تقارير وتحقيقات

تقرير استقصائي يكشف عاصفة المخدرات في كردستان العراق

من معبر إلى مركز.. كردستان العراق في قلب عاصفة المخدرات

المصدر الجزيرة

لم تتخيل “ناز علي” (27 عاما) أن الشاب “فرشاد عنايت” -الذي استقر بمدينة السليمانية قادما من كرمانشاه الإيرانية وتزوجته بعد قصة حب- كان تاجر مخدرات محترفا.

قدم لها الشاب الإيراني نفسه كباحث عن فرص عمل واستثمار في السليمانية، وأقنعها بالتخلي عن دراستها والسفر معه إلى مسقط رأسه رغم معارضة والديها، فانقلبت حياتها رأسا على عقب.

وبعد مرور أشهر اكتشفت “ناز” أن زوجها المدمن يعمل أيضا ضمن شبكة كبيرة للاتجار بالمخدرات تنشط بين إيران وإقليم كردستان العراق.

وبعد أن استوعبت الصدمة حاولت دون جدوى ثنيه عن ذلك الطريق، ولم يفلح تهديدها بتركه حتى بعد ولادة طفلتهما.

ظهر الوجه الآخر للزوج الذي لم يتورع عن تهديدها بقتلها وطفلتها، فاستسلمت ناز لواقعها المرير، وغرقت بدورها في تعاطي المخدرات، قبل أن تستسلم لفكرة الانتحار أواخر عام 2020.

وتجمع مصادر أمنية وحكومية رفيعة على أن تعاطي المخدرات في العراق -خصوصا إقليم كردستان العراق- بات أكبر تهديد يواجه البلد، فلم يعد التعاطي مقتصرا على بضعة آلاف في مدن محددة، بل انتشر في كل مناطق البلاد التي تحولت إلى مركز رئيسي للترويج والتعاطي بعد أن كانت لعقود من الزمن تصنف مجرد معبر للمخدرات.

وتكشف تقارير رسمية عن ضبط عشرات الأطنان وملايين من أشرطة المواد المخدرة خلال العامين الأخيرين، وسجلت اعتقال أكثر من 43 ألف شخص بتهم تتعلق بالمخدرات بين عامي 2019 و2022.

وفي ديسمبر/كانون الأول 2022 أعلن مجلس القضاء الأعلى عن إتلاف نحو 6 أطنان من المواد المخدرة المخزنة في دائرة الطب العدلي بحضور رئيس لجنة متابعة فحص وخزن وإتلاف المخدرات والمؤثرات العقلية القاضي صهيب دحام.

على مدار عامين من التقصي تواصلنا مع نحو 40 مصدرا في عموم العراق أكدوا جميعهم حصول زيادة “خطيرة” في تجارة المخدرات وتعاطيها، خاصة مع انتشارها داخل المنازل والجامعات والسجون، بل ومقار الأجهزة الأمنية والمدارس الثانوية.

تساقط الثلوج في أحد جبال السليمانية (التقطت الصور بطائرة مسيرة الخاصة بالتصوير المصدر الجزيرة)
تهريب المخدرات إلى إقليم كردستان تتم أغلبيته عبر الجبال الوعرة (الجزيرة)
سموم عابرة للحدود
عبر الممرات والطرق الوعرة والمعابر كان “فرشاد عنايت” يمرر بضاعته التي شهدت زيادة تدريجية ولافتة لنحو عقد من الزمن في كردستان كما باقي المناطق العراقية، قبل أن يزداد عدد التجار المهربين والكميات التي تدخل العراق، وسط انشغال الأجهزة الأمنية والحكومات المتعاقبة بالحرب على التنظيمات الإرهابية وكذلك الأزمات الاقتصادية والسياسية.

مثل الكثير من الأسر التي تبتلى بفرد متعاط أو متاجر -حيث يلوذ الجميع بالصمت لأن طرق الخلاص تبدو كلها مقفلة بين الوصمة الاجتماعية وخطر الاعتقال وغياب مراكز الإرشاد والتأهيل- آثرت “ناز” الصمت وواصلت حياتها إلى أن أطاح كمين بزوجها في عام 2019 نفذته قوى الأمن الكردية بقضاء بينجوين على الحدود العراقية الإيرانية خلال عملية تهريب ضخمة.

حينها لم تجد الزوجة العاطلة سبيلا غير العودة للعيش في كنف والدتها الأرملة وباتت تتعاطى 3 جرعات يوميا، وعجزت في نهاية الأمر عن تأمين ثمنها، حسب رواية صديقة دراسة مقربة منها، والتي قالت وهي تمسح دموعها “صار تجار المخدرات يساومونها على جسدها مقابل إعطائها غرامات قليلة من الكريستال، لم تتحمل كل ذلك الألم”.

كما قصة “ناز” تقود التصريحات الرسمية وأحاديث السجناء الذين التقينا بهم في السجن وتقصي تفاصيل قصص عشرات الضحايا جميعها إلى المعابر الحدودية والطرق الواصلة بين العراق وإيران والتجمعات السكانية على جانبي الحدود كمحطات لتسويق المخدرات.

فيض من المخدرات وآلاف المعتقلين
بدوره، يقول مدير إعلام مديرية مكافحة المخدرات في وزارة الداخلية العراقية العقيد بلال صبحي إن الأجهزة الأمنية قبضت عام 2019 على 6074 متهما بتجارة وتعاطي المخدرات، فيما بلغ العدد 7514 شخصا في عام 2020، مع ضبط أكثر من 300 كيلوغرام من المواد المخدرة وأكثر من 14 مليون حبة كبتاغون.

وارتفعت الأرقام سنة 2021، ليبلغ عدد المقبوض عليهم 12 ألفا و822 شخصا، بينهم 60% كانوا تجار مخدرات، وضُبط 481 كيلوغراما من المخدرات ونحو مليوني حبة كبتاغون.

وأشار العقيد بلال إلى زيادة كبيرة في عام 2022، إذ تم اعتقال 16 ألفا و851 متهما بتجارة وترويج المخدرات تراوحت أعمار أغلبيتهم بين 18 و30 سنة، بينهم 500 دون سن الـ18، و250 امرأة وفتاة، مع ضبط 490 كيلوغراما من مادة الكريستال و15 مليون حبة كبتاغون.

وتفيد هذه الأرقام بوجود ملايين المتعاطين في البلاد، بحسب المحامي حسن عبد الله المتابع لقضايا المخدرات والذي يقول “إذا افترضنا أن نصف عدد المعتقلين هم مروجون فنحن أمام كارثة إذا كان كل واحد منهم يزود عشرات من الأشخاص بالمواد المخدرة”.

وتتفق المصادر الأمنية -التي تواصلنا معها- على أن الهيروين والحشيش والحبوب المخدرة والكريستال هي من أكثر الأنواع انتشارا اليوم في إقليم كردستان العراق.


طائرة بدائية أسقطتها القوة الجوية العراقية كانت تحمل مخدرات (التواصل الاجتماعي)
مخدرات “دليفري”
تفيد الشهادات التي حصلنا عليها بأن المخدرات توزع بعد دخولها البلاد عبر مراكز التجميل والكافتيريات والجامعات وأقسامها الداخلية، فضلا عن بعض المناطق الشعبية.

وبحسب شهادات سجناء ومروجين ومتعاطين تحدثوا مع معد التحقيق، فقد تحولت هذه الأماكن إلى “منافذ مفتوحة للبيع والترويج”.

تقول بهار سامي (اسم مستعار) -وهي مهاجرة إيرانية في العشرينيات من عمرها- إنها اكتشفت في بداية عام 2022 أن صاحبة مركز التجميل الذي تعمل فيه بمدينة أربيل تتعاطى المخدرات عبر مزجها بتبغ السجائر.

وقد تظاهرت أنها لا تعرف شيئا، غير أن إلحاح مديرتها بمشاركتها التدخين جعلها ترضخ في نهاية الأمر وصارت تتعاطى المخدرات حتى ألقي القبض عليها في يونيو/حزيران 2022.

وأفادت خلال التحقيق بأنها كانت تشتري 3 غرامات من المخدرات مقابل 100 دولار من موزع رئيسي في أربيل يدعى “طه”.

وفي يوليو/تموز 2022 شنت الأجهزة الأمنية الكردية حملة ضد تجار ومتعاطي المخدرات بالإقليم، وطالت الاعتقالات بعض الوجوه المعروفة فنيا أو اجتماعيا في أربيل، وكان من بين المعتقلين عارضة أزياء إيرانية مشهورة (س. ب) وموظفة في برلمان كردستان (هـ. خ)، وإعلامية (ن. س)، وفق ما نقلت وسائل إعلام محلية.

وتظهر التحقيقات الأمنية ومتابعتنا لقصص المدمنين والمعتقلين أن تجارة المخدرات شهدت انتشارا وتنوعا في أساليب الترويج والتوزيع، وهو ما يقلق المسؤولين والمواطنين، فالتجار باتوا يوصلون المخدرات إلى طالبيها في دورهم أو الأماكن التي يحددونها عبر شبكة ناقلين متخصصين “دليفري”.

ويقول شوكت حاجي (25 عاما) -الذي يقضي فترة حكم في مديرية أمن السليمانية- إنه كان مثل آخرين يطلب الكمية التي يرغب في شرائها فتصله للمكان المحدد.

بدأ شوكت تعاطي المخدرات وهو طفل (14 سنة)، وتم توقيفه وسجنه عدة مرات، لكنه كان يعود إلى التعاطي بمجرد خروجه، في ظل غياب مراكز العلاج من الإدمان، وهو الآن يقضي مدة محكوميته الرابعة.

من جهته، يعاني الشاب الثلاثيني “هونر علي” (اسم مستعار) المحبوس في سجن أمن السليمانية من المعضلة نفسها، كان أحد أبطال العراق في رياضة السباحة والميدان، قبل أن يتورط في التعاطي منذ سنة 2009، ولم تردعه فترة حبسه الأولى، فعاد مجددا إلى التعاطي ليزج به في السجن مرة أخرى.

أما “هونر علي” فما زالت آثار المخدرات تظهر على جسده وحركاته وانفعالاته، يقول بعد حالة شرود “لا أحد يزورني هنا غير والدتي الستينية المسنة، تأتي في أوقات متباعدة لتبكيني،. الكل تخلوا عني، زوجتي وطفلتاي، وباقي أفراد أسرتي تبرؤوا مني”.

يقضي الإيراني شاهو أحمد (اسم مستعار) عقوبة لمدة 15 عاما في سجن مديرية إصلاح الكبار بالسليمانية بعد تورطه في عملية تهريب.

انتقل إلى السليمانية في سنة 2015 ليعمل في تجارة الأدوية والمستلزمات الطبية، لكنه استخدم تجارته تلك غطاء لعمليات التهريب.

التقينا أحمد (33 عاما) بسجن مديرية إصلاح الكبار في السليمانية، وتحدث إلينا بعد موافقة الإدارة، ويقول “زادت أعداد المستهلكين هنا ومعها الكميات التي يتطلبها السوق، كما أن الإقليم يعد منفذا أساسيا لتجار المخدرات الإيرانيين الراغبين في إيصال بضاعتهم إلى أوروبا”.

ويضيف أن بعض الشحنات المهربة من إيران إلى كردستان تصل أحيانا إلى 100 كيلوغرام، وأن السيطرة على تلك التجارة أمر صعب بوجود مهربين ومتعاطين وشبكات قوية ونافذة تسهل كل ذلك.

وتشكل المناطق الحدودية بجبالها وأوديتها العميقة بيئة جيدة للمهربين، سواء قرب بلدة “جومان” ونزولا عند “كويسنجق” التابعتين لمحافظة أربيل أو عبر مناطق محافظة حلبجة.

وحسب أحمد، يعد الحشيش والكريستال الأكثر تداولا في إيران كما العراق، مشيرا إلى وجود مختبرات خاصة في إيران للهيروين والحشيش القادمين من أفغانستان، والتي تعد مصدرا مهما للمخدرات على مستوى العالم.

من جهته، يؤكد ضابط برتبة رائد في وزارة الداخلية العراقية تحدثنا معه واشترط عدم ذكر اسمه أن الهيروين والحشيش اللذين ينتشران بمدن كردستان هما ذات النوعية التي تجدها في وسط وجنوبي العراق والتي تدخل من إيران عبر محافظتي ميسان والبصرة، أما الكبتاغون وبعض المؤثرات العقلية الأخرى فتنتشر في غرب ووسط العراق وتدخل من سوريا عبر محافظة الأنبار.

حملة لإحراق المخدرات المصادرة بإقليم كردستان العراق
عملية إحراق للمخدرات المصادرة بإقليم كردستان العراق (الجزيرة)
قوانين غير رادعة
وبحسب تقارير حكومية، كان العراق قبل عام 2003 شبه خال من المخدرات، وكانت القوانين تنص على تنفيذ عقوبة الإعدام بحق من يثبت اتجاره بها أو تعاطيه لها، لكن المعطيات تغيرت تماما بعد ذلك مع الانفلات الأمني على الحدود وتعطيل تنفيذ القوانين الزجرية، مما سمح بدخول المخدرات وتفشي الاتجار فيها.

ويقول عضو سابق في لجنة الأمن والدفاع بمجلس النواب -طلب عدم ذكر اسمه- إن الإجراءات الحكومية لمواجهة الظاهرة الجديدة كانت خجولة لغاية العام 2017 حين صدّق مجلس النواب العراقي على قانون مكافحة المخدرات رقم 50 الذي قضى بتشكيل مديرية مكافحة المخدرات في وزارة الداخلية.

وحدد القانون مهام المديرية بمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية وجرائم التعاطي والاتجار بها ونشر الوعي بمخاطرها، وذلك من خلال التعاون مع الأجهزة الأمنية والتواصل مع دول الجوار للحد من عمليات تهريب المخدرات، والوصول إلى المهربين والأشخاص الذين يرتبطون بهم.

ويصنف قانون مكافحة المخدرات الأطراف المتورطة “متعاطين وتجارا”، ويُحاكم المتعاطون عادة وفق المادة 32 التي تنص على حبسهم بين سنة و3 سنوات مع دفع غرامة مقدارها 5 ملايين دينار (3400 دولار)، وفي حال عدم دفع المدان المبلغ تمدد العقوبة 6 أشهر إضافية.

أما عقوبة المتاجرة فتخضع للمادة 28 التي تقضي بالسجن بين 5 سنوات والسجن المؤبد (مدى الحياة) مع دفع غرامة تبدأ بـ10 ملايين دينار (6800 دولار) وصولا إلى 30 مليون دينار (10 آلاف و200 دولار).

وتشمل المادة 27 العقوبات من المؤبد إلى الإعدام لمن يستورد المواد المخدرة أو يصدّرها.

وكان برلمان إقليم كردستان العراق قد صدق على قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية رقم (1) لسنة 2020.

وداخل الإقليم يتم إيداع المدانين بالتعاطي والمتاجرة في نوعين من السجون، يتبع الأول مديرية الأمن (الأسايش) التي تتبع بدورها وزارة الداخلية، ويتبع الآخر مديرية الإصلاح التي تتبع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.

ويؤكد اللواء المتقاعد حسن نوري -وهو مدير سابق لمديرية أمن محافظة السليمانية وشغل المنصب لنحو 14 عاما-، عدم جدوى القوانين الحالية لمكافحة المخدرات “لكونها غير رادعة بالقدر الكافي”، ويطالب بسن قوانين جديدة أكثر حزما.

ويرى أن وضع متعاطي المخدرات في السجن “لم يأتِ بنتائج إيجابية طوال السنوات الماضية”، مقترحا إدخال المتعاطين في مستشفيات خاصة “ليتلقوا العلاج بأيدي متخصصين في الصحة النفسية، والعمل على تثقيفهم لإعادتهم أفرادا صالحين إلى المجتمع بدلا من سجنهم”.

معد التحقيق خلال لقائه كويستان محمد وزيرة العمل والشؤون الاجتماعية في حكومة إقليم كردستان العراق (الجزيرة)
السجون.. بؤر استهلاك وتجارة
على الرغم من الإجراءات الأمنية المشددة المعتمدة في سجون الإصلاح -ومن ضمنها وجود أجهزة السونار لفحص الزائرين والموظفين أثناء دخولهم- فإن المخدرات تدخلها بطرق مختلفة، حيث يبقى التعاطي والترويج مستمرين في السجون.

وتقر وزيرة العمل والشؤون الاجتماعية في حكومة إقليم كردستان العراق كويستان محمد في حديث لمعد التحقيق بانتشار المخدرات داخل السجون والاتجار بها في السنوات السابقة وتقول “بعض السجون تحولت إلى بيئة خصبة لتجارة وتعاطي المخدرات، والكثير من السجناء المحكومين بقضايا غير المخدرات يخرجون بعد أن يصبحوا متعاطين لها أو تجارا يبيعونها أو يروجون لها”.

وأضافت “في مرحلة سابقة تطور الأمر إلى حد استخدام مسيّرات (درون) لنقل المخدرات إلى مافيات بين قاعات السجن”، كاشفة عن ضبط مسيّرة حاولت في إحدى المرات إدخال كمية من المخدرات إلى السجن.

وأكدت أن وزارتها اتخذت إجراءات مشددة لوقف تلك الحالات، كما كشفت عن حالات أخرى غريبة في السجون تظهر سطوة ونفوذ بعض المعتقلين وإمكانية قيامهم بأشياء كثيرة خارج القانون.

وتقول “اكتشفت خلال زيارة ميدانية لأحد السجون وجود أماكن “في آي بي” مخصصة لمافيات وأخرى بمواصفات مماثلة جرت فيها أفعال “لا أخلاقية”، على حد وصفها.

وتشير إلى أن “الخدمات المقدمة في تلك الأماكن مختلفة تماما، خصوصا وجبات الطعام، إذ كانوا يفطرون في كل صباح القيمر والخبز الساخن، ويتناولون الكبة والكباب وغيرهما من الأطعمة”، في إشارة منها إلى أن الخدمات المقدمة لهؤلاء كانت توازي ما تقدمه الفنادق الفخمة.

وتضيف الوزيرة أنها عندما واجهت مدير السجن بإنهاء تلك الحالة رد بالقول مع كثير من الذعر “أعتذر، لا أستطيع تنفيذ التعليمات، أخاف أن يخطفوا أطفالي خارج السجن فهؤلاء مافيات كبيرة”.

ووسط كل تلك التحديات تشكو الوزيرة من كون السجون تتبع وزارتها، فكل سجون الإصلاح في جميع بلدان العالم ومن ضمنها العراق -بحسبها- تتبع وزارة العدل، لكنها في كردستان تتبع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وهذا يعيق عملنا ويثقله كثيرا، على حد قولها.

ما أسباب انتشار ظاهرة المخدرات بالعراق؟
تجارة المخدرات انتشرت بشكل كبير في إقليم كردستان العراق خلال السنوات الماضية وفق الإحصاءات (الجزيرة)
من جانبه، يقول مستشار وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في حكومة الإقليم الدكتور صلاح أنور إن الإجراءات التي اتخذت مؤخرا لضبط السجون ومنع إدخال المخدرات إليها بالاعتماد على أجهزة فحص ومراقبة متطورة “ساهمت إلى حد كبير في إيقاف تمدد حالات التعاطي والتجارة داخل السجون وبنسبة كبيرة جدا”.

ويوافقه الرأي مسؤول في سجون الإصلاح -رفض ذكر اسمه في التحقيق- قائلا “إن جهود مكافحة إدخال المخدرات إلى سجون أربيل ودهوك كانت ناجحة بنسبة 95%، وفي السليمانية بنسبة 80%، لكن الحملة التي جرت بإبدال الأطقم الإدارية من مديرين وموظفين في نهاية عام 2021 رفعت تلك النسب في جميع السجون حتى وصلت إلى 100%”.

ويقر المسؤول ذاته بأن عمليات المكافحة معقدة جدا “لأن مافيات المخدرات داخل السجون تبتكر أساليب وطرقا لا تخطر على البال لإدخال المخدرات وبمساعدة أقرباء لهم”.

وبيّن أن المخدرات “توضع في الأعضاء التناسلية للنساء لتمرر للسجناء خلال الزيارات، وتم ضبط حالات تهريب من خلال ربط بعض الزائرين بضعة غرامات من المخدرات بخيوط دقيقة إلى أسنانهم بعد وضعها في أكياس بلاستيكية يتم ابتلاعها، ومن ثم يسحبونها أثناء الزيارات”.

من معبر إلى مركز
لم يكن المجتمع الكردي في العراق يعرف المخدرات قبل تسعينيات القرن الماضي، وكان عدد المتعاطين ضئيلا بحسب مصادر رسمية، لكن الأمور تغيرت بعد انتفاضة 1991 وانهيار الرقابة الأمنية على الحدود.

وتشير الإحصاءات إلى أن حالات التعاطي ارتفعت تدريجيا، ففي عام 2006 سجل اعتقال 30 شخصا بتهمة التعاطي أو الاتجار بالمخدرات بعموم كردستان العراق، وفي العام 2011 ارتفع الرقم إلى 88 شخصا، لتتضاعف الحالات وتشهد قفزات كبيرة في العام 2016 حيث ألقي القبض على 508 أشخاص، ووصل الرقم عام 2021 إلى 1943 شخصا، وفي الأشهر الستة الأولى من العام 2022 اعتقل 1251 شخصا.

ويكشف ضابط رفيع في مديرية أمن السليمانية عن اعتقال 408 متهمين بتعاطي وتجارة المخدرات في المحافظة عام 2022، بينهم 80 تاجرا، و328 متعاطيا، منهم 51 أجنبيا، فيما يقدر ضابط آخر مختص بمكافحة المخدرات في أربيل أن عدد المعتقلين بتهم التعاطي والتجارة عام 2022 بلغ نحو 2500 متهم في محافظتي أربيل ودهوك.

وتقدر إحصائيات حصلنا عليها من مسؤول كبير في إحدى الوزارات بحكومة الإقليم -رفض الكشف عن هويته لحساسية موقعه- أعداد المتعاطين بأكثر من 75 ألف شخص، أغلبيتهم من الفئة العمرية بين 18و64 سنة، بينهم نحو 23% من النساء.

من جهته، كشف منسق التوصيات الدولية في حكومة كردستان ديندار زيباري عن أرقام مماثلة، وأكد إدانة أكثر من 1100 تاجر ومتعاطٍ خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2022، تم إيداع 985 منهم في سجون الإصلاح، من بينهم 231 تاجرا بالمخدرات والمؤثرات العقلية، و704 من المتعاطين.

وبحسب زيباري، فإن الموقع الجغرافي للإقليم جعله معبرا للمخدرات عبر حدود دول الجوار، مما أدى إلى ارتفاع عدد المدمنين فيه، مشيرا إلى أن 3 آلاف شخص اعتقلوا في قضايا متعلقة بالمخدرات بين عامي 2019 و2020.

ووفقا لمصدر مسؤول في وزارة العدل العراقية، بلغ عدد المحكومين والموقوفين بجرائم مختلفة نحو 60 ألف شخص -عدا اقليم كردستان- حتى نهاية عام 2022 -بينهم نحو 1500 امرأة- يتوزعون على 30 سجنا في البلاد، نحو 40% منهم من المحكومين والموقوفين بتهم تعاطي وتجارة المخدرات.

تهريب مخدرات
مهربو مخدرات تم القبض عليهم (الجزيرة)
وفي هذا السياق، يقول شيروان أحمد -وهو محام مطلع على قضايا المخدرات- إنه مع التقديرات التي تشير إلى أن أكثر من ربع المعتقلين هم تجار فإننا أمام حقيقة أن مدن الإقليم باتت تغص بمئات المتاجرين بالمواد المخدرة، مما يشكل -بحسبه- تهديدا هائلا للمجتمع.

ويبدو المشهد في المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة العراقية مماثلا وربما أكثر تعقيدا، وهو ما أكده وزير الداخلية العراقي السابق عثمان الغانمي في حوار تلفزيوني في أكتوبر/تشرين الأول 2020 حين قال إن 50% من الشباب بالعراق يتعاطون المخدرات.

ويبدي ناشطون ومسؤولون معنيون بملف المخدرات شكوكهم بشأن إمكانية الانتصار في حرب العراق ضد المخدرات التي تتداخل فيها الشبكات المحلية مع الإقليمية، وفي ظل وقائع تشير إلى وجود أفراد فوق القانون في شبكات التهريب والترويج تلك واتهامات لأشخاص نافذين في أحزاب ومليشيات بتسهيل عمليات التهريب أو عرقلة اعتقال كبار التجار.

وفي مطلع العام 2022 أصدر الرئيس العراقي السابق برهم صالح عفوا رئاسيا عن المدان بتجارة المخدرات (جواد لؤي جواد الياسري) -وهو ابن مسؤول كبير في الدولة- مع عدد آخر من المدانين الذين صدرت أحكام قضائية بحقهم من محكمة الكرخ، وذلك بناء على توصية مقدمة من الأمانة العامة لمجلس الوزراء.

وسمح العفو الخاص الصادر بخروجهم من السجن، مما أثار ردود فعل واسعة في البلاد بشأن إفلات المجرمين من العقاب حتى في الجرائم الكبرى كالمتعلقة بتجارة المخدرات طالما كانوا محميين من قوى السلطة الحاكمة.

وتتكرر قصص الإفلات من العقاب، ففي العام 2020 وخلال فترة تفشي جائحة كورونا أطاحت الأجهزة الاستخباراتية العراقية بعد عملية معقدة بأحد كبار تجار المخدرات بمحافظة نينوى (د. م) مع 6 من المتعاونين معه، بينهم شخص يحمل الجنسية التركية.

وبحسب مصدر رفيع في شرطة نينوى، فإن التاجر الموقوف كردي من محافظة دهوك، ويحمل رتبة عليا في أحد الأجهزة الأمنية الكردية، وكان يدخل المخدرات إلى نينوى بالتنسيق مع تجار عرب يروجون لها.

وبعد الاعتقال بنحو عامين روجت مصادر أمنية أن التاجر الكردي الموقوف بات طليقا عقب صفقة كبيرة لم توضح تفاصيلها.

ويظهر فيديو حصل عليه معد التحقيق -دون التأكد من تاريخ تسجيله ومكانه- الضابط التاجر لحظة استقباله بترحاب واضح من قبل مجموعة من الأشخاص.

ضابط كبير آخر في شرطة نينوى -رفض الكشف عن اسمه- أكد متابعتهم العديد من تجار المخدرات الذين يعملون على إدخالها إلى مدن المحافظة، مشيرا إلى أنهم رصدوا انتشارا كبيرا للمخدرات في بعض المناطق، وتحديدا في حي الانتصار الشعبي.

وأكد الضابط تعدد منافذ التهريب -خاصة من مدينة أربيل إلى الموصل- عبر تاجرة تدعى “زينب” بمساعدة زوجها “آراس”، مشيرا إلى أن مصدرها الأول هو إيران.

تجارة المخدرات.. خطر يهدد أمن إقليم كردستان العراق
تجارة المخدرات أصبحت خطرا يهدد أمن إقليم كردستان العراق وفق بيانات المصادر الأمنية (الجزيرة)
من جهته، يوضح ضابط كبير آخر أشرف على العديد من ملفات المتهمين بتجارة المخدرات في بغداد أن المهربين باتوا يستخدمون طرقا غير تقليدية للتهريب كالطائرات المسيرة التي تستطيع بعضها حمل بين 20 و30 كيلوغراما، والبعض يستخدم طائرات شراعية في التهريب، مبينا أن إحداها أسقطت في البصرة في يونيو/حزيران 2022 وكانت تحمل مليون حبة كبتاغون.

في إقليم كردستان العراق أبلغنا مسؤول إداري في نقطة حدودية مع إيران أن التهريب ينشط في المناطق الجبلية من خلال الحمالين الذين يعبرون الحدود مشيا لساعات عبر قمم وأودية جبلية وعرة ومزروعة بالألغام، حاملين بضاعتهم التي يضعونها أحيانا داخل أجهزة كهربائية أو مواد منزلية.

ويوضح المسؤول أن التجار يبتكرون أساليب مختلفة لتهريب المخدرات كوضعها داخل لعب أطفال أو علب العصائر أو المفروشات “لكن أخطرها يتمثل بإعادة تدوير (تصنيع) مواد وأدوية طبية منتهية الصلاحية بتحويلها إلى حبوب مخدرة وإرسالها إلى الإقليم”.

وكانت السلطات العراقية قد أحبطت في مارس/آذار 2023 محاولة تهريب أكثر من 3 ملايين حبة مخدرة عبر منفذ القائم الحدودي مع سوريا كانت مخبأة داخل صناديق شحنة فاكهة التفاح.

وقُبض أيضا على مواطن إيراني حاول إدخال 275 غراما من المخدرات إلى كردستان العراق في معبر حاج عمران الحدودي بتاريخ 28 يونيو/حزيران 2022 من خلال وضعها داخل “شرجه”.

ولا تقتصر عمليات التهريب على الحدود الشرقية، فمجلس أمن إقليم كردستان العراق أعلن في يوليو/ تموز 2022 عن ضبط 500 كيلوغرام من المواد المخدرة في أربيل كانت قادمة من محافظة كركوك كانت عبارة عن حبوب مخبأة داخل أجهزة لصنع العصائر.

تفاقم مشكلة تجارة المخدرات وتعاطيها بكردستان العراق
أنواع عديدة من المخدرات تدخل وتروج في إقليم كردستان العراق (الجزيرة)
تفاقم الأزمة وصعوبة الحل
ويعتقد “هاوكار أحمد” (اسم مستعار) -وهو تاجر مخدرات معتقل- بحكم خبرته أن إيران تعد المصدّر الرئيسي للمخدرات المنتشرة في الإقليم، وتأتي في المرتبة الثانية.

ويقول هاوكار (45 عاما) -الذي يقضي حكما بالحبس لـ5 سنوات في سجن دائرة إصلاح الكبار بالسليمانية -أثناء لقاء معد التحقيق معه داخل السجن- إن المخدرات باتت تنتشر بشكل كثيف داخل الجامعات وبين طلبة الأقسام الداخلية وحتى بين عناصر القوات الأمنية.

من جهته، يقضي “دلاور نوري” (33 عاما) حكما بالحبس المشدد لمدة 3 سنوات، وكان قد ترك قضاء رانية ليعمل في السليمانية بمجال البناء، وهناك أدمن على المخدرات، فقبض عليه وسجن ثم أفرج عنه ليعود إلى التعاطي ويلقى القبض عليه مجددا.

ويقول “دلاور” إنه كان يتعاطى في كل جرعة بين غرام إلى غرام ونصف من المخدر، ويبرر عودته للتعاطي باليأس الذي يحيط بحياته مع تبرؤ عائلته منه، ويؤكد تضاعف عدد المتعاطين بسبب “البطالة واليأس من المستقبل”.

وقدر عدد المتعاطين في مدينته رانية (السليمانية) بأكثر من 1800 شخص وبأعداد أكبر في “قلعة دزة” (شمال السليمانية) و”خانقين” (محافظة ديالى قرب على الحدود الإيرانية) و”كلار”(محافظة السليمانية) و”كفري” (محافظة ديالى).

ويضيف دلاور “ما إن تبدأ بالتعاطي حتى تكبر المشكلة، وحين تكتشف ذلك لا تجد أحدا يساعدك، لا مراكز للاستشفاء ولا اهتمام حكوميا، فتجد نفسك في دائرة لا خروج منها، والأخطر حين لا تجد المال لشراء حاجتك فتضطر لدخول حلقة الترويج والبيع أو شبكات الجريمة”.

وتختلف أسعار المخدرات باختلاف أنواعها، إذ يصل سعر الكيلوغرام الواحد من نوع الحشيش إلى 500 دولار، أما الأنواع الأخرى فتبدأ من ألفي دولار وأكثر وفقا للتاجر “ن. ز” (43 سنة) الذي يحمل إقامة بريطانية دائمة، ووقع في قبضة قوات الأمن الكردية في يناير/كانون الثاني 2016 بعد ضبط 890 غراما من المخدرات بحوزته ليحكم عليه بالسجن 16 سنة.

ويكشف سيروان كه ردي المشرف على شبكة “تنسيق المنظمات” في كردستان عن وجود عصابات داخل الجامعات والمدارس تروج للمخدرات بين الشباب عبر بيعها بأسعار منخفضة، ومع إدمانهم عليها يبيعونها بأسعار مضاعفة “إنها طريقتهم المفضلة لزيادة أعداد المتعاطين”.

وينتقد كه ردي عدم وجود أي مراكز لعلاج المدمنين رغم وجود عشرات الآلاف ممن يأملون بتلقي المساعدة، وينبه إلى أن غيابها يفاقم الأزمة أكثر ويظهر أن الإقليم ما زال بعيدا عن أي خطة متكاملة لمواجهة انتشار المخدرات في ظل تزايد عدد متعاطيها شهرا بعد آخر، لتُغرق مزيدا من الشباب وعوائلهم في الفشل واليأس والإدمان.

أنجز التحقيق بدعم وإشراف الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية (نيريج)

نقلا عن الجزيرة

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار