الثقافيةالمحليةمنوعات

ازمة الخطاب الاكاديمي

الدكتور جبار صبري:-
بمقولة: ان الخطاب تأثير ، نحدد جدوى ذلك الخطاب ومحور هدفه الرئيس الذي ينطلق سهمه. انه تأثير على نحو عام مثلما هو تأثير على نحو خاص: يكون العام قد شمل مجتمعا او اكثر بدالة تبني ذلك المجتمع متعاليات ذلك الخطاب وتحويلها الى صور ذهنية تقر في تفكيره وجعل تلك الصور جملة من القيم العليا التي توجّه سلوكه اليومي والمهني والحياتي والمعرفي وغيرها. توجّه المجتمعات لتؤطر سلوكها وافكارها بنسق تداولي يصير فيما بعد نظاما لها في كل خطواتها. بل يصير اثرا في التداول: تداول تلك المجتمعات التي تحفظ التأثير ثم تجعل منه اثرا مباشرا في الفعل والتفكير بكل واقع معيش اداء وقيمة. ويكون الخاص وهو ما قرّ في الفرد وتمتع به ذلك الفرد وتطوق بنسق ما تبنى من قيمة ذلك التأثير حتى اخذ اهتمامه في التبني وتعاطي ذلك الخطاب سلوكا وتفكيرا.
الخطاب معنى تضاعف حد التجلي في اذهان المجتمعات او الافراد على شكل قيمة عليا. معنى تعاظم لدرجة انه استحوذ على تفكير وطريقة تفكير وتوجيه الافراد والمجتمعات. معنى تعالى من اتفاقه الفردي والعادي الى الجمعي والنوعي. معنى بلغ في حده الجزئي ليكون حدا كليا. يكون حدا يستحوذ على وجدان وفكر الفرد والمجتمع على حد سواء. وهذا الاستحواذ يأخذ فضاء في التداول الجمعي دائما، فضاء مغلقا لا مفتوحا اذ يحيط الفرد والمجتمع احاطة كلية ليؤمن به ايمانا تاما وهذا الايمان هو تجلي ذلك المعنى المضاعف فيتحول الى اعتقاد مغلق..
يندفع التأثير ابتداء وينتهي في التداول على شكل اثر. نحن سلسلة اثار لخطاب ما. سلسلة ظاهرة لقيمة باطنة. سلسلة نراها في كل اشارة واداء وفعل لكنها مغطاة بفكرة ما. تلك الفكرة التي كانت تحرض سلوكنا لرسم اثر في اليومي والحياتي والمهني والمعرفي والاجتماعي.. فكرة ممتلئة جدا حتى اتخذنا منها اعتقادا دافعا وموجها لكل سلوك وتفكير وطريقة اداء. هكذا نحن مجرد اثر لذلك التاثير الذي بلغنا عن طريق تبني خطاب ما.
ولكي نكتشف حدوث الخطاب فينا علينا اولا ان نكتشف معمل انتاجه. لكي نعي تواجد الخطاب لابد ان نعي تكوين ذلك الخطاب. وبافتراض اولي للمعمل يمكننا تعيين ادواته على نحو:
* الذاكرة
وهي مستقر لخزن المعلومات السابقة والتي تقر في صندوق الذاكرة بما يمكن استدعاءه لاحقا لتوجيه السلوك او التفكير. هنا الذاكرة ابنة الماضي وذلك على اعتبار كل المعلومات المخزونة هي معلومات الماضي والتي تم الاتفاق والتداول عليها مسبقا.
* ماكنة التفكير
وهي ماكنة يتم تشغيلها الآن، في اللحظة الحاضرة. وذلك على فرض ان الماكنة تتحرك على وفق معطيات الان سواء كانت تلك المعطيات من الماضي والتي يتم استدعاءها من الذاكرة او من المستقبل وبما تمنحنا المخيلة من فرضيات لا مصداق لها بالحاضر وتحاول ماكنة التفكير ايجاد منطق لها وجعلها مقبولة.
* المخيلة
وهي جهاز زماني لعوب يقدم لنا فرضيات اعلى من الواقع وغير مقبولة ابتداء وذات نزعة غرائبية ولا يمكن تصديقها مالم تنزل تلك الفرضيات الى الماكنة: ماكنة التفكير والتي تعمل على اعادة ضبط تلك الفرضيات بمنطق واقعي يقبل القياس والتكرار ليكون متداولا على نحو جمعي بعد اذ خرج من فرن فردي.
ولأننا قلنا ان الخطاب قيمة عليا. اذن، يمكن تبيان ان الخطاب مجموع الصور الذهنية التي ارتفعت قيمتها من ارتفاع وتعالي معناها. وهذا يحدث داخل الذهن في المعمل الانتاجي لكل التصورات وهو المعمل الثلاثي في ابعاده كما تبين اعلاه.
ما نلحظ اننا اليوم سواء كان الخطاب اكاديميا او اجتماعيا او سياسيا او اعلاميا.. اننا نقر على طرف الماضي من التداول على نحو واسع وبالتالي ان مجمل الصور الذهنية التي نتمثلها في الواقع المعيش انما هي صور تقليدية راسبة في التذكر والذاكرة وهي مجرد زخم معلومات وحسب.
في اروقة المعرفة: سواء في التربية او التعليم او المجتمع عموما نلحظ ان التداول يغلب عليه طابع التذكر والتذكير وهذا ما يحدث في الجامعات اذ تعد اعادة وتكرار ما موجود في الذاكرة من معلومات اصلا للتأثير في مجتمع المتعلمين. ان الدرس الاكاديمي تحيط به الذاكرة بانيابها الآسنة لتأكل به ذهن وزمن وحيوات المتعلمين. لذلك نلحظ ان التلقين سببا فاعلا في الدرس. ان الحفظ اساس بلوغ الدرس ومنتهى وجوده. وهذا الحفظ بالتذكير مجال صنع القيمة بل مجال اعتبارها معنى مضاعف يتشكل منه الخطاب ويصير نموذجا موجها لكل تفكير او سلوك.
من هنا ان الخطاب برمته قد استبعد عنه الحاضر/ ماكنة التفكير واستبعد عنه المستقبل/ جهاز المخيلة. بالتالي اسقط عن الذهن كل تصور يحدث الان او تصور سيحدث لاحقا ونكص بنفسه في تصور ماضوي وحسب.
هذا يعني اغلاق باب انتاج تصورات قيمية تتناسب ومستجدات العصر. تتناسب وتغيرات الحياة معرفة واداء ومجال تحول. بل ابقاء القيمة الراسبة في عصر ما انها العليا وانها لا تتبدل وانها كل تصورات الذهن وان الذهن لا ينبغي له تجديد معنى ما وبلوغ تصور آخر غير ما وقع عليه وجعله فريسة له.
وبلغة التناظر بين الدماغ البشري الذي يصنع القيمة العليا في توجيه السلوك والتفكير وبين الدماغ الجامعي الذي يصنع قيمته العليا ايضا في توجيه المعرفة وتدبرها نلحظ ان تصورات الدماغ الجامعي هي ايضا نتاج تركيبته وهذه التركيبة تتوافر على:
* نظام معرفي
وهو علم المعرفة الذي تأطر بنظام. وهذا النظام يعمل على ترسيخ المعرفة في الذهن وترسيخ قيمة تلك المعرفة ايضا. وهذا الترسيخ المزدوج بالنتيجة يؤكد الحق الاخلاقي العام للمعرفة وهو ايضا صورة اعتقاد للكيفية التي يتم فيها تداول المعرفة عبر ذلك النظام.
* حدّ المدرس
* وهو الحامل لذلك النظام من جهة، والذي يتمتع بنقل المعرفة وتبادلها بينه وبين المستفيدين من جهة ثانية.
* حدّ الدرس
وهو الحد الذي يشمل منهاج الدرس ومادته ومقدار الزخم المعرفي او المعلوماتي المتوافر عليه.
ولأن الذاكرة تميزت في تشكيل وجود القيمة وحضورها اصبح العقل الاكاديمي رهينة ادائية بيد الذاكرة ويعبر عن استلابه بها وذلك بسبب طغيان قيمتها العليا في تصوره. الامر الذي بدت فيه مسألة نقل المعلومات وتذكرها مسألة قيمومة النظام عليها. وهذا ما منح الدرس والمدرس فعلا اجرائيا تحدده له القيمة العليا التي كان مصنعها الرئيس: الذاكرة. وبدلا ما يكون المدرس ملهما في توجيه المعلومات وتحديثا كان المدرس آسنا فيها وفي نفسه ومجرد ببغاء يعيد ويكرر المعلومة على انها كل ذلك النظام ومنتهى وجوده.
في ضوء ذلك ايضا يكون النظر الى التكوين المزدوج للدماغ الجامعي على حاصل تأثير وحاصل أثر:
نتبين ذلك من خلال معرفة:
* مدخلات التأثير
وفيها:
– مادية
– بشرية
– انظمة معرفة
* مخرجات الاثر
ومنها:
– صناعة الافكار ( المفاهيم )
– حلحلة المشكلات الاجتماعية الطارئة
– انتاج وتدبر السلع التي تلبي حاجة السوق
لكن تتبع الاثر على انه نتاج قيمة عليا للتأثير الاتي من الدماغ الاكاديمي ينبئنا بخطب عظيم من النتائج المصادق عليها في ارض الواقع، وهي على نحو:
– شحة مفرطة في صناعة المفاهيم
– فشل واضح في حلحلة ادنى المشكلات الاجتماعية.
– عدم القدرة على تلبية حاجة السوق من السلع.
وهذا يمكن تبيان اسبابه من حيث:
١- وضع القيمة على انها نتاج تذكر وذاكرة هو وضع لاسلوب ادارة الدماغ البشري المرادف للدماغ الجامعي.
٢- جعل اداة التلقين اصلا وغاية في ادارة شأن ووجود المجتمع المحلي ومجتمع المعرفة.
٣- تعطيل ماكنة التفكير وسلبها باستمرار يؤدي حتما الى استلاب حاضر المجتمع وحاضر مجتمع المعرفة.
٤- تعطيل جهاز المخيلة هو بالضرورة تعطيل لمستقبل المجتمع ومستقبل مجتمع المعرفة.
٥- بالضرورة سيكون الاستهلاك نمذجة وجود ومعرفة وسوق وعمل..
٦- بالضرورة سيكون الخطاب مركزيا يعتقد بالذكورة والتفوق والتعالي والتراتب بين المجتمع ومجتمع المعرفة..
٧- تتوافر الاصولية والسلفية في السلوك والتفكير طالما ان الماضي اساس زمنية المجتمع ومجتمع المعرفة.
٨- الواقع شيء وتصورات الخطاب الاكاديمي عن الواقع شيء آخر.
٩- ثمة انفصام زمني بين ما يحدث ويتغير حدوثه وما يتوجب مواكبته وبين رسوب التصور الثابت والقار في الماضي.
١٠- موت السؤال في المجتمع ومجتمع المعرفة وتصاعد قيمة الاجابة الجاهزة والثابتة دائما.

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار