأسبابٍ داخلية ، ولأسبابٍ تتعلق بالتقدم العلمي أو الثورة التكنولوجية بالعالم .
ومن الأسباب الداخلية نرى في مقدمة الأمور عدم توفّر فرص العمل اللازمة والمناسبة للإختصاص المحمول من قبل صاحبه ، وعلى ما يبدو أن الدول العربية غير معنية بالإستفادة من الإختصاصات العليا ، وتأمين مجالات عملٍ لأصحابها ، لذلك يجد الخريجون أنفسهم ضحايا البطالة ، ولتأمين لقمة عيشهم نراهم ينغمسون في أعمالٍ أخرى لا تتناسب ومستوى تحصيلهم العلمي .
وينتج عن هكذا وضع شعور بالإحباط واليأس لدى هذه الكفاءات ، ويصبح بالتالي قرار الهجرة مباحٌ لأسباب ذاتية وموضوعية .
أمّا الذين يبقون في البلاد فتصيبهم مرارة الواقع الأليم ، وهم يرون كيف أن الدولة ومؤسساتها وقطاعات مختلفة كلهم يُهملون مؤهلاتهم العلمية ، ويشعرون بالمرارة أكثر عندما يجدون أن تلك القطاعات تستعين بمؤهلات علمية أجنبية لقضايا وأعمال تتوافر فيها الكفاءات اللازمة محلياً .
لذلك نرى أن الكفاءات والاختصاصات العلمية التطبيقية في بلادنا تتحوّل سريعاً إلى إختصاصات نظرية ، لأنهم لا يُمارسون عملهم المطلوب . وهذا أيضاً ينعكس على ذوي الخبرة والكفاءات بحيث يتراجع مستواهم العلمي ويقفون عند حدٍ معين بقدراتهم المعرفية .
كما يُشكّل الواقع السياسي عنصراً مهماً من عناصر هجرة الأدمغة ، حيث أن معظم البلاد العربية تعيش حالة عدم الإستقرار أو هناك إضطرابات سياسية ، وكل ذلك يتسبب بعدم استقرار الدولة والمجتمع ، وبنزيف أهل العلم والفكر الذي يحتاج إلى الأمن والأمان كي يستطيع أن يُنتج بالشكل الأمثل .
كما أن واقع حرية الرأي والتعبير المعمول به في المنطقة هو أيضاً ذو أهمية ، حيث يحتاج فيها الباحث والأكاديمي إلى الحرية في البحث والتحقيق وتعيين المعطيات وإصدار النتائج .
وبشكلٍ آخر نستطيع أن نوضّح ونقول أن الدول العربية تتعاطى مع الأرقام والاحصائيات والنتائج بصفتها معطيات سياسية تؤثّر على موقع السلطة ، فهناك حكومات عربية تدخّلت لمنع إصدار نتائج أبحاث ودراسات صرفت عليها الدولة مبالغ كبيرة لإنجازها ، وذلك خوفاً من أن تؤثّر نتائج هذه الدراسات في الوضع السياسي القائم .
ونحن هنا حينما نتحدث عن أدمغة علمية أو كفاءات إنما نعني كل ذي مهارة إبتداءً من مستوى العامل المتخصص الخبير وصولاً إلى العالم المتميّز .
فهناك من ذوي المهن الحرة مثل الأطباء والمهندسين والاقتصاديين والمحامين والمفكرين وفنّيون من خريجي الكليات ، وعمال مهرة الذين نالوا خبرة فنية متخصصة في مجالٍ حيوي ما ، وليس بالضرورو أن يكون من حملة الشهادات العليا .
ونؤكد هنا أن ظاهرة عدم الاستقرار السياسي ومنذ سنواتٍ طوال في المنطقة العربية ، وعدم إستقرار الوضع الاقتصادي ، شكّل سبباً رئيسياً لهجرة الكفاءات ، والتي بالأساس قد تكون في محل عدم الثقة من قبل الأنظمة ، نتيجة ما تحمله من أفكار وآراء متطورة ، لذلك يشعر أصحاب الكفاءات بالقلق والاضطرابات والخوف على مستقبلهم .
فمعظم الذين هاجروا يرفضون العودة إلى بلادهم بسبب تدني الأجور ، ولعدم توفّر المناخ المناسب لهم ، وتدني حرية الرأي ، وتقييد الحرية السياسية .
فأصحاب الكفاءات يحتاجون إلى مناخٍ هادىء يتيح لهم الابداع والابتكار والعطاء بشكله الأمثل ، لذلك فقدان الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي يخلق حالة لا تنسجم مع ما يحتاجه العلماء من أصحاب الكفاءات .
العالم كله الآن يعيش عصر التقدم العلمي والتكنولوجي والمكننة والحاسوب والاتصالات وأحدث وسائل الاتصال ، وهذا الواقع يتطلب توفير أشخاص على مستوى عالٍ من المعرفة والخبرة والمهارة والتخصص والكفاءة لتغطية هذا الجانب .
ولكن عندما نرى أن الكثير من العلماء والمهندسين والأطباء وذوي القدرة على التعامل مع العلم والتقنية الحديثة المتطورة جداً يبتعدون عن بلادهم ، نرى أن تلك البلاد مُصابة بالتخلف النسبي ، وتتراجع ، وتتكرّس لديها التبعية التكنولوجية للدول المتقدمة .
في دراسةٍ أصدرها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أشارت إلى إحصائيات عن هجرة الكفاءات ، وقالت أن العالم العربي يُساهم بنسبة 32 % من هجرة الكفاءات إلى الخارج ، وأن الخسائر الاقتصادية في الوطن العربي بحدود 200 مليار دولار ، نتيجة هجرة الكفاءات ، وأن ربح الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة من جراء هذه الهجرة يُقدّر بسبعين مليار دولار .
وبالمقارنة بين الخارج والوطن العربي نرى أن الرواتب جيدة وأحياناً مرتفعة في الخارج ، وهناك أيضاً إحترام للوقت وللعمل وللنظام ، كما أن الخدمات جيدة في الخارج مثل السكن والنقل والتأمين الصحي ، وحوافز وتقدير للعطاء ، وما إلى ذلك من أُمور ، بينما في الداخل غالباً نرى عدم توفّر الفرص المناسبة للعمل ، والأجور متدنية ، وتقدير العطاء غير متوفر ، وغنتشار البطالة المُقنّعة والفساد .
كما أن هناك فقدان الارتباط بين مؤسسات التعليم ومشاريع التنمية والتطوير ، ومؤسسات التخطيط .
والذين يُهاجرون إلى الغرب يجدون نجاحهم في كفاءتهم العلمية وهذا يصبح بمثابة الرابط الوثيق بينهم وبين الدول التي تحتضنهم . إضافة إلى التسهيلات لكافة الكفاءات العربية العلمية والعملية المهاجرة ، لأن الغرب لم يتكلّف أي شيء لإعدادهم ، وهذا بالتالي يُحفّز المهاجرين على الإستقرار هناك ، والاندماج بالمجتمع الأوروبي الذي ينتج عنه علاقات إجتماعية وزواج .
خاصّة أن الدولة الأم تفقد التواصل بينها وبين هؤلاء المهاجرين ، حيث أن هذه الدولة لا تثق بالمهاجرين وبما يحملونه من أفكار جديدة تعلّموها في الدول الغربية ، والتي لا تتماشى مع سياسات الحكومات العربية .
فمن أجل إستقطاب ذوي الكفاءات بشكلٍ جيد لا بُدّ من توفّر مناخ سياسي مستقر ، ومناخ إقتصادي آمن وثابت ، وإطلاق الحريات .
ولا بد من توفّر الحرية الفكرية ، وتوفير الحماية للعلماء وأصحاب العقول والكفاءات وتهيئة الأجواء الآمنة لهم ، فتجارب البلدان المتقدمة أثبتت أن التطور والبناء الحضاري لا يتحقق من خلال المستلزمات المادية فقط ، إنما الأهم الموارد البشرية والصفوة ذات الاختصاص والخبرة ، ولا بد من توفير امتيازات وحوافز خاصة لهؤلاء المتخصصين تُسهّل لهم أُمورهم الحياتية .
ونؤكد أن أهم عناصر البيئة المحفّزة للعلماء وأصحاب الكفاءات والمبدعين هي توفير مجال الحرية في الحركة والتعبير ، وعدم ربط أصحاب الكفاءات بالشأن السياسي وتمجيد السلطان .
فنحن نرى في المجتمعات الغربية أنها تنأى بالشأن التعليمي والعلمي عن الشأن السياسي ، لذلك يرى أصحاب الكفاءات الذين يهاجرون إلى الغرب أن الدول الغربية توفر لهم الكرامة الانسانية التي لا يجدونها في أوطانهم التي تُعاني بالأساس من سوء توزيع الثروة ومن الفساد المتفشي في كل مكان .
ونتيجة لهذه السياسات الخاطئة نرى أن المثقفين والمفكرين والعلماء لا يُستفاد منهم في بلادنا ، وفي المقابل تتلقفهم دول الغرب ، ويهيؤون لهم المناخ المناسب للعمل والابداع ، وبفترةٍ قصيرةٍ يتحوّلون إلى علماء كبار وهناك أمثلة كثيرة .
فالإنسان العالم والمُجد يروم إلى السيطرة على الطبيعة ، وضبط الكوارث الطبيعية والأوبئة والأمراض ، وكلما تطورت القضايا العلمية ، تقدمت بحوثها بإستخدام معايير وتقنيات حديثة ومتطورة ، فالتطور العلمي يشمل كل شيء ، في البيئة والأمراض ، في الطبيعة ، في البناء ، وفي وسائل النقل البحرية والجوية والبرية ، وفي الأنفاق والجسور وفي المواد الغذائية .
فالقضايا العلمية أو العلم يدخل في كل مجالٍ من مجالات حياتنا سواء في الحديث عن السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام أو الصحة والثقافة ، فالعلم دخل كل صغيرة وكبيرة في حياتنا ، كما أنه الأساس لبناء أي حضارة متمدّنة .
فالعلم لا يقبل الطرق العشوائية في المجال السياسي أو الإعلامي أو الثقافي أو الفكري ، لأن الإسلوب العلمي يتميّز بالدقة في الطرح مع التفكير والاستدلال والاستنتاج ، والاثبات والنقد والتحليل ، ويرفض الطرق الملتوية أو الخيالية في طروحاته ، الغرب إستخدم كل شيء لنشر ثقافته والترويج لها ، إن كانت قيم سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية أو مجتمعية ، وأصبحنا نحن نحاول تلقّف تلك الثقافة كمادةٍ جاهزة ومستوردة .
فإذا لم نواكب العالم المتمدن ، وإذا لم نقم بإعادة صياغة خطاباتنا وأولوياتنا التنموية والعلمية ، وإذا لم نقم بإصلاحاتٍ سياسية وإقتصادية وندعم مشاركة الآخر بفعالية في صناعة القرار السياسي ةالاقتصادي والاجتماعي والتربوي والاعلامي والديني في البلاد ، فإننا سنبقى في مرحلة التبعية ، والاعتماد على تلك الدول الغربية في كل شيء ، بالرغم من إمتلاكنا لكل متطلبات التقدم ووسائل التغيير نحو الأفضل .
إنه الاستعمار بوجهه الحضاري الجديد .
نحن بأمسِ الحاجة كي نعي بأن مجتمعاتنا تواجه تحديات حقيقية للبقاء والاستمرار بسبب سياساتنا الخاطئة على كل الأصعدة ، وتبعيتنا العمياء والبليدة والتي تحطّم طموحاتنا نحو الأفضل .
فلا بد من فتح كل النوافذ والأبواب أمام المجتمع المدني والفاعلين الاقتصاديين ، والقيام بحملة تحديثية لكل خطاباتنا ، والكشف عن الطاقات الوطنية القادرة على التفاعل الحي والمبدع والخلاّق ، ونشر مفهوم المواطنة ، وفتح أبواب المشاركة الجادة أمام كل الكوادر العلمية المعطاءة لتكون مساهمة فعلياً في صناعة نسيج الوطن بمفهومٍ جديد ، والتأكيد على الهوية الوطنية وعلى سيادة الانسان ، وذلك بهدف اللحاق بالركب الحضاري ومواكبة العصر من خلال العلم والوعي الثقافي الواسع الطيف والشامل والمتضمن برامج البحث والتطوير ومعالجة كل القضايا العلمية ، ووضع حدٍ فعلي لظاهرة هجرة الطاقات الوطنية الرائدة إلى خارج البلاد ، والتي يستفيد منها بشكلٍ فعلي الدول الكبرى التي تقطف ثمار تربيتنا وتعليمنا لأجيالنا ، وتجني من الأدمغة العلمية العربية كل شيء ،
حينها فقط نستطيع أن نقول بأننا بدأنا فعلاً الخطوة الأولى السليمة في معالجة هجرة العقول العربية المبدعة .

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار