المحلية

مات المعلم الفلسطيني

هادي جلو مرعي:-
الى الشرق غير بعيد عن مركز العاصمة العراقية بغداد تعيش أسر فلسطينية بعيدا عن الوطن الأم الذي ترنو العيون والقلوب إليه على أمل العودة في يوم ما، ومرت الأيام، وكبر الأولاد، وتغيرت المعادلة على الأرض، وصار لزاما على المبعدين قسرا عن وطنهم أن يتأقلموا مع الواقع الجديد، فالعودة ماتزال بعيدة، وجذوة الشوق التي تأكل الأرواح المعذبة لم تخمد، وإذا مارحل جيل فإن جيلا جديدا سينمو مثل أشجار الزيتون، وتخضر أوراقه، وتعصر زيت الوجدان منه السنين ليسيل بلاهوادة.
في منطقة المشتل القريبة من شقق حيفا بمنطقة البلديات شرق بغداد، وفجأة وقعت عيناي على وجه مألوف، لكنه بعيد، كان وجه أستاذي في الثانوية مطلع الثمانينيات (جمال) تمسك بيده سيدة، وكان يتنفس بصعوبة، ويسير متكئا عليها، ولم أتمالك نفسي، فأسرعت نحوه مسلما، وكنت أعلم أنه لن يتذكرني فهو مريض للغاية، ولايبدو أن ذاكرته تسعفه ليعود لتذكر وجوه طلابه في الثانوية، كلمته، وتمنيت لو طلب مني شيئا، لكنه شكرني، وهو يتكلم بصعوبة بالغة، وتركته ومضيت حزينا باحثا عن المزيد من الذكريات.
في العام 1983 وحين دخلت الثانوية، كانت ساحة كرة القدم متربة، وكان الغبار يتطاير من بين أقدام اللاعبين، وكان الأستاذ خليل والاستاذ جمال يقفان جانبا وهما يتحدثان، والإبتسامة بادية على وجهيهما، وكانا يتحدثان عن الموسم الدراسي الجديد. كان خليل مدرسا للغة الإنجليزية، وجمال مدرسا لمادة الفيزياء، ومن حسن الحظ أني تلقيت تعليما ممتازا على يديهما، وكان خليل رحمه الله مرحا ومشاكسا، وكان يتعامل مع طلابه بحرص بالغ، وبقسوة، وأتذكر أنه جمع طلاب اللغة الإنجليزية في قاعة المختبر، وطرح عليهم سؤالا لم يعرفوا الإجابة عليه، والوحيد الذي طلب الإجابة شقيقي مهدي، وكان الأستاذ خليل يعلم أن مهديا هو الوحيد الذي يعرف الإجابة، وقرر الخروج الى غرفة المدير لجلب عصا، وقال لمهدي بالحرف: حين أعود بالعصا سأعيد طرح السؤال، فإذا رفع طالب عداك يده فسأسامح الجميع وأضربك بالعصا، وكان الطلاب يتوسلون بمهدي لعله يسعفهم بالإجابة، لكنه أعاد عليهم كلام الأستاذ خليل
سمعت بعد سنوات إن الأستاذ خليل قد مات، وغادر المدرسون كما غادرنا، وبقيت الذكريات تحتل رؤوسنا، وتنطبع فيها، وبينما كان خليل يعاقب طلابه الذين حقق العديد منهم على يديه علامات كاملة، ومنهم شقيقي مهدي الذي حصل على الدكتوراه في الهندسة من أرقى الجامعات العالمية، ويحتل منصبا مرموقا، كان جمال أكثر هدوءا، وأقل صخبا. قبل أيام، وعندما كنت أزور أستاذي محمود أبو الهيجاء في فندق المنصور ببغداد سألت الصديق رائد وهو موظف في سفارة دولة فلسطين عن بعض الأسماء الفلسطينية فأخبرني إن الأستاذ جمال قد مات منذ شهور قليلة.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار