المحلية

التوارث الديني والعقل: بين النعمة والابتلاء

رباب طلال مدلول

منذ القدم، كانت المجتمعات البشرية محدودة العدد، حيث لم تكن الأرض تعج بالمليارات كما هي الحال اليوم، لم يكن هناك إنترنت، ولا ملايين الكتب والصحف والمجلات، ولا حتى القنوات التلفزيونية التي تتنافس على تقديم المحتوى السطحي، كانت المجتمعات بسيطة ومنغلقة، ولكن في ذات الوقت، كانت تلك العصور تزخر بالرسل والأنبياء والمفكرين العظماء والمعجزات التي كانت تشهد للعقل البشري وتغذيه، كل شيء كان يحمل قيمة ومعنى، الأفكار، الكتب، القصائد، اللوحات، كانت جميعها تعبر عن شيء أكبر وأعمق من مجرد كلمات أو صور، كانت تعكس جهد الإنسان في البحث عن الحقيقة.
أما الآن، ومع التضخم السكاني الهائل والتقدم التقني، يبدو أن الأفكار تقلصت وانحدرت، وكأن البشر قد أصبحوا كالبهائم، لا يهتمون إلا بما سيأكلون على العشاء وماذا سيرتدون غداً، أحلامنا تقلصت وأفكارنا أصبحت هشة، وكأننا فقدنا قيمتنا كأفراد وكأمم، بتنا نتوارث الجهل والفقر، وكلما تضخم تعداد سكان العالم، وكلما تراكمت ديوننا لدى المصارف، وكلما ازداد عدد مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي، زاد الجهل والسطحية، إنها علاقة طردية بين التقدم المادي والتراجع الفكري.
نتقدم في الزمن ونتراجع في الثقافة والفكر، وما يحدث اليوم في المجتمعات العربية الإسلامية، وخصوصاً بين فئة الشباب من سن 20 إلى 35، هو أكبر دليل على هذا التراجع، قبل فترة وجيزة، نشرت على إحدى صفحاتي في مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يتناول موضوع التوارث الديني، فإذا بالتعليقات تفيض بالجهل والتعصب، هناك من يقول أن الإسلام نعمة، وهناك من يقول أن الله هو الذي يختار من يكون مسلماً ومن يكون كافراً، وهناك من يسخر من الأديان جميعها ويصفها بالسخيفة، وآخرون يتهمون الإسلام بأنه دين الإرهاب ولا خير فيه، ومن بين هؤلاء، عدد قليل فقط بحث وفكر ووصل إلى الحقيقة، أما الغالبية العظمى من معتنقي الإسلام، فهم جهلة لا يفقهون شيئاً من دينهم، وإذا سُئلوا لماذا هم مسلمون؟ يكون جوابهم: “هذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا”، كما قال الله تعالى في القرآن: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا” (البقرة: 170)، وهذا للأسف حال كثيرين ممن لم يفكروا بجدية في دينهم.
عندما يتم سؤال هؤلاء الناس: كيف عرفتم أن الإسلام هو الدين الحق؟ لا يملكون جواباً واضحاً، بل يلجأون إلى اتهام السائل بالكفر والإلحاد، هل أنكر حقيقة ان الأسلام هو دين الحق؟ قطعاً لا، لكن كيف توصلوا إلى هذه الحقيقة؟ لماذا يعتقدون أن وراثة الدين دون البحث والتفكير هي الحقيقة المطلقة؟
أتساءل كيف يمكن للبشر أن يتمسكوا بشيء لهذا الحد دون أن يعلموا حقيقته كاملة، دون أن يبحثوا ويتيقنوا تماماً من صحة ما ينتمون إليه؟ وما هي النعمة في أن تولد مسلماً؟ في حقيقة الأمر، أرى أن ذلك قد يكون ابتلاءً من نوع آخر، لأنك إذا ولدت مسلماً، فإن هذه فرصة عظيمة للبحث والمعرفة والمقارنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” لأن الإنسان بطبيعته مطالب بأن يتعلم ويبحث، وألا يتبع الدين فقط لأنه وجد أهله عليه، وهذا هو الابتلاء الحقيقي، فالمسلم الذي يولد في بيئة مسلمة يجب عليه أن يتعلم ويعرف دينه عن يقين، ولا يتبع ما ورثه بشكل أعمى.
من المفترض أن يكون المسلم أكثر معرفة ووعياً بما يحرم عليه وما يحل له، لكن بطريقة ما نجد أن جميع المسلمين يرتكبون الأخطاء، وجميعهم يخطئون ولا يتعلمون من أخطائهم، والإسلام نفسه يدعو إلى التعلم من الأخطاء، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون”، فالأخطاء ليست ممنوعة، بل هي وسيلة للتعلم، ولكن المشكلة تكمن في تكرارها دون تعلم.
أين المنطق في أن الله يختار من يولد مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يعاقب الله غير المسلمين على شركهم أو كفرهم؟
هناك من يقول إننا كنا في عالم قبل أن نخلق يسمى بعالم الروح أو عالم الذر، وهناك أقسمنا على الإيمان بالله والتوحيد، ولكن لا أعتقد أن هذا الكلام يدخل ضمن حدود المنطق، الله خلقنا لنفكر ونتعلم من أخطاء السابقين ونقارن بين الأديان، ونتبع صوت المنطق والعقل لأنه هو الحق، قال الله تعالى: “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”(الرعد: 3).
بالنسبة لي شخصياً، اخترت الإسلام ولم أرثه من أبي، بحثت وقرأت وقارنت واتبعت صوت المنطق والعلم، ورأيت أن العلم والإسلام وجهان لعملة واحدة، كلاهما يفسر أحدهما الآخر، وكلاهما يثبت أحدهما الآخر، فلا العلم ينكر الإسلام، ولا الإسلام ينكر العلم، قال الله تعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” (العلق: 1)، وهذه أولى كلمات الوحي، التي تؤكد أهمية العلم والمعرفة، والحمد لله على نعمة العقل.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار