المحليةمنوعات

كتب الدكتور جبار صبري : إنني أجهل ذاتي

إنني أجهل ذاتي

الدكتور جبار صبري :-
ولأنني كائن متهم بالتصاقي الشديد بأفكاري واعتقاداتي المطلقة أكون قد غيّبت عني تفكيري. وأن ذلك التغييب جعلني لا أرى غيري وأفكاري في مرآة وجودي. ومن هنا أكون قد ألزمت نفسي بالعيش في عامل القطيعة وتبني ذلك العامل مع كلّ آخر. مع المحيط الخارجي الذي أجد في سلبه المطلق عداء مطلق. وهذا يدعوني دائما أن أمرر صورتي في المرآة واحدة خالصة غير مترابطة او متواشجة مع غيرها أبدا.
بالنظر إلى ذاتي صرت أنظر اليوم إلى حقل ملغوم بالتصورات والتفسيرات والأماني والطموحات والتداعيات المكبوتة وأوهام العقل وغيرها. ومع ذلك أنني أجد في تحقيق ذاتي والاعلان عنها دائما بأنها متفوقة. وهذا التفوق يكون سببا ملزما بكره الآخر ورفضه والتخوف منه. بل تشديد إعلامي عنه بأنه العدو الذي يجب قهره. تشديد ايماني بقهره. وهذا التشديد من وجهته الثانية هو التمسك بهويتي. هو تحقيقي لذاتي في هذا العالم.
وهذا كلّه يمتلك وجهة أخرى: وجهة أنني أظل أجهل ذاتي. أظل لا أتميزها معرفة وأداء بينما أجهد في معرفة الآخر. أتميز خصائصه وما انطوى عليه من وجود او هوية او اعتبار او حضور. إلا أنني ولشدة الوضوح والتمسك بي إلى درجة اطفاء كلّ مصابيح القراءة والتحليل والكشف إلي لا أرغب أبدا بالنظر او التعريف بذاتي بقدر ما أعرف وأتميز غيري في السلسلة والنسق. إن الآخر معروف وأن الأنا دائما مجهول. أتصور أنني أعرف عنه كلّ شيء لشدة البداهة التي عاينته فيها إلا أنني بذات الوقت لا أعرف عنه أيّ شيء.
هكذا وصلت إلى الطريق الخاطئة. الطريق الموهومة لأجل تحديد مسار ذاتي او بالأحرى تحديد مسار مفهومي لذاتي. إنني وجدتها ثابتة لا تقبل التغيير. بل ترفض التغيير ووجدت في ثباتها دليلا على وجودها وهويتها. وإن هذا الدليل اكتسب من الهالة والتقديس ما منع عنها كلّ شك او سؤال او تحريض او حتى وهم. وهذا الدليل الصلب ينعكس في الواقع واليومي مع الآخر بمزيد من كره الآخر وبمزيد من قمعه لأنه الآخر المختلف. الآخر الذي لا يتوافق مع أشراط ذلك الثبات المقدس.
نحن بلغنا إذن، ذاتنا من مورد الثبات في مفهومها لا من مورد التغيير. والفارق كبير بين أن نمضي بهويتنا في عالم متسارع وينمو باطراد بثبات حاد ومغلق وانكفاء لا مراجعة له او أن نمضي على وفق مبدأ التغيير وقبول التعديل والاضافة والمواكبة. إننا ارتضينا أن نمضي بالثبات وهذا الثبات هو الذي يدفعنا كلّ وقت باتجاه انشاء او تكوين الشخص الارهابي فينا. إن الآخر المتغير الذي يجد في التغيير حضوره يجد في التفكير هويته بينما أنا الذي اخترت الثبات أصلا للتعبير عن ذاتي أجد في فكرتي هويتي وهي دليل حضوري. ولمّا كانت فكرتي ثابتة كانت كلّ أشكال سلوكي في هذا العالم متوافقة مع ذلك الثبات في فكرتي.
في ضوء ما توارد أعلاه نتميز ذاتنا في تشكيل مفهومها من محاور أهمها:
– إننا ندرك ذاتنا كما هي خالية من الأوهام والطموحات والأماني والتصورات او الافتراضات التي نتمنى أن تكون عليها. بل ندركها كما هي في مجمل أبعادها: الجسمية او القيمية والدور الذي تلعبه كعامل وظيفي في محيطها. هذه الذات التي تتمثل الواقع وما يصدق من مفهومها في هذا الواقع تكاد أن تكون نادرة في مجتمعاتنا. إن ذواتنا طافحة بسلسلة متداخلة من الأوهام والتصورات والتفسيرات والأماني.. وهذا بدوره يشكل خطورة عليها إذ هي تعيش بجسمها داخل الواقع ترفض ذلك العيش بفكرها. وهي بذلك تعيش حالة من الانفصام بين العقيدة وبين صدق الواقع المتجاوز لتلك العقيدة او المفارق لها.
– تمرّ أحيانا لحظات او مواقف او تصورات عابرة تتشكل كقيمة او اعتقاد وهي تتبلور كهوية ولكنها لا تستقر بل تزول بعد طارئ مغاير وعابر آخر. إن هذه الهوية المؤقتة لا تصمد. لا تستطيع أن تستقر في المخيال لتصبح جزء أصيلا من مفهوم الذات. ولأننا أمة غير ملزمة ببلوغ مفهوم الهوية على فرض التغيير الزمنا أنفسنا أن نتجاوز ذلك العابر من ادراك او تشكيل طارئ لمفهوم الذات والذي سرعان ما يتبخر ولا يبقى منه أي أثر.
– إن كثيرا من ذاتي أجدها فيما هي تصوير اجتماعي. ما أتأثر وما يؤثر بي في محيطي الاجتماعي. إن مقدار التعايش الاجتماعي الذي أنا عليه هو مقدار ما يكون عليه مفهوم وتعريف ذاتي. المجتمع في تقدير تفاعلاتي معه يفصح عن تعريف هويتي به.
– لكنني أعاني من أن أنا ليس أنا: أنا مجرد كلّ تلك التصورات القبلية وتلك الصورة التي تأطرت بها من خلال سلسلة الاعتقادات والتفسيرات والطموحات والأوهام والمطمرات وغيرها. أنا أعيش ليس بذاتي بقدر ما أعيش بقدر تلك الصورة المنمطة والقارّة في ضميري. إذن، أن ذاتي ليس هي ذاتي بقدر ما هي الصورة المثالية التي رسمتها لي وكانت تلك الصورة سببا لتوجيهي وتوجيه سلوكي. أنا كلّ ذلك المفهوم الذي ارتضيته لنفسي من أجل تعريف وتحديد وأداء ذاتي.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار