الثقافية

التفسير والتعبير بين الحقيقة والخيال في رسوم الدكتورة حوراء

بقلم الناقد الدكتور حازم عبودي السعيدي

يعد العقل الباطن حاضنة اللاوعي وعالم الخيال والاحلام بشقيها اليقظة والنوم الذي سرعان مايظهر بتعبير شفاهي او تحريري وغوص ميلودرامي لاعماق النفس حتى تتشابك نويات الوعي وتختفي او تتحول بهيأة اسقاطات ادبية وشعرية وفنية , انها بحق عبثية لا تنفصل عن الواقع الذي ترحلنا اليه (الدكتورة حوراء احمد ) وهي ترسم فتاة عارية تلتف حول ذاتها وتتجذر من هيأة استقامة لشجرة الى محوريتها ويظهر النور الساطع من خلفها , بعد ان زرعت( المرأة الشجرة )في عالم افتراضي لبيئة من السحب والغيوم لا يشابه السماء المرئية وقد تشير الى الجنة او السماء العالية الاولى في الخلق الاول حيث يرتبط شعر المرأة المتدلي بجذور تلك الشجرة (المنتهى ) ليكون شكل قلب بشري ووجه جانبي لرجل في ايعاز مطافات استقباله من قبل الناظر وربما يتجه الى ان المرأة تعني شجرة وارفة من الحب او انها حواء الخالدة الهابطة بفعل ما اقترفه ادم في النزول الى الارض , وبهذا ان الدكتورة (حوراء) تستمد ذات الانظمة في الرسم لكنها تضع الرمز في بوتقة العقل وتحلله ثم تطرحه للمشاهدة ويفسره المتابع على هواه , حيث تعتمد موضوعيتها الفنية باتجاه علمي لتنظيم الفوضى وخلق نظام يتحدى افاق العقل في محاولة لا ستكشاف بواطن الانسان عبر اللجوء الى عوالم الحلمية واللاشعور , اذ ليس للمرأة في انموذج رسوماتها جذور سوى الانتماء الى الاسرة .

لقد حاولت الفنانة في رسوماتها ذي العناوين المطروحة (راقص صوفي ,ادم وحواء ,الزمن ,بنت المحلة ….) ومن خلال سريالية التعبير الذي افاضه عليها العقل الباطن ان اقامت علاقة الواقع بالخيال واضفت على رسومها شىء من المعقولية فيما راحت في اخريات (حواء وادم ) تنهل من الرغبة والاشتهاء في عوالم يتجاور فيها سيناريو السلوك البشري المستور عنه والواقع المنقوص , فهي لا تتنصل عن واقعها ولا تتغافل عنه بل واشارت اليه حينما ذهبت في مصورتها “الراقص الصوفي ” الى معنى العقيدة ومدى التزام الانسان بحقيقة الدين واسلامه وهنا تمكنت الفنانة من نقل الخيال الى الواقع وليس مثلما تظهره السوريالية ان تعيش الحلمية بمعنى انها ذهبت بالراقص نحو افاق التوغل في العقيدة الدينية للاسلام وارادت ان تشعر متابعيها بالتوجه الى عالم الله سبحانه الذي جعله عالم ميتافيزيقي لا يمكن الاهتداء اليه الا بالصوفية , وبمعنى ادق انها جعلت من المصورة رسالة ومن الرسالة عبرة وتعبيرا على الرغم من ان هذه اللوحة كانت في مجال التعبيرية الوقعية شكلا وفي مجال اللاهوتية مضمونا , لذا ان (حوراء )تمكنت من ذاتها في الشروع بتنفيذها ضمن المدرسة السوريالية والتعبيرية في الفن ,اما من حيث اتقاناتها في الاشتغالات الفنية في جانب عناصر الفن كوحدة تنظيمية تؤدي الى تقييم الفنان , فهي كانت بارعة ودقيقة في اختيار الواقعية في لوحتها(الرجل الصوفي ) شاب يرتدي جلبابا وفينة على رأسه يدور حول نفسه بفعل الرقصة , يفرد ذراعيه الى جانب جسده , وهنالك ست عشرة ثقبا ضوئيا يسطع الضوء من خلالها عبر ارضية امتلأت بالنور , منها اربعة في اعلى جلبابه واثنتا عشرة في اسفله , لم تظهر قدماه في ايعاز الى ان هذا الشاب يمتلك صفة الوجود في عوالم افتراضية لا ترسو قدماه على ارض , وبذلك تؤكد هنا على الثياب الشفافة والنقية ليسبلونيتها بل بمضمونها الملائكي المقدس , وارادت ان تصل بمتلقيها الى نوعية الثياب وهي (سندس واستبرق ) ثياب اهل الجنة , اما اللونيات المشبعة في الشكل والارضية فكانت متقاربة في الاتجاه العمودي والدوراني وفي كنه اللون وقيمته .عليه ان اللوحة كانت تتمثل جانب خيالي يخفي وراءه رغبة الحصول على الجنة كونها مراد المسلم في نهاية حياته , ونرى ان حقيقة الخلط بدأت واضحة في فعلي الشعور واللاشعور واتحاد عالمين الباطن والخارج من خلال البحث عن اللاشعور , ويأتي ذلك ايذانا بتوازي الواقعية والسوريالية في اشارة ادتها (حوراء) بتقنية حب الله وحب الذات وتضمنت تجديد الشكل في الموضوع .

اما في بعض لوحاتها الاخرى فكانت سالكة في مغادرة الواقع رافضة له وجسدت في بؤر لا تخلو من الجدلية الداعية الى تحرر الذات من قيودها وبلوغ الهدف ان لم تكن اهدافا , في حالة استقطبت رؤى الشباب ومخيالات الحالمين والاندفاعيين نحو الرومانتيكية , ومن مقوماتها ان عقلانية الانفعال المسيطر عليه في الصوفية الاسلامية التي كانت جزءا من شخصية الفنانة حينما خلقت مجاورات ومقاربات لليقظة والحلم , وانشاء مساحة بين الوعي والغفوة , فهي لا تذهب الى ماذهب اليه السورياليون في الهذيان وانما ذهبت الى العقل باختيار موضوعاتها عبر مقولة ان الفنان يحاول قراءة ذاته بواسطة الرموز التي يعبر من خلالها عن لا وعيه , وهنا كانت موفقة في جعلت من لوحة (الزمن والساعة ) على غرار ما نتجه رائد الفن سلفادور دالي , اقامت فكرة للتقارب البيني , حينما رسمت الساعة دائرية كشكل يحتوى على الارقام الحسابية اللاتينية , وعقاربها هيئة انسان في حالة سير غير واضح الملامح , في حين ان الشكل رسم بانطلاق من مركزه نحو الخارج , حتى لنجد ان الالوان التي بانت كانت بدايتها من الابيض بوصفه لون النور ومن ثم يتدرج ضمن اخرياته كالاصفر والازرق والنيللي , اذ ابتعدت (حوراء) عن ادراك الوان الطيف الشمسي اذا ما عرفت ضمن موشوريتها , لقد تمثلت الساعة في عالم فوقي سماوي وليس ارضي حينما تركت الساعة والزمن فوق السحب الملونة القريبة والبعيدة وتركت اشباه لمخلوقات بشرية مجردة غير واضحة تتطاير وتتسامى وتمضي في بيئة سحبية غير مفهومة معانيها , وهنا كان للخيال سعة افقه بفعل تواطىء الاستسلام للخيال في رغبة الى عقلنة اللاشعور والانصات اليه.

ومما يستحق ذكره ان الفنانة لجأت في رسوماتها الى صور فكرية غامضة وشاكلتها وطبقتها باسلوب طبيعة التخييل واستخدامها ايضا التعبير التجريدي في التأويل كمحاكاة اشارية تنطلق من الواقع وتنتهي بالرسم , وتقنيا هي تدعو الى الابتعاد عن فكرة الخطوط الحادة في الرسم وتبني الخط الموجي كونه احد معطيات الاسترخاء حيث الخطوط هنا باتت تهيمن بجمالياتها ووجودها التأويلي لدى المتلقي جامعة بذلك عالم ارنست وميرو وشاكال باعتمادها التأليف بين عالمي الواقع والحلم والتمثيل لخواطر النفس والاهتمام باسرار العقل الباطن وتوثيقها عبر الاثر الفني .

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار